فلسفة العلوم

شفرة أوكام (بين الاستفادة المعرفية ورجل القش الطبيعاني)

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

فنستكمل السلسلة التي قد بدأنا بها بمجموعة من المقالات السابقة حول منهج العلم التجريبي الصحيح والحديث حول بعض المواضيع التي تدخل في مجال شهير يسمى فلسفة العلوم “Philosophy of Science”.

واليوم سنتكلم عن مفهوم شفرة أوكام “Occam’s razor “.

وهذا المفهوم يتعلق بمفهوم تكلمنا عنه وهو “الاستدلال التخميني” {abductive reasoning}.

حيث إنك إن جئت تربط بين تغير حدثين تفسر أحدهما بالأخر أي تفسر الحدث (A) بالحدث (B) فإنك مبدئيّا من باب مصلحة بساطة التصور ستبدأ بالتصور الأبسط والذي هو اعلى احتمالية “مبدئيّا” من حيث كونه الأعلى احتمالية بالعادة في مجال البحث أو أنه أسهل تصور للربط بين الحدثين المراد تفسيرهما.

فقد يتعلق بالاستدلال التخميني من وجهين:

 

• الفرضية المبدئية والتي قد يدخل بها القياس التشبيهي (التمثيلي)، كأن يقال، أنا سأفترض أن الرابط بين الحدثين A  و B يشبه ما يحصل بين C و G وسأتحقق من فرضيتي، فتبدأ أنت بوضع أبسط فرضية تفسر ذلك وكما يقال فإن أسهل تصور للربط بين نقطتين هو الخط المستقيم.

الترجيح بين احتمالات موجودة أصلًا، كأن يقال في عادتي غالبًا ما يكون تفسير A هو B، فلن انتقل لافتراض خلاف ذلك إلا إن ظهرت مشاهدات تستبعد ذلك في معرفتي.

ومثال على الحالة الأولى: أن تدخل لمسرح الجريمة وهو بيت مسروق فتجد نافذة مكسورة، ومقبض باب البيت مكسور، فتقول: سأفترض أن من حاول سرقة هذا المنزل هو نفسه السارق الذي سرق منزل آخر في نفس المنطقة مؤخرًا، وفي تلك الحادثة قفز السارق إلى البيت من النافذة وثم استثقل أن ينزل بالمسروقات من النافذة فحاول الخروج من باب المنزل فوجده مقفل وما استطاع ان يفتحه فكسره وخرج منه.

هذا ابسط تفسير، كما ترى استخدمنا القياس التمثيلي لوجود علة القياس، وهو وجود مشاهدات مشابهة وسرقة مشابهة في نفس المدينة مؤخرًا والسارق لم يتم امساكه بعد، مع وجود احتمالية أن يكون كل التفسير مقلوب، كأن يكون سارق آخر وقد دخل من باب المنزل وكسره، ثم مد حبل من النافذة الخلفية للمنزل وأنزل منها الأغراض ليستلمها منه أحد آخر، ثم يخرج فارغ اليدين من باب المنزل دون أن ينتبه له أحد.

فكما ترى هنا تم قلب التفسير أساسًا، فبدأنا من الباب وانتهينا بالنافذة، على الرغم من أن الافتراض الابسط هو تشبيه السرقتين ببعض لوجود العلة المذكورة آنفًا وهي تشابه الوقائع في مسرح الجريمة وقربهما زمانيّا ومكانيّا في ما تفيدنا العادة بأن تفسيره يكون غالبًا هو أن الجاني نفسه، وتكون هي أبسط تفسير لارتفاع احتماليته وعدم وجود كثير من التفاصيل المفترضة بلا داعي معرفي فقط لإنقاذ الفرضية وجعلها تفسر كل المشاهدات بشكل ينافس الأولى الراجحة بما يسمى “Ad Hoc Hypothesis” (1).

وبالنهاية كما ترى فالترجيح بين الاحتمالات الأولى في النظر والاستفادة باستخدام شفرة أوكام هو احتمالي بحت وأداتي “يعني يفيد المصلحة لا العلم المطابق للواقع بيقين بل بظن راجح فقط”، فكما أن أبسط تفسير للربط بين نقطتين هو الخط المستقيم فلا يلزم أن يكون الرابط واقعيّا فعلًا هو الخط المستقيم، بل قد يكون الخط المستقيم هذا هو أبسط تفسير بالنسبة لك مع كونه في نفسه معقد جدّا أكثر من تفسيرات أخرى ظاهرها التعقيد ولكنها في حقيقة الأمر وجودّيا بها متغيرات وعوامل سببية أقل مما تعده أنت بسيط ويخفى عليك وجه تعقيده.

وليس لك أن تتدعي أساسًا بأن تفسيرك للترابط السببي بين بعض العوامل في ما يكفي حصوله بالعادة أن تشاهد ظاهرة معينة يتسبب بها هو علمك بأنه لا أسباب تترافق مع هذا إلا ما تراه فقط، فمثلًا، قد يظن أحدهم أن تفسير حركة يده الإرادية هو مجرد الإرادة مع عدم وجود مانع يقيّد هذه اليد عن الحركة.

مع أن الحقيقية الإرادة هي سبب كافي بالنسبة للإنسان في تحريك اليد لكنه ليس أبدًا السبب الوحيد والكامل ” The complete cause” فعليّا فمعرفتك تفيد العلم بالمطلوب وهو السبب الذي يكفيك عندما تتخذه لتحريك يدك وهو فعل ذلك وإرادته مباشرة.

ولكنك لا تدري شيء عن الإشارة الدماغية وانقباض العضلات وعدد المفاصل وما الذي كان شرطًا في حصول هذه العملية على هذا النحو بطريقة تامة لا مرض فيها ولا خلل، وكل هذا الله عز وجل قد يطلعك عليه وقد لا يطلعك، وقد يطلع غيرك وقد يكون غيبه عن الجنس البشري والحواس البشرية بالكلية، فليس لك أن تدعي أن علمك ببعض الأسباب الكافية في حدود حسّك لحصول ما يحصل هو علمك بأن هذا هو كل ما في الأمر.

قال البروفيسور حسام بن مسعود: 

“إن دعوى معرفة السببية الكاملة Complete causation هي من قبيل المغالطات المنطقية التي يجب أن ينتبه الباحث حتى لا يقع فيها من غير أن يشعر، ومثال ذلك أن يقول أحد الباحثين إن تعرض الطفل في صباه للاعتداء الجنسي يؤدي بالضرورة إلى الشذوذ أو الانحراف وسلوك طريق الإجرام الاحترافي في المستقبل، فهذا تنظير يوحي بأن هذا هو السبب الوحيد، وإن لم يصرح الباحث بذلك، بل إنه يكاد يصرف أنظار الناس عن السبب الأهم وراء الانحراف السلوكي والاجتماعي في أي إنسان منحرف: ألا وهو إرادته العاقلة الحرة واختياره ( على علم ودراية ) أن يمارس السلوك المنحرف، مع ما كان تحت تلك الإرادة من أهواء في نفسه تزين له اختيارها وتحمله على تسويغها بجملة من الأشياء قد يكون منها ما تعرض له من ابتلاءات في صباه.” (2)

فبالتالي لا يمكن استعمال شفرة أوكام إلا من قبيل المعيار المعرفي المصلحي في التعامل مع الافتراضات والتصورات التفسيرية البشرية القاصرة التي لها أن تحيط علمًا بالأمور من بعض جوانبها وليس كلها، وليس لها أن تختزل الكل إلى جزءه كما في مغالطة الاختزال ” shorthand fallacy”، وليس لك أن تستخدم هذه الشفرة في الأمور الغيبية المحضة كالحديث عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وكيف ينبغي له أن يدبر الكون أو يخلق الأشياء على نحو معين وكيفية معينة لأنك أنت افترضت أن هذا أبسط وهذا ما يجب أن يكون الواقع عليه وهذا الأقرب لتصورك وقياسك!.

قال تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل 74]

فمن الاستخدام الخاطئ لهذه الشفرة عند الطبيعانيين ” naturalism” “القائلين بالمنهجية الطبيعية الفلسفية” أي من نسميهم “الدهريين”، أنهم يجعلون هذه القاعدة المعرفية النفعية معيارًا للعلم بما يطابق الواقع تحقيقًا وكأن من شرط مطابقة التفسير للواقع هو أن يكون الأبسط بالضرورة! وكما ترى هذا لا يلزم وهو كما ترى يرجع للعادة “ما يسمى الاستقراء أي أنه قضية ثانوية من بعد التجربة ” A posteriori” وليس استنباطي أولي ضروري عقلًا لا يمكن أن يتخلف أو يخطئ مثل القواعد الرياضية والمنطقية والبديهية مثلًا أي ما تسمى ” A priori”، فيأتي ليغالطك بأن في مصادرك الدينية ما يجعل الظاهرة الفلانية ترجع إلى عوامل غيبية زائدة على القدر المشاهد المحسوس من الأسباب التي يستغلها هو ليتوصل للنتائج كالملائكة مثلًا، فيعاملها كأنها فرضيات زائدة وثم يتخلى عنها لعدم الحاجة لها في تفسير الظاهرة والربط بين متغيراتها المحسوسة ربطًا يمكن التحقق منه حسيّا بشكل من الأشكال والتنبؤ بها ويجعل تخليه عنها يساوي العلم بعدمها وجوديّا، ونحن نقول له هي أصلًا ليست فرض بل هي علم يقيني جاءنا من طريق غير الحس وهو الوحي الرباني، وليست مسألة تعتمد على الخبرة والفرض التفسيري الاحتمالي حتى تطبق عليها هذه القاعدة! فهو يتعامل مع رجل قش وليس مع التفسيرات الدينية!، يعاملها على أنها فرضيات تخمينية مع أننا لا ندعي أنها كذلك أصلًا ولم نبنها على منطق الفرض التفسيري! وليست هي عندنا احتمال أصلًا! ولا هي تعامل من جنس التعامل مع القضايا التجريبية الصرفة التي تتناول الطبيعة بالدراسة المباشرة وغير المباشرة.

يكفي هذا القدر من البيان، وباذن الله بالمقال القادم سنتحدث عن حدود التنظير الطبيعي وثمرته المصلحية وعلاقته بالغيب، نسأل الله التوفيق.

بقلم: #الغيث_الشامي (غيث وليد)

الهوامش والمصادر:

(1) يشرح البروفيسور حسام بن مسعود المتخصص في فلسفة العلوم ومناهج الاستدلال في العلم الطبيعي مسألة “الفرض الانقاذي Ad Hoc Hypothesis ” بأنها كل فرضيَّة إضافية يظهر للناظر أن واضعها إنما أتى بها لإنقاذ نظريته من السقوط بإزاء ما تُقابَل به من اعتراضات وجيهة حقها أن تكفي لإبطال تلك النظرية. 

المصدر: مقال له بعنوان “أدوات ساغان في كتاب: العالم المسكون بالشياطين”

(2) كتاب معيار النظر، أ.د. حسام بن مسعود، المجلد الثاني ص١٩٧.

#سراج

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى