قضايا

تنزيه الدين عن التديّن!

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

بتنا نسمع كثير من المقولات والعبارات التي تشترك بأن ظاهرها “تنزيه الدين واحترامه” مع كونها تستبطن تنحيته وأنه غير كفؤ لحمل مسؤولية ما يفترض أنه نزّه عنه والذي قد يصل إلى أن يكون “الحياة كلها فضلًا عن السياسة، يقول م. عبد الله العجيري في هذه النوعية من الألفاظ تحتاج إلى إزالة البهرجة اللفظية:

“فبعض المقولات تتسم بقدر من الحلاوة اللفظية، سجعة لطيفة، أو صياغة طريفة، تحمل بعض النفوس على أن يهوى صحتها، وإن من البيان لسحرة، فإذا أزيل مكياج البهرجة اللفظية عن المقولة، وعوملت بصرامة كأفکار مجردة؛ انكشف في كثير من الأحيان وجه الخلل فيها بمجرد ذلك”(1)

الأصل الفلسفي المختبئ:

عبارات ظاهرها التنزيه وتستبطن التعطيل: الدّين أطهر من ذلك، لا يجب أن يدخل الدين في السياسة لأنها وسخة وهو طاهر، الدين مقدس مكانه في المسجد المقدس فقط ولا يخرج لوسخ الدنيا.

هذه العبارات كلها يفترض في ظاهرها انها تحمل مسلّمة واحدة وهي أن الدين طاهر، نسلّم بهذا إجمالًا لكن يحق لنا أن نسأل ما معيار الطهارة هنا؟ هل هو مأخوذ من داخل الدين نفسه؟ بالتأكيد لا، إذًا لا يلزمنا ما لزمكم من آرائكم الذّاتية بل وليس لكم أن تحكموا على الدين والمتدينين بتحسينكم الشخصي لما قبلتموه من أفكار وهذا ما أقوله ابتداء.

مع أن الدين بالفعل يتدخل بأحكامه في هذه الأمور التي حرمتموها فعلًا لكن هذه العبارات تعامله وكأنه طفل صغير متهور لا يدري مصلحة نفسه! فتاة مراهقة يُخاف عليها أن تضيّع عفتها وطهرها دون أن تحسب حساب مستقبلها!.

معيار الطهر هنا مأخوذ من فلسفة ترى نفسها أعلى من الأديان كلها! مع كونها هي في نفسها دين كما يصرح بذلك كثير من الفلاسفة ويحضرني هنا قول الفيلسوف إدوارد فيزر:

“هذه الديانة المضادة تعطي إحساسا بالهوية ومعنى لأولئك المدينين بالفضل لها، وميتافيزيقيا لتفسير العالم من خلالها، ونظام قيم للعيش من خلاله، حتى لو كان كل هذا ليس أكثر من نفي نوع الميتافيزيقيا والأخلاق المرتبطة بالدين: أي إيجاد ميتافيزيقيا مضادة، وأخلاق مضادة”

وكذلك فهي تحدد لسائر الأديان معايير الصواب والخاطئ والشر والخير وتقصقص لهم أجنحتهم وتضعهم في صندوق صغير متظاهرة بأنها هكذا تحميهم من الاستغلال، فكما أن هذه الفلسفة تمنعك من الزواج قبل ١٨ بحجة أنها تحميك فهي تمنع الدين من تطبيق كثير من أحكامه بل واعتبار نفسه صحيحًا أمام سائر الأديان بحجة أنها تحميه، هذه الفلسفة تسمى “humanism” وتتفرع منها كثير من صور فلسفية أخرى مثل “الليبرالية” و”العالمانية” وهي تصنف نفسها بأنها لها سلطة الأبوة على البشرية بلا نقاش!، نفذ ثم اعترض، أبوة على البشرية بكل ما تتضمنه من معتقدات وأفعال سواها.

تضع مثل هذه الجمل لتتظاهر باحترام الدين لكن هذه الجمل نفسها تفرغ الدين من آخر قطرة من معناه، إذا كان الدين لا يحمل في نفسه معيار الطهر بل اتصافه بأنه طاهر يعرف أساسًا لمطابقته “المتخيّلة” لقيم الإنسانوية، ولا يدخل في معيشة الناس وزواجهم وقراراتهم الحياتية المصيرية، ولا يدخل السياسة ولا القوانين بل هو ككيان خاضع بالكلية لقانون بشري أعلى يرسم له حدوده المعنوية بعدما أزاله من الخارطة الجغرافية الحقيقية!. (أي بإزالة الحكم بقوانينه تحقيقًا في أي دولة، وصارت الدولة الدينية مسبّة) فهكذا صار الدين هذا ليس بدين وما اتى في محله هو الدين! فصارت الإنسانوية ديانة أكثر مما تريده من سائر الأديان.

هكذا أصبح الدين مجرد “التظاهر باحترام الخالق” لكنه لا يحمل سلطة معرفية على معتقدات الإنسان والصواب والخطأ فهذه يحملها “العلم” وهو عندهم ما اتفقت عليه الأكاديمية الغربية الحديثة من نظريات ومصادر معرفة وطرق استدلال، ولا يحمل سلطة تشريعية ليعرف ما هو الصواب والخطأ الأخلاقي ويأمر به فيطاع دون نقاش ودون تطرق التأويل البشري الوضعي لكلامه، بل يصبح كلامه كقصص الأطفال والرموز التي هي للعظة والعبرة بما بين السطور لا أنها حقائق تاريخية أو مستقبلية حاصلة أو ستحصل تحقيقًا.

هذه الخدعة تنطلي على كثير ممن لم يعرفوا عن الدين سوى خرقة توضع على الرأس يخرج منها بعض الشعر ولا تغطي الأذنين والرقبة!

وعلى شخص لا يعلم للقرآن مصدرًا للتفسير الموضوعي وأن القران هو أكثر كتاب تم التلاعب به تاريخيّا ولذلك يكفيه أن يفهمه بنفسه في قرائته التي لا يقرأها أصلًا إلا من سنة لسنة هذا إن فعل، يتحاشى بذلك تشدد الشيوخ تجار الدين

شخص لا يتصور الخروج عن مجتمع من الفتيات والأصحاب والرقص واللهو ولكن عائلته من صغره أخبرته أنها عائلة محافظة لذلك لا يجب أن يشرب الخمر أو يمارس علاقة قبل الزواج مع فتاة “فقط هذا الدين بالنسبة له حرفيّا”

وطبعًا هذه الصورة الغالية من أشخاص ما عرفوا عن الدين غير اسمه فقط، وهناك أشخاص هم على هذا الطريق في عالمنا الإسلامي ودولنا العربية متأثرين بالنموذج التركي مثلًا الذي تلبس تحقيقًا بما صورته لكم أعلاه! فتأمل.

المصدر
(1) زخرف القول 16(2) - Edward C. Feser, The Last Superstition, a Refutation to the New Atheism

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى