الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله، أما بعد: فإن النموذج الشائع اليوم بين الطبيعيين عن باطن الأرض، من تقسيم لطبقات الأرض إلى قشرة ووشاح ولب خارجي وداخلي؛ صار يُدرس للصغار في المدارس الثانوية في الجيولوجيا كأنه حقيقة علمية قد ثبتت صحتها بما لا يدع مجالا للشك، لا لشيء إلا لعدم النموذح المنافس له بين أكاديميات الطبيعيين، وإن كان المنطق الاستدلالي الذي تقوم عليه أبعد ما يكون عن بلوغ اليقين كما سيأتيك بيانه..
مقدمة تاريخية
الفرض الصخري القديم
في أواخر القرن التاسع عشر، ساد بين علماء الأرض تصوّر مفاده أنّ بنية كوكب الأرض برمّته تتألف من صخور صلبة، استنادًا إلى مبدأ التماثل المكاني Isotropy، على عادة الطبيعيين في طرد ما جرت به عادتنا خارج حيز الاستقراء؛ وإلى قياسٍ تمثيليٍّ يُسقطُ خصائص السطح على الباطن، فإذا كانت الطبقات العليا من القشرة صخرية وصلبة، فمن المرجح أن الطبقات التي تحتها تشبهها في البنية. ولا يخفاك ما في هذا المنطق الاستدلالي من التهافت العقلي، فإن الأول محض فرض تحكمي، والثاني لا فائدة منه إن كان النموذج لا يمكننا من بناء تنبؤ أو أي وسيلة للتأكد من دقة أقيستنا التمثيلية؛ وقد انتقل العلماء إلى نموذج آخر غير هذا كما سيأتي، ولكن أحببت التنبيه أن نفس الخلل في المنطق الاستدلالي مستمر معهم وإن اعتبروا هذا النموذج من تاريخ العلم..!
ظهور الفرض المعدني: قياس الأرض على النيازك
لما تبين للباحثين تفاوت الكثافات بين طبقات الأرض السطحية، ولاحظوا أن متوسط كثافة الأرض ــ كما تُستخلص من تطبيق قانون الجذب العام لنيوتن على حركة الأجرام ــ يفوق بكثير ما تُشير إليه كثافة الصخور الظاهرة على السطح، نشأت الحاجة إلى تفسير هذا الفرق الكثيف. ولما تعذّر النفوذ المباشر إلى أعماق الأرض، لجأ بعض العلماء إلى اعتماد النيازك مرآةً تقريبية لبنية الأرض البدئية، لكونها بقايا مُفترضة من السديم الشمسي الذي تشكلت منه الكواكب (وهذا بناء على نموذج كوسمولوجي آخر لسنا نسلم بصحته!).
فذهبوا إلى أن الأرض، في مرحلة مبكرة من نشأتها، قد خضعت لحالة من الانصهار الكلي أو الجزئي، أتاحَت للمواد الأثقل ــ كالحديد والنيكل ــ أن تهاجر نحو المركز تحت تأثير الجاذبية، مكوِّنة بذلك نواةً كثيفة معدنية في أعماق الكوكب. وهكذا نشأت فرضية أن لبّ الأرض يتألف من معادن ثقيلة، وذلك قياسًا على تركيب بعض أنواع النيازك الحديدية، واستئناسًا بنتائج الحسابات الفيزيائية.
بداية تقسيم الأرض
لقد تأسّس على تلك الفرضيات الأوّلية تصورٌ طبقيّ لبنية الأرض، فقُسّمت إلى قشرة صخرية تحيط بلبّ معدني كثيف، وظهر في هذا السياق مصطلح “التفاضل الكوكبي” (Planetary Differentiation)، وهو مفهوم يفترض أن الكواكب، ومنها الأرض، قد مرّت بمراحل من الانصهار أدّت إلى انفصال العناصر بحسب كثافتها، فغاصت المعادن الثقيلة إلى المركز، فيما طفت المواد الأخف نحو السطح.
الفرضيات الزلزالية
في مطالع القرن العشرين، شرع الجيولوجيّون في تسخير الموجات الزلزالية أداةً لاستكشاف أعماق الأرض، مستندين إلى تحليل زمن وصول الموجات وأنماط انكسارها وانعكاسها، على أساس أن الموجة المسافرة في جسم صلب، لابد وأن تختلف خصائصها عن الموجة المسافرة في جسم مائع أو غازي؛ وهذا مبني على فرضٍ ضمنيّ مفاده: أنّ باطن الأرض كيانٌ مصمتٌ متجانس، على غرار الأجسام الصغيرة كالتفاحة أو النيزك.
غير أن ثلاثينيات القرن العشرين شهدت تحوّلًا في هذا التصور، إذ أظهرت الدراسات الزلزالية سلوكًا غير مألوف لبعض موجات الضغط (P-waves)، لا يتسق مع نموذج النواة السائلة المتجانسة. وقد قاد هذا الاكتشاف إلى افتراض وجود نواة داخلية صلبة مغروسة في قلب النواة الخارجية السائلة، سُمّيت بـ”النواة الداخلية” Inner Core.
وهكذا أيها القارئ: انتهت فرضيات الجيولوجيين إلى ذلك النموذج التمثيلي شهير يُشبه الأرض ببرتقالة مقسومة إلى طبقات، تُرسم فيها القشرة والغلاف واللب بألوان متمايزة، وتُقدَّم بوصفها بنية داخلية يقينية. غير أن هذا التصور لم يُبنَ على ملاحظة حسية مباشرة لباطن الأرض، بل على تسلسل من الافتراضات النظرية: ابتدأ بتقدير كتلة الأرض من قانون الجذب العام، ثم بافتراض تعرض الكتلة الأرضية لمرحلة انصهار حراري، أعقبها افتراض هبوط المعادن الثقيلة إلى المركز تحت تأثير الجاذبية، وانتهى بترجيح وفرة عنصر الحديد في اللب، استنادًا إلى تركيب النيازك التي سقطت على سطح الأرض، لا إلى بيانات مستقاة من عمق الأرض ذاته.
نقد المنطق الاستدلالي.
وواقع الحال أن كل فرضية من فرضياتهم التفسيرية فيما يتعلق بالعلاقة بين طبيعة الوسط المادي لطبقات الأرض فيما دون الستمائة كيلومتر عمق (المشهودة) وبين خصائص الموجات الاهتزازية النابعة من بطن الأرض، تحتمل أن يفسر موضوعها بما لا يكاد يحصى من الأسباب الافتراضية الأخرى التي نعلم أننا لم نر لها نظيرا في تجربتنا البشرية من قبل، كيفما كانت؛ وهذا ما يسمى في فلسفة العلم بمشكلة التكافؤ الحسي undertermination by observation. وهذا يرجع لسبب بسيط لم ينتبه له -أو تغاضوا عنه- القوم لفرط دهريتهم، وهو أن باطن الأرض موضوع بحث لا نظير له في عادتنا؛ وأي محاولة لنمذجته قياسا على ما في العادة يفترض: أنه من جنس ما في العادة بالضرورة.
فتأمل مثلا: أن وجود موجة زلزالية من نوع معين يمكن أن ينتج عن: (1) وسط صلب من النيكل، (2) أو وسط سائل من الكبريت، (3) أو وسط مركب من طبقات غازية، (4) أو حالة فيزيائية لم نرها من قبل. فبأي شيء رجحوا ما اختاروه من الأقيسة على غيره مما يجيزه العقل بل ويجيزه ذلك القدر الضئيل من قوانين الطبيعة الذي انتهى إليه علمهم؟ لا شيء إلا التناسق والتناغم الداخلي بين فرضيات وتأويلات الأنموذج الكوزمولوجي نفسه، الذي يراد إكمال بنائه وتشييده حتى يغطي كل شيء، ولا يخرج عنه شيء! أو إن شئت فقل: التناسق الداخلي في فرضيات التفسير نفسه والتناسق الخارجي فيما بين التفسير وبين عموم النظريات المعتمدة أكاديميا في الوقت الحالي التلاؤم مع البارادايم السائد أكاديميا.
ولكن هل اتساق النموذج كافٍ منطقيا لتسويغه وتبريره؟ أبدا! بل معلوم بأن ثمة نماذج متسقة متناقضة لنفس المشاهدات كما هو معلوم، ولا يجاب عن هذا بأن هذا “أكثر” نموذج متسق، فإن هذا احتكام للجهل، لأن جهلنا بوجود نموذج آخر لا يبنى عليه علم بمطابقة التفسير الحالي للواقع. ومصادرة على المطلوب، لأننا ندعي أت موضوع البحث غير قابل inaccessible للتفسير بالمعطيات التي تجري تحت عادتنا أصلا. فيكون هناك عدم تحديد بالقوة Underdetermination in principle، فلا يكون عدم نماذج بديلة أكاديميا قرينة على صحة الحالي.
فقد زعم القوم أن الأرض في نشأتها الأولى كانت كرة منصهرة، فلما أُعمل قانون الجاذبية على تلك الكتلة المصهورة، افترضوا أن المعادن الأثقل – وعلى رأسها الحديد – قد انحدرت بفعل الجاذبية إلى العمق، مشكلة بذلك نواة الأرض، بينما بقيت الصخور الأخف في الطبقات العليا. ثم لما قيل لهم: ما الذي دلّكم على أن هذا المعدن الغائر هو الحديد؟، أجابوا: نظرنا في السماء، فرأينا الحديد أكثر العناصر شيوعًا فيها، لا سيما في النيازك الهابطة إلى الأرض، فوجب أن يكون كذلك في جوف الأرض. وهكذا نسجوا سلسلة من الفرضيات المتراكبة:
الحديد هو الأوفر في الكون ← فلابد أن يكون كذلك في الأرض ← والأرض كانت منصهرة ← فهبط الحديد إلى القلب ← إذًا قلب الأرض مكون من الحديد والنيكل.
لكن هذه الطبقات من الفرض والقياس ليست إلا أوهاما بعضها فوق بعض، إذ:
- لم يشهد أحد تكون الأرض، فلم نرى من قبل كتلة منصهرة بردت وصارت أرضًا، وما كانت لتكون آثار هذه العملية؟ فإن النظرية التفسيرية إن لم يكن لها مستند من العادة (في دلالة المشاهدة على التفسير)، لزم الدور المنطقي؛ بأن يكون دليل التفسير هو المُفسَّر! فلا يكفي اتساق النظرية مع المُفسر فقط، بل لا بد من نوع تلازم بين المشاهدة والتفسير، وهذا التلازم إنما يُعلم بالعادة كما في دلالة البلل في الأرض على المطر؛ فإن انتفت العادة انسد باب الوصول إلى نظرية تفسيرية صحيحة.
- ولا دليل أن الأرض مصمتة، بل هو مجرد فرض تحكمي.
- ولا دليل أن انتشار الحديد في النيازك يقتضي انتشاره في الأرض.
بل لو فرضنا – مجرد فرض – أن الأرض مجوّفة تمامًا، بسمك قشرة لا يزيد على ألف كيلومتر، لكان هذا كافيًا لاستيعاب جميع المعادن والحمم التي نشاهدها، دون حاجة لنواة حديدية أو كتلة مصمتة! فما الذي يدفع إلى الترجيح؟ لا شيء سوى التحكم العقلي، والقياس الاعتباطي على ما هو ظاهر أو مألوف.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.