أهل السنة بحمد الله لم تدخل عليهم الفلسفات المثالية “التي تدعي العقلانية” كفلسفة أرسطو قديمًا وديكارت حديثًا – على سبيل المثال لا الحصر -، التي عاملت الذهن كآلة لا تتأثر بالنفس.
● بل فهموا أن فطرة العقل هي ملكة في الإنسان تتضمن محاسبة النفس وتتضمن تحسينًا وتقبيحًا وأنه لا يستحق اسم العقل إلا من اتبع الشرع الذي هو مسطرة كل عاقل يعلم بفطرته أن ربه أعلم منه بنفسه وبكل شيء، وأن من بعثهم من الرسل هم أكرم الناس وأعلاهم شأنًا إذا جاءوا بكلام ربهم سبحانه فلا يعارضون بالأقيسة والأوهام والأهواء فليس العقل في اتباع الطريقة الابليسية في التفكير.
● ولا ينفك العقل عندهم كذلك عن الإقرار بما هو مركوز في الفطرة من المعارف كوجوده وكماله سبحانه وأنه وحده خالق كل شيء سواه، واستحقاقه للعبادة من كل من سواه كمالًا لا افتقارًا وإضطرارًا، فلا يخوض من خاض في الغيب المطلق بعقله رجمًا بالغيب في أعظم المطالب وهو سبب خلقه والغاية من وجوده ومعاده ومعاشه إلا وهو أبعد الناس عن مسمى العقل فما بالك لو توصل لنتائج تخالف فطرة وبداهة العقل الضرورية التي فطر الله الناس عليها، فأهل السنة لا يعرضون أمثال تلك القضايا للنقاش الجادّ ولا للنظر والمسائلة، قال تعالى في كتابه الكريم : (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ). فما بالك لو جاءك شخص يجادلك في وجود العالم نفسه من حولك هل هو وهم أم حقيقة أيكون العقل في أن تخوض معه في هذا الجدل؟ فما بالك بمن هو سبب ثقتك بعقلك نفسه وهو خالقه الحكيم الهادي علام الغيوب سبحانه!
● وليس من العقل عند أهل السنة أن تتنطع في السؤال بما لا يفيد ولا ينبني عليه عملٌ مفيد في الدنيا والآخرة، بل تقف في السؤال حيث أراد الله منك أن تقف، قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، وقد ذم الله بني اسرائيل لما تنطعوا في السؤال عن أمر واضح وهو أن يذبحوا بقرة! فبذحوها وما كانوا فاعلين!
وكذلك يفعل الملاحدة وأهل الشبهات مع أوضح الحقائق وهي دين الله سبحانه (الإسلام).
> فالعبد ما إن وطّن نفسه على موافقة الحق في سائر رغباتها ومخاوفها ترقى في منازل الإيمان وسَلِمَ له عقله وعمله ونظره وسؤاله.
■ وهذا ما نبه عليه أئمة السنة الجبال جيلًا بعد جيل أن الإيمان مداره على “القول والعمل والاعتقاد” وحين أخذوا يكتبون العشرات من الكتب تحت اسم “الزهد” لرسم خارطة الطريق للرجل المسلم العاقل في تصرفاته ومعيشته وعلاقته مع ربه ومع مخلوقاته سبحانه وأقداره سواء كانت كونية أو شرعية، والتحذير من أمر الغفلة وتحويل العقيدة إلى أمر نظري عقلي منفك عن التطبيق فإنه يزيد وينقص وإن نقص في الجوارح كان ناقصأ في القلب لامحالة، وأنه لا يزيد إلا بالطاعة كما أمر الله سبحانه وفق السنة النبوية المطهرة اعترافًا بلسان الحال والمقال أن الله أكمل دينه سبحانه.
فبقدر ما نقص من إيمان المرء فقد نقص عقله ومرضت نفسه!
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ₍₁₎
قال الإمام حرب الكرماني:
(قلت للإمام إسحاق بن راهوية : الرجل يقول للمشرك : إنّه رجل عاقل
قال: لا ينبغي أن يقال لهم؛ لأنَّهم ليست لهم عقول.) ₍₂₎
قال تعالى: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) وقال (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
فقد جعل الله سبحانه فهم دلالات آياته والتفكر في ذلك والانقياد لهذه الدلالة واتباع ملة الرسل هو العقل وليس دونه إلا السفه ولو صدر ذلك من أذكى الناس وليس من العقل في شيء أن تتبع زبالات الفرس والروم على مر العصور وعماياتهم في الغيب وما كان قبل نشأة العالم وما الكيفية التفصيلية “الطبيعية” التي خلق الله الطبيعة بها بعد أن لم تكن! وهل كل موجود وكل مخلوق لابد أن الله لم يخلق إلا بالتركيب من عنصرين اسمهم جوهر وعرض أو هيولى وصورة!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَأْخُذَ أُمَّتي بأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَها، شِبْرًا بشِبْرٍ وذِراعًا بذِراعٍ، فقِيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، كَفارِسَ والرُّومِ؟ فقالَ: ومَنِ النَّاسُ إلَّا أُولَئِكَ.
فدون توفيق الله -الذي هو توفيق البيان والإعلام، وتوفيق الهداية والاتباع-
مهما كنت ( ذكيًّا ) ، فقد تجتمع في نفسك أهواء تغلبك،
ويصبح ذكائك نفسه حجة عليك ونقمة عظمى ما بُليت بشيء أعظم منها،
فكم من ذكي كابر فطرته وعقله وانطلق من ( مقدمة فاسدة ) وكان ذكيًّا بارعًا في استخراج الفروع واللوازم الدقيقة من ذاك ( الأصل الفاسد ) وصياغته في إطار ضخم ومتناسق منطقيّا ( يخلب الألباب ) وتبعه على ذلك الملايين،
فلم يزيده ذلك إلا ( إغراقًا بباطله )
ولو احترمه كلُّ الناس على ما خدعهم به وعَدّوه أذكى الأذكياء وإمام الأئمة، فهو عند الله كُتبَ ( سفيها ) ..
الأمر كله لله، والعلم ما هو إلا وسيلة،
ووالله عاميُّ يموت وهو يرفع سبابته للسماء ( خير ) من أذكياء الدنيا الكُفّار جميعًا،
فذكائهم زائل ودنياهم زائلة ويبقى العلي الكبير،
يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام..
__
₍₁₎ صحيح، أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
₍₂₎ مسائل حرب الكرماني
₍₃₎ الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 7319 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
للاستزادة راجع كتاب “مفهوم العقل والحجة في القرآن الكريم عند أهل السنة والجماعة” ففيه ما يكفي من بيان ذلك بالأدلة التفصيلية.
#مدونة_النقد_الأثري #الغيث_الشامي