في هذا العصر دخل هذا المسلك على باب الأخبار عن المغيبات ومن ثم تبعًا لما يتلازم معه في باب الأسماء والصفات
وصار كل ذلك جزءًا من باب الطبيعيات، فصار تخليق السماوات والأرض على غير مثل سابق وهي نفس الحوادث التي نشأت فيها ما نسميها بالطبيعة، فهذه الحوادث نفسها صارت جزءًا من الطبيعيات، وياليت شعري كيف لمسلم أن يقول أن نشأة الطبيعة نفسها هو حادث داخل في باب الطبيعيات دون أن يتنبه أن هذا قول دهري أساسًا، ثم يرد تفاسير السلف بدعوى أنهم لما فهموا تفسير هذه النصوص لغويا بلا خوض في الكيف قياسا على شيء من المحسوسات فقد كانوا متأثرين بالتخييل اللغوي أي أن الله عز وجل (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) خاطبهم على قدر عقولهم، ونحن الآن أصبح بإمكاننا أن نتأول هذه النصوص الغيبية بناءً على نظريات ما فرضها أصحابها إلا على فرض أن كل الغيب يشبه في الكيفيات والطبائع لما هو في الشاهد.
فنعم نحن نقول أن السلف لم يفهموا الكيفية من إخبار الله تعالى أنه خلق السماوات والأرض من ماء تحت العرش، أبدًا !
فالسلف يفهمون أن ليس كل ما يذكر في الغيب تكون كيفيته كنظيره في الدنيا ولكن يفهمون معنى مجمل (أي أن هناك تحت العرش شيء يصح أن يسمى ماء لكن لا ندري ما الذي يميزه عن الماء المعروف في الدنيا بالطبع) لكن لا نجزم أنه يشبهه ولا ننفي لكننا نجزم أن الغاية التي خلق لها ذاك الماء مخالفة للغاية التي خلق لأجلها الماء المعروف وهذه المخالفة تقتضي شيئًا من المخالفة في الطبيعية بما يلائم الغاية والوظيفة المختلفة ويليق بها.
ومع ذلك فنحن لا نقدر أن نصفه وصفًا دقيقًا ونفوض الكيف.
وهذا الغلط وقع فيه بعض الإخوة من القائلين بأن شكل الأرض قرص وأن هذا مقتضى أن تكون مسطحة فإنهم حصروا التسطيح على كيفية التسطيح المعروفة وحسب وكأنه لا يصح عقلا في جسم ان يكون مسطح ومنبسط إلا على تلك الكيفية ولا يوجد في قدرة الله أي كيفية أخرى، وبعض الناس نفى السطحية بناءً على أنه صار ذلك المفهوم هو مفهومه للسطحية أيضًا فنفى لفظا صريحا في القران توهم فيه معنى فاسد!
ونحن نقول لا تحتاج لتغيير تفسير نصوص السطحية وتأويلها هو الكيفية التي نراها في الأرض فالله عز وجل أشار لشيء محسوس وسماه سطحية فسواء كانت الأرض كرة كبيرة وهي مسطحة على أجزاء ضخمة لها (كرة ضخمة مسطحة على مستوى الأشياء الصغيرة التي تعيش عليها) وهو ذلك المستوى الذي يعيش عليه البشر أو كان شكلها قرص مسطح أو جزيرة صخرية أو ايا كان، كلها يصح لغة أن تسمى مسطحة لأن الكيفية التي سيخلق الله عليها جرمًا يعيش عليه المكلفون ويصح أن يسمى مسطح هو أمر غيبي من حيث الأصل لا يصح قياسه على شيء من صناعات البشر ولا حتى على جهة اللغة! فإن في اللغة هناك فرقا بين مطلق التسطيح أو القدر الكلي المعنوي المشترك وهذا ما يسمى (مآل النصوص)
الذي هو تفسيرها اللغوي المحض الذي لا يقضتي فهم أي كيفية فالكيفية مرجع معرفتها للحس وحسب ولا تعرف بالعقل ولا باللغة!
وبين الكيفية المحددة لها التي تقتضي أن تراها حسا حتى تفهم وجه انطباق المعنى عليها وقد لا تفهم حتى بعد الحس لكن يكون صحة ذلك خبر من علام الغيوب سبحانه!
وخذ هذا المثال:
تخيل أن الله غيّب عنا البرق وفقط نحن نسمع الرعد
وقد جاء في الأثر فعلا أن البرق هو سوط للملك يضرب فيه السحب عندما تصطك وتخرج عن الأمر حتى يضبطها ويزجرها بصوت عالٍ، وهو ما نرى بعض آثاره ونصفه ببعض القوانين اللغوية وهو وصفنا لعادتنا من آثار فعل ذلك المَلك في السحب.
فعلى تلك الطريقة في التفسير فعندما أسمع أن البرق هو سوط الملك فلن أفهم منه إلا كيفية السوط المعروف في الشاهد
فتخيل هنا أن الله كشف لنا حجب الغيب عن شكل البرق فرأينا شكله الغريب الذي لا يشبه أي شيء آخر ولا يشبه اي سوط معروف !
وفعلا يصح أن يسمى سوط لكن كيفيته مختلفة عن أي سوط معروف لنا في الشاهد!
وقل ذلك في سائر المغيبات
الماء الذي تحت العرش، شكل جرم الأرض بالكلية، أجنحة الملائكة، عذاب النار ونعيم الجنة، الميزان، الحوض، أهوال يوم القيامة، أصوات الملائكة، صفات الرب سبحانه وتعالى.
وللأسف على نفس هذه الأصول رأيت بعض الإخوة المسطحين لما شرح مسألة القدر المشترك تخيل كيف شرحها؟
أي والله لا أكذب قال ما هذا نصه:
(تخيل أنك صنعت صنما للإنسان لكن من مادة أخرى، فهو له يد وأنت لك يد، لكن مادتهم مختلفة ولذلك فبينك وبينه قدر مشترك مع أنكم مختلفين في الكيفيات)!!
لماذا؟! لأنه لم يفهم ان القدر المشترك معنوي بل فهم أنني لا أفهم من اليد إلا شكل اليد المعروف عند الإنسان وانتهى، وكذلك لا أفهم من أن الأرض سطحت ووسعت وبسطت في كثير من أجزائها لساكنيها إلا أن هذا قرص.
وأنها لا يمكن أن تكبس على ظهر حوت يشبه الحيتان التي نعرفها بالضرورة على طريقته في فهم النصوص إلا بأن تكون كذلك!
ليس في الغيب إلا ما يشبه الشاهد في الكيفيات!
وكل ما أخبر عنه الله عز وجل في النصوص من المغيبات فأول كيفية تخطر في رأسك هي فعلا كيفيته!
وهؤلاء الإخوة لم يفرقوا بين مبحث المجاز عند أهل السنة وبين مبحث المجاز عند المتكلمين فإن مبحث المجاز أو التجوز اللغوي الذي هو حقيقة مفهومة من السياق هو حق عند أهل السنة إنما المجاز البدعي المبني على نظرية الوضع الأول والذي هو باب للتأويل ليس بالمعنى السني (أي الحقيقة الواقعية للشيء وليس فقط الكلمات المعبرة عنه التي يمكن أن تفهمها دون إدراك الكيفية) إنما هو صرف اللفظ عن (ظاهره) لدليل فلسفي مخترع، فالتأويل عند أهل السنة والمجاز كله لا يخالف الظاهر، والظاهر عندهم هو ما يظهر من النص بناء على القواعد والاصول والجمع بين النصوص وهو الظاهر للعلماء وليس للعامة والدهماء بالضرورة!
وهو ليس اول ما يتبادر لذهن كل أحد جاهلا كان أو عالماً.
والظاهر ليس هو الفهم الحرفي بالطبع ومثال الفهم الحرفي أن أقول لك (أنت على عيني ورأسي) فتقول يا كذاب! أنا لست على عينك ورأسك بل أنا واقف على الأرض!
على أساس أنك هكذا أخذت كلامي على ظاهره!
وطبعا مبحث الكيفية والمعنى لا علاقة له بمبحث المجاز أصلا بل نحن الأن نتكلم عن حقيقة اسم الشيء أنه ادراك معنى الاسم لا يقتضي ادراك حقيقته.
لكن فقط أحببت أن أنبه لهذا الخطأ أيضًا، فقبل الخوض في تفسير القران بل وتفسير كلام السلف نفسه برأسك تعلم أصول التفسير واعكف على ذلك العلم كثيرا (كثيرا جدا).
حتى لا تأتي بالعجائب وتنسبها لظاهر القران الكريم.
وهذه الأصول في مسألة التعامل مع كيفيات الغيبيات هي مشتركة بين المسطحين والأشاعرة والجهمية وغيرهم وهذا وجه تعارض كثير من النصوص عندهم مع المعقول والمحسوس لأنهم لا يفهمون من النص إلا الكيفيات المعتادة في عادتهم.
وكذلك قالت الجهمية، لا أعرف الكلام إلا بلسان وشفتين ولا سمع إلا بأذنين وغير ذلك
وعندما تقول لهم أن هذه النصوص باقية على معناها اللغوي لكن بكيفية أنت تجهلها وقد تعلم بالحس وتكون على خلاف الكيفيات المعتادة لك ويكون هناك وجه للاشتراك المعنوي تدركه بعد ادراك المحسوس الجديد ومقارنته مع محسوساتك القديمة وقد لا تدركه لكن يخبرك الله عن وجوده وصحته عقلا ولغةً بين الشيئين
(كصحة أن يسمى البرق سوطًا) وأنت كنت تجهل هذا قبل الشرع مع أنك تراه بعيني رأسك!
هذا والله أعلم
وهذا شيء يسير في أن السلف يثبتون المجاز الذي لا يخالف الحقيقة بل هي تدل عليه ولا يفهم منه إلا هي وليس الذي يناقض حقيقة الظاهر! بل هي الظاهر أصلا
قال الإمام البخاري في كتاب “خلق أفعال العباد” :
إن أكثر مغاليط الناس من هذه الأوجه حين لم يعرفوا المجاز من التحقيق، ولا الفعل من المفعول، ولا الوصف من الصفة، ولم يعرفوا الكذب لم صار كذبا، ولا الصدق لم صار صدقا، فأما بيان المجاز من التحقيق فمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس، وجدته بحرا وهو الذي يحور فيما بين الناس، وتحقيقه أن مشيه حسن، ومثل قول القائل: علم الله معنا وفينا، وأنا في علم الله، إنما المراد من ذلك أن الله يعلمنا وهو التحقيق، ومثل قول القائل: النهر يجري، ومعناه أن الماء يجري وهو التحقيق، وأشباهه في اللغات كثيرة “
وقال الإمام الدارمي:
“وقد يجوز للرجل أن يقول: بنيت دارا، أبو قتلت رجلا وضربت غلاما، ووزنت لفلان مالا، وكتبت له كتابا، وإن لم يتول شيئا من ذلك بيده بل أمر ببنائه والكاتب بكتابه والقاتل بقتله، والضارب بضربه، والوازن بوزنه فمثل هذا يجوز على المجاز الذي يعقله الناس بقلوبهم على مجاز كلام العرب.
وإذا قال: كتبت بيدي كتابا كما قال الله تعالى {خلقت بيدي}
أو قال: وزنت بيدي، وقتلت بيدي، وبنيت بيدي، وضربت بيدي، كان ذلك تأكيدا ليديه، دون يدي غيره، ومعقول المعنى عند العقلاء، كما أخبرنا الله أنه خلق الخلائق بأمره، فقال {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} فعلمنا أنه خلق الخلائق بأمره وإراته، وكلامه وقوله {كن} وبذلك كانت، وهو الفعال لما يريد.
#الغيث_الشامي