العلم الطبيعي

“هل الملاحدة غلاة في المنهج التجريبي كما يزعمون؟”

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم من السلف المطهرين وأتباعهم إلى يوم الدين أما بعد:

■ فإن الملحد عادةً يزعم أنه من غلاة المنهج التجريبي وأنه لا يصدق إلا ما تخبره به التجربة، وسنرى في هذا المقال كيف أن المؤمن هو الذي ينادي في حقيقة الأمر بالمنهج التجريبي وبجعل العلم “علم تجريبي حقّا” وينادي بجعل الاستقراء له حدود وليس استقراء “بمفهوم الفلسفة الطبيعية” الذي هو مبني على مسلمات فلسفية مسبقة غير مبرهنة.

● فإن المنهج العلمي الغربي اليوم “طبيعاني” وليس تجريبي، إذا هو ما هو تعريف الطبيعة كما يفهمونه؟

• كيف يكون الشيء الطبيعي طبيعيّا؟ هل مجرد عادتنا على ظاهرة معينة تجعلها طبيعية؟ لا، لأن الظاهرة الجديدة هي غير معتادة وهي مع ذلك طبيعية عندهم.
> إذًا هل كونها جزء من الكون يجعلها طبيعية؟ ماذا عن الظواهر الغير محسوسة والتي تفسر الظواهر المحسوسة كتلك التي يفترضونها في ما وراء الحس “كالمادة المظلمة وغيرها” ما الذي يجعلها طبيعية بينما الملائكة التي هي عندنا داخل الكون ايضًا ليست كيانات طبيعية؟
• وماذا عن الأشياء التي هي في الكون ولا نعرفها أبدًا ولا نعرف لها قياسًا أو شبهًا على أي شيء غيرها مما في عادتانا؟ هل تكون طبيعية على فهمهم؟

واضح أن هذه الأسئلة هي التي ستحدد لنا مسار لكي نفهم كيف يفهمون هم الشيء “الطبيعي”:

• أولًا: “لا موجود بحق إلا الطبيعة”:
هذه الركيزة الأساسية والمعتقد الأكبر عند الطبيعيين “naturalism”
والطبيعة هي تلك المجموعة من الظواهر الموجودة حولنا في العالم والتي هي محسوسة لنا سواء بآثارها كالكهرباء مثلًا وأغلب أنواع الطاقة التي لا نراها بشكل مباشر لكن نرى أثارها في الأشياء ونفسرها بحلول شيء وجودي في هذه المادة يؤدي لذلك التأثير المباشر

• هذه هي الطبيعة، والشيء الطبيعي نوعًا هو القابل للتصور بناء على قياسه على هذه الأمور المحسوسة في الدنيا هنا في العالم هذا الذي هو حولنا في حدود عادتنا وحدود حواسنا والقياس هذا في نوع البنية والتركيب وطبيعة المادة المعروفة وخصائها، فما يمكن عندهم تصوره بالقياس عليها فهو طبيعي.

• فالطبيعة هي فهمنا مهما كان لما حولنا من ظواهر ثم قياس كل شيء عليه لكي تصح لنا مقدمة “لا موجود الا الطبيعة” فلا موجود الا ما هو مشابه نوعا ويقاس نوعا على ما نعرفه واعتدناه من ظواهر باي برادايم او طريقة نفهم بها تلك الظواهر.

// ومن هنا نخرج بمسلمة أخرى وهي “إمكان وضع نظرية شاملة”، بما أنهم يفهمون أن الطبيعة متماثلة نوعًا في البنية والتركيب والقوانين فلزم إمكان وضع نظرية شاملة تقسم الموجودات الطبيعية التي أصلًأ لا يوجد شيء غيرها وهي كلها قابلة للتصور كنوعية واحدة شاملة بناء على أنها من نفس النوع، تحديدًا فكرة “تماثل الأجسام”، أي أن جميع الأجرام والأشياء الموجودة في الأعيان “الزمان والمكان” هي طبيعية نوعًا والأشياء الطبيعية نوعً القدر المشترك بينها هي أنها قابلة للقياس على بنية وتركيب وطبائع الأشياء المشهودة حولنا في الجزء المعتاد الصغير من “العالم الطبيعي” ولماذا كله عالم طبيعي؟ لأن المعتقد المبدئي أنه لا موجود إلا الطبيعة، فبالتالي الوجود كله طبيعي وكله من نفس النوع فإذا عرفنا بعضه أمكننا معرفته كله من خلال قياسه على هذا البعض لأنهم كلهم لهم نفس البنية والتركيب والطبائع والقوانين الكلية الشاملة وسنسميها مسلمة “تماثل الأجسام الطبيعية” هنا

> وبناء عليه استجازوا أن يفسروا كل ما يقع عليه حسهم من الأجرام السماوية البعيدة جدا جدا بأنها تتركب من مواد معينة معروفة لمجرد التشابه في وجه واحد من الوجوه مع مواد معروفة لنا على الأرض، بناء على مسلمة أنها أصلًأ لا بد أن تكون مركبة من شيء من هذه المواد لأن كل ما له مادة أو كل جسم فهو متماثل نوعًا من حيث أنه طبيعي فلا بد أنه يمكن تفسيره بقياسه جزء من أجزاء الطبيعة المعروفة ولن يخرج عن هذا، وكذلك المسافات البعيدة زمنيّا فاستجازوا بناء على مبدأ “التماثلية” أن يفسروا كل الأحداث في الزمان الماضي والمستقبل بناء على الطبيعة المعروفة.

> وبناء عليه أصبح هذا حد ونصل وشفرة لتنظيف أي فرضية غير طبيعية، والفرضية عندهم هو الفرض التفسيري المبني على “المنطق التفسيري بالخبرة” وبما أن الخبرة عندهم لا يمكن أصلًأ أن تتعلق إلا بشيء طبيعي بناء على أنه لا موجود إلا الطبيعة، وبناء على ذلك يصير أيضًا الاستقراء لجزء من الطبيعة هو استقراء لها كلها لأن النظام الطبيعي عندهم متماثل وخاضع لقوانين شاملة تشمل كل الزمان والمكان الذي هو تعريف الطبيعة (كل مافي الزمان والمكان) أو كل متعين في الخارج لمن يقول بأكوان أخرى بينها فراغات أو حتى عوالم متحايثة كلها تشكل حقائق متناقضة كنظرية العوالم المتعددة.

> فصار يمنع افتراض شيء لا يمكن قياسه على شيء طبيعي ولو كان هذا المفترض لا يحمل اي قوة تفسيرية معتادة، فمثلًا نحن لا نرى أي انفجار أو انتفاخ لمادة ما يؤدي لوجود أكوان؟، ولا نرى أي كائن أحادي الخلية يتطور ليكون جميع الكائنات الحية من سلالته، لكن الخبرة المعتبرة عندهم هنا ليس الخبرة المباشرة بموضوع معين تخبره بذاكرتك عن طبيعة هذه الظاهرة كتفسير البلل الكبير في الشوارع بانه من آثار المطر، إنما الخبرة هنا هو الخبرة الطبيعية نفسها، وهي الفلسفة الطبيعية، اي لاننا نعلم ان كل شيء طبيعي فهذا يعتبر نوع من الخبرة عن طبيعة الوجود وبهذا نستجيز أن نقيس هذه الأحداث على أحداث طبيعية أخرى بدون خبرة مباشرة بوجود صلة بين الظاهرتين.

// وننبه هنا على أن مفهومهم للمعرفة الإنسانية كله يختزل داخل هذه الخبرة، فعندهم الإنسان هو ابن الطبيعة ومنتج من منتجاتها هو وكل ما يجده في وعيه من معارف، لذلك المعارف التي تعبر عن غيبيات عندهم لا معنى لها، لأن المعرفة الإنسانية عندهم كلها جائت من الطبيعة سواء عن طريق الحس أو الفطرة التطورية التي هي نتيجة احتكاك الانسان مع الطبيعة أيضًا فهم يزيفون أي نوع من أنواع الأفكار الفطرية التي تتحدث عن أمور غير قابلة للحس بالحواس في الدنيا.
ونحن نقول لهم لا، نحن لا نرى أي ضرورة في المنهج الطبيعي هذا ولا الفلسفة الطبيعية بل نرى الضرورة والبداهة بخلافها، وبوجوب قطع سلسلة الحوادث عند شيء ليس من جنسها وهو الله سبحانه وتعالى بكل كمالاته الواجبة له وأن يكون الشيء الذي خلق الطبيعة كلها ليس جزء منها! ببساطة لأنه خلق الكل، وأن مسألة أزلية الطبيعة هذا ليس مبني على دليل عقلي أو تجريبي ويستحيل أصلًا أن يبنى على دليل تجريبي لأنه من الواضح أنه لا يوجد بشري يمكنه العودة للأزل لاختبار ذلك تجريبيًا!
ولا حتى مبدأ تماثل الموجودات “الأجسام” الطبيعي هذا، وبالتالي نلتزم بحدود الخبرة البشرية والتجربة البشرية القاصرة في التفسير ولا نعتقد أن الغيبيات يجوز قياسها عليها، بل نفترض بحدود الخبرة السابقة أو نعتبر أن فرضياتنا الجديدة في العلاقات التي لا تدل عليها الخبرة بين الظواهر هي نوع من التخيل أو التشبيه الذي قد يطابق الواقع من وجه دون وجوه أخرى أو يكون مشابه للواقع وليس مطابق وبالتالي يعطي نتائج صحيحة.

>> وبهذا نكون فعلًا التزمنا بحدود التجربة الصحيحة كما لم يزل يفعله البشر إلا فلاسفة اليونان الذين استجازوا بناء على المبادئ التي هي فوق أن يضعوا نظريات تفسيرية للوجود تشمل الوجود كله سبرًا وتقسيمًا وتفسيرًا كنظرية “الجوهر والعرض” مثلًأ أو النظرية الذرية والجوهر الفرد وغيره.

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى