قضايا

الزمان والمكان والتجسيم وخلط مافي الأذهان بمافي الأعيان

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

“يحكى عن بعض قدماء الفلاسفة تجويز وجود مادة خالية عن جميع الصور، ويذكر هذا عن شيعة أفلاطون، وقد رد ذلك عليهم أرسطو وأتباعه.
وقد بسطنا الكلام في الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبينا أن ما يدعيه شيعة أفلاطون من إثبات مادة في الخارج خالية عن جميع الصور، ومن إثبات خلاء موجود غير الأجسام وصفاتها، [ووجود مُدّة موجودة قائمة بفسها غير الأجسام وصفاتها] من إثبات المثل الأفلاطونية: وهو إثبات حقائق كلية خارجة عن الذهن غير مقارنة للأعيان الموجودة – كل ذلك أمور ذهنية جردها الذهن وانتزعها من الحقائق الموجودة المعينة، فظنوها ثابتة في الخارج عن أذهانهم.
كما ظن قدماؤهم الفيثاغورية أن الأعداد أمور موجود في الخارج، بل وما ظنه أرسطو وشيعته من إثبات مادة في الخارج مغايرة للجسم المحسوس وصفاته، وإثبات ماهيات كلية للأعيان مقارنة لأشخاصها في الخارج. هو أيضا من باب الخيال؛ حيث اشتبه عليه ما في الذهن بما في الخارج، وفرق بين الوجود والماهية (الصفات) في الخارج.” انتهى كلامه
– شرح الأصبهانية

____
قلت: فبين شيخ الإسلام هنا مغالطة ضاربة أصولها في جذور كثير من الفلسفات وتسمى الفلسفات “المثالية”، وهي الفلسفات التي تغلو في المجردات، فتجرد الصفات عن سياقها (الموصوف والكيفية التي تليق بذاته)، تجرد الفعل الإنساني عن سياقه (زمانه ومكانه والفاعل والمعفول به والدافع والعاقبة والضرورة وقدرة الفاعل وعلمه)، وتجرد الكلام عن سياقه فتجعل اللفظ المفرد ذو معنى ثابت في أي سياق وضع فيه، إلى آخر هذه الأغلوطات.

ومن مخازي هذه الفلسفة أنها تجسم ما حقه الوجود الذهني، فتجعله قائم بنفسه خارج الذهن مشارًا إليه، وتجعل الوجودي الذي حقيقته خارج الذهن قائمًا بنفسه وجودًا عدميّا لا يتصور إلا في الذهن ولا يُقدّرُ إلا ممتنعًا خارجه!

فمن أغلوطاتهم الباقية إلى هذا الزمان، جعلهم الزمان والمكان التي هي صفات نسبية ضرورية بين الأشياء الموجودة خارج الذهن، أمورًا قائمًا بنفسها منفكة عن الموصوف بل وتحتويه.

فالمكان الذي هو نسبة الفوق والتحت والجهة بين شيئين يجعلونه شيء ثالث قائم بنفسه اسمه الجهة، أو اسمه الفراغ، بغض النظر عن الموصوف به أكان مخلوقًا أم غير مخلوق، كل هذا عندهم هو شيء قائم بنفسه غير الله واسمه المكان وهو كالصندوق العملاق الحاوي لكل شيء وهو مخلوق!
وطبعًا لا ينفعهم هذا القياس بشيء إذ النسبة المكانية التي يعقلها العقلاء والعرب هي أن النسبة المكانية ليس شرطًا أن تكون علاقة احتواء أصلًا !
بل الفوق والتحت أماكن ولا يلزم الإحتواء، فالاحتواء هو علاقة الشيء مع ما بداخله، وهناك نقيضه وهو الخارج!
ولا يوصف الشيء بأنه محتوٍ لما هو خارجه أصلًا!
ومع ذلك فالخروج يصح كإجابة لسؤال “أين” وهو السؤال عن المكان!
هذا الوجه الأول

أما الثاني: فإن قولكم إن المكان صندوق عملاق تقع الأشياء المتعينة تعينًا حقيقيّا خارج الذهن داخله هو نفس ما به نهدم مذهبكم إذ أنتم عدتم إلى القول بأن هناك شيء قائم بنفسه لا يحتاج إلى مكان غيره من خارج نفسه ومع ذلك هو مكانٌ لغيره إذ بينه وبينهم نسبة معينة وهي نسبة الداخل، فعدتم إلى القول بأن المكان هو نسبة بين شيئين وهي الجهة لكن قلتم هي جهة الداخل وأن كل شيء داخل هذا المكان إلا شيء واحد وهو نفس المكان فهو ليس داخل نفسه! فتناقضتم ونقضتم مذهبكم.

وجعلوا الخلاء العدمي الذي يقدّر في الذهن موجودًا خارجيّا يوصف بصفات الموجودات مع كونه باقِ على اسم الخلاء وحقيقته عندهم، ثم قالوا كل ما يوجد في مكان حقيقي ويوصف بأنه أكبر من غيره أو أصغر ويمتاز عن الخلاء العدمي بوجود حقيقي وذات حقيقية كبيرة فهو محاط بهذا الخلاء الوجودي!
فانظر إلى أي انحطاط عقلي وصلوا وهم يدعون النسبة إلى المعقول وقل الحمد لله على نعمة السنة.

وأما الزمان، فهو كذلك صفة نسبية بين الحوادث والحادث هو ما يبتدي بعد عدم نفسه سواء كان فعلًا أو ذاتًا قائمة بنفسها أو صفة لها.
وهي نسبة القبل (الماضي: أي ما وجد وانعدم) والبعد (ويدخل فيه المستقبل: أي ما لم يحصل بعد فهو الآن عدم لكنه سيحصل لاحقاً) والأثناء (وهو الموجود الحاضر الآن)
فيقال: قبل أن يولد فلان، تزوج أباه بوالدته، ثم أثناء ولادته تألمت والدته، ثم بعد ولادته أذن والده بأذنه اليمنى.
فكما ترى هي نسبة بين الحوادث وليس الزمان شيء قائم بنفسه البتة.

ولو كان شيئًا قائمًا بنفسه لقيل كما قلنا في المكان أن الأمر سيعود بالضرورة إلى نسبة زمانية، فيقال هذا الزمان الموجود القائم بنفسه أهو موجود الآن أم في الماضي أم المستقبل، فإن قلت موجود الآن فقد وصفت الزمان بزمان! فعدت إلى جعل الزمان صفة وهذا هو المطلوب.

ومن وجوه بطلان هذا الزعم كذلك أن معنى المخلوقة لازم للحدوث لزوم من طرف واحد، ومعنى ذلك أن كل مخلوق حادث وليس كل حادث مخلوق
فالحادث القائم بذات الله كأفعاله الاختيارية ليست مخلوقة كما بيننا وأما المنفصل عن ذاته فهو غيره وكل ما هو غير الله مخلوق.
فإذا قدرنا أن الزمان حادث وكان معنى الحادث ما هو مسبوق بعدم نفسه فلا معنى لكون الزمن مسبوق بشيء أصلًا لأن السباق واللحاق والقبل والبعد هي معانٍ زمانية، فليس عندكم إلا أن تقولوا إما أن الزمان صفة أو أنه موجود أزلي مع الله! وحتى هذه لا تنفعكم لأنكم ستجعلون بينه وبين الله مزامنة أي أن الله موجود وبنفس الوقت معه غيره وإذا جعلتم الزمن بينهم صفة نسبية وبطل قولكم على كل تقدير.

والصفة لا يطلق خلقها ولا عدم خلقها بإطلاق لأنها لا تخلق خالية عن الموصوف!

والصفة من حيث هي مجردة عن الموصوف معنى كليّ يستوعبه الذهن ويجرده بغض النظر عن الموصوف به كفهمه لمعنى الطول بغض النظر عن ما هو الطويل بالضبط، لكن في الخارج لا يوجد الطول مجردًا عن شيء طويل!

وكذلك في المخلوقية:لا يقول الصفة مخلوقة من حيث هي! لكن قد تكون صفة نقص فلا توجد إلا في الذوات المخلوقة.
وبالنهاية الأصل أن يقال: صفة المخلوق مخلوقة، وصفة الخالق غير مخلوقة وفعل المخلوق مخلوق وفعل الخالق غير مخلوق.
وليست كل الحوادث مخلوقة فإن أفعال الله غير مخلوقة إذ لم يفتقر فيها إلى سبب خارجي يخلقها له، ولا هو الذي خلق لنفسه صفة بعد عدمها بل هو فعل بصفاته الموجودة فهو سبحانه لم يزل قادرًا على الكلام متى شاء كيف شاء ففعله ليس بمخلوق إنما هو مبتدأ بعد عدمه إذ لم يكن هناك حكمة من فعله قبل ذاك الوقت.

كنداء موسى فهو نداء وكلام في وقته المناسب لا قبل أن يُخلق موسى ولا بعد أن يموت! وقد قال السلف أن كلام الله منه “بدأ” وإليه يعود
وقال الله تعالى: “يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن”
وجاء عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي: “يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار”
ومعناه أن الله هو من يقلب الليل والنهار والحوادث المخلوقة بأفعاله وأوامره النازلة على الملائكة
وجاء في الحديث عن رسول الله أنه قال: “كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قالَ: وَعَرْشُهُ علَى المَاءِ.”

فكما ترون هناك زمان مقدّر قبل أن يخلق الله الشمس والقمر أصلًا، فلا يصح أن يقال إن الزمان هو الشمس والقمر، بل هم ما به يقدّر البشر المدد الزمانية بحساب مدة حركتهم الثابتة والآن انتقلوا لحساب مدة حركة عقارب الساعة الثابتة والتقدير بهذا.

والكلام في هذا يطول وسأنقل مشجرات تُلخص مسألة الزمان والمكان في التعليقات وبعض المحاضرات والمقالات ذات الصلة لمن يريد الاستزادة.

وأما ما يتعلق بجعل مافي الخارج ذهنيّا فقد جعلوا وجود الله الخارجي وجودًا معقولا محضًا وقالوا نحن ننزهه عن أن يكون محسوسًا لأن هذا يشبهه بالمحسوسات، فقلنا المحسوس الموجود خارج الذهن أكمل من المعقول الذي لا يكون محله إلا في الذهن، فأنتم قررتم من تشبيه إلى تشبيه أحطّ منه بدل من أن تلتزموا أن لله المثل الأعلى!
وكونه محسوسًا لا يلزم أن يشابه غيره من المحسوسات وهذا محض تحكم منكم إذ أنتم أثبتموه ذاتًا وقلتم لا يشابه غيره من الذوات فمسألة القدر المشترك المعنوي هي لعنة عليكم لازمة لكم إلى يوم الدين ولا مفر منها أبدًا، لأن الكلام اللغوي ممتنع دونها، والكلام في الغيبيات بخصوص ممتنع دون توقيع المعاني الكلية المنتزعة من الشاهد عليها من باب قياس الغائب على الشاهد بقدر مشترك ضروري، مثل علمنا أن مافي الغيب خالق لما في الشاهد والخالق لا يكون إلا موجودًا لأن العدم لا يخلق وأمثال هذه المعارف الفطرية التي لا تحتاج تكلف تعليم واستدلال فحتى الأطفال يدركونها وقائمة بنفسهم قبل النظر المتكلف المتعمق الفلسفي سواءً علموا كيف يعبرون عنها أم لا فليس تعلم اصطلاحاتكم الفلسفية واجب على العقلاء حتى يدركوا بحسهم الباطن ما يعقلوه من نفوسهم ويضطرون إليه من معارف!

فلما جعلوا الصفة غير الموصوف في الخارج بل بينهم علاقة تركيبية وقالوا أن الأعراض التي هي الصفات مركبة في الجوهر التي هي الذات الموصوفة! وفي الخارج لا يقع التركيب إلا بين ذاتين وجوديتين بينهم امتياز حسي في الأصل! لكن لما قاسوا هذا القياس العجيب صار لزاما عليهم أن يقولوا هذا الرب الحقيقي الذي تمتاز منه صفة عن صفة فيمتاز وجهه عن يده مثلًا هذا لا بد أنه اسمه جسم فقلنا ما الجسم قالوا ما يٌشار إليه ويوصف بأنه أكبر من غيره أو أصغر، فقلنا فربنا يوصف بهذه الصفات فقالوا إذا هو جسم وكل جسم فهو مركب من صفاته هذه وكل مركب مصنوع وكل مصنوع حادث وكل حادث مخلوق وأكملوا هذا الهذيان إلى آخره.

فسبحان من عاملهم بعكس مقصودهم.

ومن الطبيعيين من عامل القوانين الرياضية التي صيغت كوصف للتفاعلات بين طبائع الأشياء الوجودية بأنماط متكررة يمكن وصفها بشكل كمي وعددي، عاملها على أنها موجودات في الخارج قائمة بنفسها لها قوى خاصة وتخلق وتفعل من دون الله! وكأن الأعداد قائمة بنفسها بشكل منفك عن المعدودات! فوافقوا الفيثاغوريين الذين قالوا إن سر الكون الأعظم هو أرقام تحكمه وأن هناك أرقام عظيمة هي أعظم من أرقام أخرى ووقعوا بشرك الطلاسم وغير ذلك من خرافاتهم.

والكلام في هذا يطول كذلك وليس هذا مقام بسط أكبر إلا أني سأضع في التعليقات مواد فيها تفصيل أكبر.

هذا والله أعلم

#الغيث_الشامي

 


للاستزادة:

في مسألة مغالطة خلط مافي الأذهان بما في الأعيان:

مقال: مغالطة التشييء (أكبر مغالطة فلسفية في التاريخ)

في مسألة الزمان:
مشجرة في مسألة الزمن وقدمه ومخلوقيته ومعناه:

بودكاست | حوار مع حمادة عرب حول “بدعة الاله اللازماني ومفهوم الزمن”

مقال: العلاقة بين معنى الزمان والسببية

في مسألة المكان:

مشجرة: القول في المكان من حيث المعنى والمخلوقية من عدمها

في مسألة الجسم والتجسيم:
محل النزاع هل هو التجسيم أم المجسمة؟

في اتهام أهل البدع لأهل السنة بالتجسيم وثلاثة ردود مختصرة عليهم:

صوتية بعنوان: الخلاف اللفظي ومسألة التجسيم

مقال: لا يهولنك قوله (عين التجسيم)

في مسألة القوانين الطبيعية والصياغة الرياضية:
محاضرة: حقيقة العبارة الرياضية وجوديّا #1
محاضرة: حقيقة العبارة الرياضية وجوديّا #2

مقال: في قولهم: كيف تسقطون الاعتقاد الوجودي في نظرية ما، ومع ذلك تقبلون معادلاتها؟؟

مقال: في قولهم: قد ثبت هذا رياضيًّا، ولغة الأرقام لا تكذب!

مقال: قوانين الطبيعة بين الصياغة الذهنية والوجود الخارجي

#الغيث_الشامي

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى