العقيدةقضايا

نقد خطاب تقديم “العقيدة العلمية” هو من المثالية الفلسفية

الرد على من قال "لقد تأثرتم بقول الفلاسفة إذ صرتم تجعلون العقيدة العلمية مقدمة على النفع العملي"

بسم الله الواحد الأحد والصلاة والسلام على من تشرفنا باعتقاد ما اعتقد، محمد ابن عبد الله الذي كما أخبر مجاهد على العرش يوم القيامة قعد.
أما بعد، فقد خرج علينا كاتب مميع يدعى “شريف محمد جابر” يكتب في موقع السبيل الذي عرف مؤسسه بالتمييع (مع أنني أعلم أن هذه ليست مذمة عند أمثاله وهم دعاة الوسطية المتجنبين للجفاء كما يزعمون) يقول:

“فكرة وجود مسائل عقائدية لا تَعَلُّقَ لها بالنفع والعمل وأنّها أشرف المسائل؛ هي فكرة فلسفية خيالية، قال بها الفلاسفة تحت باب أنّ الحقّ يُراد لذاته والخير يراد للعمل به كما نُقل عن ابن سينا وغيره، أي أنّ هناك معارف يُسعى إلى معرفتها لمجرّد معرفة الحقيقة دون أن يُبنى عليها عمل.”
ويقول “ومن العجيب أن تتسرّب هذه الفكرة إلى التيّار السلفي المعاصر في باب “الأسماء والصفات”، فلا توجد صفة لله عز وجل وصف بها نفسه في كتابه أو اسمًا سمّى به نفسه سبحانه وتعالى إلا ولمعرفتها – على قدْر ما يُطيق الإنسان – مقتضى سواء في أعمال القلوب أو الجوارح، وفي هذا العمل المبني على المعرفة نفع للإنسان في الدنيا والآخرة.
ولهذا علّمنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن ندعوَ قائلين: “اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ” (صحيح مسلم).
ورويَ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: “مَا مِنْ حرفٍ أو آيةٍ إِلا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا قومٌ، أَوْ لَهَا قومٌ سيَعْمَلُونَ بِهَا”.”

قلت: سبحان الله، فكرة فلسفية تسربت إلى السلفيين! رمتني بدائها وانسلت، فمن الذي اشترط أن يكون الاعتقاد بشيء من العقائد التي جائت بها الآيات عملًا قلبيّا مستقلًا عن موضوعها أو بالجوارح؟! من أين هذا الإلزام؟
وما معنى النفع عندك؟

ألست قد قلت:

“فلا توجد صفة لله عز وجل وصف بها نفسه في كتابه أو اسمًا سمّى به نفسه سبحانه وتعالى إلا ولمعرفتها – على قدْر ما يُطيق الإنسان – مقتضى سواء في أعمال القلوب أو الجوارح، وفي هذا العمل المبني على المعرفة نفع للإنسان في الدنيا والآخرة.”

فإذًا على كلامك النفع هذا لا يشترط أن يكون دنيوي، بل الأصل في النفع أنه هو الأخروي لقول الله تعالى ” قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (17″
ومن المعلوم أنه لا اسم لله إلا ويتضمن صفة وهذا وجه كون أسماء الله حسنى إذ لو كانت أعلامًا محضة نرددها بلا معاني وحقائق مثبتة معلومة عن ذات الله فما وجه الحسن الذي يختص به كل اسم ويتميز به عن الآخر؟!
ثم من قال لك أننا يجب علينا أن نقول أن العمل بما جائت به الآية هذا لا يندرج تحته التسليم والتصديق؟! إذ نفس المعرفة بنزول الآيات هذا قد يشترك فيه المؤمن والكافر المعاند، ولكن التصديق به هذا بحد ذاته عمل قلبي يصلح قلب المؤمن ولا بد نعم أن يقتضي شيء على ظاهره سواء كان فعلًا أو تركًا، فالإيمان عندنا قول وعمل، وتفصيله قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح وكله عندنا يتلازم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:
“ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ” (1)
فنحن لا نقول إن الإيمان بالآيات يقتضي عمل قلوب وهو نفسه ليس من أعمال القلوب! بل هو ولا شك من أعمال القلب، إذ هو عمل إرادي قد مدح الله فاعليه فقال: ” الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” إلى أن قال ” أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”
فالتصديق أمر زائد على المعرفة، والمعرفة قد تكون إضطرارية لا تعلق للإرادة فيها، وقد تحصل للمؤمن والكافر فلا يستطيع دفعها عن نفسه ولو أراد، أما التصديق فهو من أعمال القلوب الذي يمدح فاعلها وهي ولا شك تقتضي شيء في الظاهر فعل أو ترك، فمثلًأ إيماننا بأن الله يضع قدمه حقيقة على النار يوم القيامة فينزوي بعضها إلى بعض كما جاء في الأثر، هذا مجرد التسليم به والتصديق وهو أمر زائد على المعرفة هذا عمل تعبدي، بل ومعرفته نفسها تزيد الإيمان إذ هي تزيد قول القلب، كما جاء في سؤال ربه “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي”
فالإيمان القلبي المعرفي كذلك يزداد، فكلما عرفت صفة عن الله أثبتها لنفسه، ستستفيد ولا بد وسينفعك ذلك نفعًا عظيمة من أكثر من باب، فأولا في إثباته تجنبًا وتركًا لسلوك المبتدع الملحد في أسماء الله وصفاته وداخلًا في الذين يؤمنون بالغيب:

قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رضي الله عنه: (2)
“أَخْبَرَنَا اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ ذُو سَمْعٍ وَبَصَرٍ، وَيَدَيْنِ، وَوَجْهٍ، وَنَفْسٍ، وَعِلْمٍ، وَكَلَامٍ، وَأَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، فَآمَنَّا بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ كَمَا وَصَفَهُ بِلَا كَيفَ، وَنَفَيْتَهَا أَنْتَ عَنْهُ كُلَّهَا أَجْمَعَ بِعَمَايَاتٍ مِنَ الحُجَجِ، وَتَكْيِيفٍ.”
وثانيّا أن الله لا يصف نفسه إلا بأوصاف تستحق الحمد ومشاهد تظهر بها عظمته، فالإيمان بحصولها يحدث من الخشوع والرهبة لله ما به تصلح دنيا العبد وآخرته، والله لم يكن أبدًا ليخبرنا بشيء معرفته لا تؤثر في قلب العبد، إذ مجرد زيادة العبد بالعلم بربه هذا من نعيم الدنيا ولا شك، فالفلاسفة لما كان العلم عندهم لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب أخروي، ولا أنس بالله ولا فضل في معرفة صفاته على غيرهم فضلهم الله به، بل كله رجم في عمايات الغيب، كان نعم ذلك سفه في عقولهم ولا شك، ولكن أيقاس المؤمن الذي يصف الله بما وصف به نفسه على أحوالهم عندك! سبحان الله.
ثم أليس في إيجابك حصول نفع في الدنيا غير منفعة الإيمان بها أو حتى إيجابك أن يقتضي الإيمان شيء زائد على نفسه من أعمال قلوب تشعر العبد بما يجعله مثلًا يرتاح نفسيا أو يجدّ في عمله الباقي أو أن يعيش حالة روحية سعيدة بمقتضى الصفة المعينة، كصفة الرحمة مثلًا، أو أن يترتب عليها عمل دنيوي مخصوص ينفعه فهذا لا فائدة منه ولا طائل ورائه واعتبارك أنك مجرد الدفاع عن العقائد الدينية والخوض في المجادلة بالحسنى مع منكرها والمشكك بها فهذا إضاعة للوقت فيما لا ينفع مشابهة لقول الفلاسفة الدنيويين الماديين المعاصرين! فلا نحتاج أن نرجع ورائك لليونان لنبحث لك عن سلف وسلفك ماثل أمامنا، فسبحان من مكننا من قلب قولك عليك!
وأنت تعرف جيدّا أيها المكابر أن سلفنا كل القرون الثلاثة الأولى المفضلين، من علماء أهل السنة والجماعة حيث أقاموا الدنيا ولم يقعدوها على الجهمية حيث “قال أبو سعيد: افتتح هذا المعارض كتابه بكلام نفسه منشئا لكلام المريسي مدلسا على الناس بما يهم أن نحكي ويُرى مَنْ قبله من الجهال ومن حواليه من الأغمار أن مذاهب جهم والمريسي في التوحيد كبعض اختلاف الناس في الإيمان في القول والعمل والزيادة والنقصان وكاختلافهم في التشيع والقدر ونحوها كيلا ينفروا من مذاهب جهم والمريسي أكثر من نفورهم من كلام الشيعة والمرجئة والقدرية وقد أخطأ المُعارض في محجة السبيل وغلط غلطا كثيرا في التأويل. لما أن هذه الفرق لم يكفرهم العلماء بشيء من اختلافهم والمريسي وجهم وأصحابهما يكفرهم أهل الفرق لم يشك أحد منهم في إكفارهم. اه”

وها هو الإمام أحمد قد تحمل الجلد والضرب فقط في مسألة خلق القرآن فما باله تحمله كله على مسألة لا يترتب عليها عمل! أكان مجنونًا مثلًأ يفعل شيء لا طائل من ورائه عبثًا!
ولكن كان صنيع السلف كما ترى في الأثر التالي:

عن ابن الدَّيْلَمِي قال: أتيتُ أُبَيَّ بن كعب فقلتُ: في نفْسي شيء من القدر، فحَدِّثْني بشيء لعل الله يُذْهِبَه مِن قلبي. فقال: «لو أنفقتَ مثل أُحُد ذَهَبًا ما قَبِلَه الله منك حتى تؤمن بالقدَر، وتعلمَ أنَّ ما أصابك لم يكن ليُخطِئك، وما أخْطأك لم يكن لِيُصِيبَك، ولو مُتَّ على غير هذا لكنتَ مِن أهل النار». قال: فأتيتُ عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدَّثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما احتجاجك السمج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ” (صحيح مسلم).

فإنا ننزهه عن مقصودك، أليس قد قال وقلب لا يخشع، فها هو قرن العلم بحال القلب، فكيف يكون حال قلب جائه شيء من جهة الرسول وأخذ يتقرمط عليه ويؤله لأجل شيء جائه من فيلسوف يرجم بالغيب تدعي أنت أننا نقلده وما قلده والله غير ائمتك!، فلا شك معرفة شيء عن الله لا بد أن يورث خشوعًا في القلب وبهذا نقلب الاحتجاج بالحديث عليك

وأما أثر ابن مسعود: ورويَ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: “مَا مِنْ حرفٍ أو آيةٍ إِلا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا قومٌ، أَوْ لَهَا قومٌ سيَعْمَلُونَ بِهَا”.

فكذلك نقول، ليكن العمل هو عمل قلب يقتضي صلاحه ومن ثم استقامة العبد وحبه لربه فكان ماذا؟
أليس شرف العلم من شرف المعلوم، فأي علم أشرف من العلم بالله، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ

ينقل الإمام السلفي عثمان بن سعيد شيء مهم في هذه المسألة : وأما إنكارك أيها المريسي على رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله يتراءى لعباده المؤمنين يوم القيامة في غير صورته. فيقولون: نعوذ بالله منك؛ ثم يتراءى في صورته التي يعرفونها؛ فيعرفونه، فيتبعونه.اه
وبعد أن بيَّن الدارمي أن الحديث إسناده صحيح وأنه كما قال: كأنك تسمع رسول الله يقوله من جودة إسناده. اه

شرح مقصد الحديث ونقض دعوى بشر المريسي أن هذا يدل على شكهم في ربهم، تعالى فقال:
ويلك إن هذا ليس بشك ولا ارتياب منهم، ولو أن الله تجلى لهم أول مرة في صورته التي عرفهم صفاتها في الدنيا لاعترفوا بما عرفوا، ولم ينفروا، ولكنه يُرى نفسه في أعينهم لقدرته ولطف ربوبيته في صورة غير ما عرفهم الله صفاتها في الدنيا، ليمتحن بذلك إيمانهم ثانية في الآخرة، كما امتحن إيمانهم في الدنيا، ليُثبتوا أنهم لا يعترفون بالعبودية في الدنيا والآخرة إلا للمعبود الذي عرفوه في الدنيا بصفاته التي أخبرهم بها في كتابه واستشعرتها قلوبهم حتى ماتوا على ذلك. فإذا مثل في أعينهم غير ما عرفوا من الصفة نفروا وأنكروا إيمانهم بصفة ربوبيته التي امتحن قلوبهم في الدنيا بها. اه
فنحن ما عرفنا ربنا ولا عظمناه دنيا ولا آخرة إلا بصفاته، ونزعم أن الله ما أنزل علينا شيء من صفاته إلا وبمجرد الإيمان فيها نفع من كل وجه، علمت بذلك أم جهلته، فالتسليم بها وترك الجحود بها ثم معرفة أوجه عظمة الله وكثرة صفات الكمال التي يتصف بها حتى لا يكاد العبد يحصرها لكثرتها، هذا نفسه يورث العبد الخشية من المعصية والطمع في هذا الكيان الذي يمثل الكمال المطلق وهو الله سبحانه.
فأنت في قولك هذا تتأرجح وينقض أول قولك آخره، فتارة تقول الله لا يصف نفسه إلا بما فيه فائدة للعبد في الدنيا والآخرة، ثم تنكر علينا أننا نعتبر إذا مبحث الأسماء والصفات مهم ونخوض فيما لا يترتب عليه فائدة بزعمك!، ثم تجعل هذا النفع لا يظهر إلا بصورة عمل!، مع أنك لم تفسر لنا ما معنى هذا النفع وكيف يحصل وما الحالة التي نزعم أنه يغيب فيها أصلًأ!، إلا إن كنت تفهمه كما يفهمه الفلاسفة الماديين النفعيين المعاصرين!، وتارة تجعل العمل عمل الجوارح وتارة تضمن فيه عمل القلب، وتارة تخرج التصديق بالتحكم منه، وهذا والله إن دل فإنه يدل على أن الجهل في هذه المباحث وعدم “خوضكم” فيها أثر عليكم فعلًا تأثير سلبي لو أن الله كفانا بأن جنبنا إياه وحده لكان نفعًا كافيًا.
#الغيث_الشامي

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button