قضايا

في بطلان أدلة الحدوث المبنية على النظريات الطبيعية التفسيرية

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
“فإن قدماءهم الفلاسفة اليونانيين؛ كلامهم في الإلهيات قليل، وعلمهم بها ناقص جدا -وعامة كلامهم في الطبيعيات- ويسمون هذا العلم «علم ما قبل الطبيعة» باعتبار وجوده، أو «علم ما بعدها» باعتبار معرفته؛ لكون الأمور الطبيعية يستدل بها عليه، وهم يسمون ذلك «الحكمة العليا» و «الفلسفة الأولى».”

– شرح الأصبهانية

فبين شيخ الإسلام أن الطريقة اليونانية في بناء العقائد الإلهية تبنى على نظرياتهم في الطبيعيات ومقتضياتها، وهذا الاعتراف سجله كثير من الملاحدة المعاصرون كشون كارول (أن كلامهم في الغيبيات مبني على كلامهم في الطبيعيات)، وبين شيخ الإسلام أنهم يبحثون الوجود من حيث هو وجود ويطبقون نظرياتهم عليه، فيسألون أسئلة سوفسطائية مثل: “ما حقيقة الصفة في الموصوف؟” وما علاقة الصفة بالموصوف؟، ولماذا كل موصوف لابد له من صفة؟، هذه هي الطريقة الميتافيزيقية في التنقير وراء المسلمات الفطرية وتكييف حدود معنوية لها على كيفيات مفروضة كتفسير لمافي الشاهد، فمثلًا يفترض علاقة تركيبية بين الصفة والموصوف على أنهما جوهرين وجوديين بينهم علاقة حلول وتراكب، ثم يجعل هذا تكييفًا لمعنى من ذاتيات الوجود ومن ضرورياته ككون كل موجود له زمان ومكان وصفات تخصه، فيضع النظرية لتفسير ذلك في كل موجود على شرط الوجود، وعندما يفرضون علاقات بالقياس على علاقات المخلوقات ببعضها كعلاقة التراكب والحلول والافتقار بناء على أن القياس هذا ينطلق من الطبيعيات حولنا إلى كل ما ينطبق عليه معنى الوجود يضطرهم ذلك القياس إلى الوقوع في التسلسل إذ العقل يضطرهم “من بقي عنده مسحة من عقل” أن يقطع التسلسل في موجود ما، فإذا لابد أن يجعل الوجود منقسم إلى قسمين، قسم ينطبق عليه معنى الوجود المعروف الذي قرصنوه ووضعوا له حدود وكيفيات من نظريتهم، وقسم مضطرين له ليقطعوا التسلسل، لكنهم ينفون عنه صفات الموجودات التي شملتها كلها نظرياتهم بالتفسير والتعليل والتكييف، ليجعلونه موجودا عدميا لا يمتاز عن باقي الموجودات إلا بالسلوب المحضة بما أن المعاني المعروفة للصفات التي تنتزع حسيا من القدر المشترك تشملها النظرية بالتكييف والتفسير بناء على قياس يضع كيفية معينة للمعنى من حيث هو بغض النظر عن التخصيص والإضافة وهذه الكيفية كما ذكرنا انطلقوا فيها من الطبيعيات فبالضرورة لن تكون تليق بالخالق.

فكل برهان مخترع للحدوث مبني على نظرية في الطبيعيات تعمم كيفية معينة لمعنى معين ثم يعمم هذا المعنى على كل الموجودات على هذه الكيفية ويقال انه يلازم الحدوث فكلها حادثة ثم هناك ضرورة لوجود محدث لها فيكون ليس فيه هذا المعنى الذي غالبا لن يستطيعوا تعميمه ابتاء على كل موجود إلا بتعميم استقرائي فاحش أو الاعتداء على معنى يلازم الوجود بالضرورة ثم تنزيه الواجب عنه فيحيله إلى كيان عدمي.

وبالاستقراء تجد أن كل النظريات البردايمية من هذه النوعية كلها تضع نظريات على مبدأ اتصاف الأشياء بالصفات وكونها مادية تقبل الإشارة والحس والمكان والزمان وتتناولها بالتكييف فما يحيل أي ذات تتنزه عن نظريتهم إلى ذات عدمية بالضرورة.
حتى أنك تجد أن موقفهم من الذرة والجوهر الفرد يحدد موقفهم من صفات الإله والبعث واليوم الآخر!

فهذه الطريقة هي بوابة التجهم والاعتداء على الغيب وهي طريقة أعداء الرسل.

فطريقة أتباع الرسل هي الاعتبار بوجود النقص والافتقار ومظاهر المربوبية والحدوث والمخلوقية على المخلوقات أمامهم كآيات تدلهم على ما يعلمونه فطرة وبداهة من وجود الرب وكماله ويعلمون من وحدانيته حدوث كل ما سواه سواء غاب عنهم أو كان مشهودًا لهم ورأوا علامات مربوبية هذه المخلوقات بأعينهم، ولا يكون استدلالهم من باب وضع كيفيات ضرورية على المعاني والتنظير الميتافيزيقي إنما هو الكلام عن أنواع معينة من الموجودات والاستدلال بالجزئي على الجزئي لا بوضع نظرية كلية شاملة على شرط الوجود ثم الاستدلال على جزئي مستثنى منها منزه عن سمات الدخول في قياس هذه النظرية الكلي!

هذا والله أعلم

#الغيث_الشامي

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى