قضايا

جواب سؤال: هل يصح أن يقال أن قانون السببية مخلوق ؟

جواب سؤال: هل يصح أن يقال أن قانون السببية مخلوق ؟ أو أن عدم التناقض مخلوق ؟ أو يقال إن الله خالق قوانين المنطق أو الأخلاق.
(المقال للمتخصصين)
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن أهمية جواب هذا السؤال عند الباحث في العقائد تكمن في أن موقفه منه تحدد موقفه من العديد من عقائد أهل السنة وردوده على المخالفين من الجهمية الذين يحتجون بحجج مبنية على موقف معين من هذا السؤال.
ثانيًا: أن هذه القضية يجب النظر فيها لعدة اعتبارات منها الذهني المعرفي ومنها الوجودي العيني.
وأولًا علينا أن نحدد ما هي قوانين المنطق أو القضايا الأخلاقية الضرورية ولماذا هي يصح فيها مسمى القوانين أصلًا وما حدود هذا المعنى وما الفاصل بينه وبين غيره من أنواع القوانين ؟
وأقول وبالله التوفيق أن هذه الجمل صيغت على اللسان البشري على هيئة صيغة قانونية شمولية مثل “كل حادث له محدث” كل “حادث له سبب” ، “كل نقيضان لا يجتمعان” “الشيء إما مخلوق أو غير مخلوق”
وبما أن اللغة واللفظ يطابق المعنى المعلوم والمعنى العلوم يطابق جزئياته في الخارج فإن هذه الألفاظ صيغت بعد تحصل العلم بهذا المعنى في النفس بعد انتزاعه من جزئياته في الخارج حال تعلم اللغة، فإن الأصل فيه جزئياته في الخارج ثم إن العقل الفطري مهيء بآليات معرفية يمكنها بشكل تلقائي لا يلجئ للنظر من حيث الأصل أن تكوّن هذه الكليات في النفس ويحصل استيعاب هذه المعاني بشكل فطري فتنزل في محلها في النفس ويفرق الذهن بين المعاني الضرورية وتلازماتها وبين المعاني العارضة للكيفيات المخلوقة فتقع محل الاستقراء الناقص ولا تعمم على كل الوجود، فهذه ملكة فطرية أودعها الله فينا.
وهناك فرق هنا بين المدرٍك والمدرَك، فالمدرَك بفتح الراء هو مطابقية هذا المعنى الذي صغناه بألفاظ من عندنا للواقع على كل الجزئيات الممكنة عقلًا ( على المعنى العام للإمكان وهو عدم الامتناع ).
فإدراكنا لهذا المعنى مخلوق ولا شك، علمنا به مخلوق أما مجرد كونه لم يزل له مصاديق في الخارج ينطبق عليها علم من علم وجهل من جهل فهذا لا يصح أن يقال إنه مخلوق لماذا ؟
لأنه لم يزل هناك ما يصح عليه هذا المعنى في الخارج وهو الله نفسه سبحانه، فالله لا يجتمع في ذاته النقيضين كاجتماع النقص والكمال على أي صورة من الصور مثلًا، ولا يجوز أيضًا في أي وقت أن يكون الواقع بحيث لا يصح فيه معنى أنه لا يحصل فيه شيء إلا بسبب علم من علم وجهل من جهل، فكل شيء يحدث في الواقع فالله هو منتهى تعليله التام بالنهاية.
فهل يصح تطبيق مبدأ السببية على الباري سبحانه؟
نقول يصح على وجه أنه هو السبب في أفعاله ومفعولاته وأن من أسباب أفعاله إرادته وقدرته بغض النظر عن نوع السببية هنا إنما الكلام عن جهة لغوية “جهة القدر الكلي المشترك بين أنواع الأسباب” بمعنى ما يدور معه الشيء وجودا وعدما، فالله ما أراد من أفعاله كان وما لم يرده لم يفعله ولا مكره له سبحانه، وينفى عنه بمعنى افتقاره هو إلى أسباب فاعلة خارجة عن نفسه سبحانه وينفى كل ما يصح عقلا ولغةً أن يسمى افتقار وحاجة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا كالافتقار إلى المحل القابل في أصل القدرة مثلًا كما يفتقر المخلوق إلى أن يكون ما يقع عليه تأثيره قابل لذلك ومهيء لذلك بمشيئة الله السابقة وكذلك يفتقر إلى الشروط والموانع الممكنة.
فالعلم بهذا المبدأ أي السببية من جهة المخلوق مخلوقة وعلم الخالق بها غير مخلوق، وهذا ينسحب على كل الضرورات إذ هي جمل نصيغها نحن صياغة لغوية يصح فيها لغة أن يقال أنها صياغة قانونية، ومع هذا فهي ليست في ذاتها قوانين موضوعة أو مجعولة أساسًا وإنما هي وصف للوازم الوجود من حيث هو والمعاني التي إن انتفت عنه لم يكن يصح فيه أن يكون شيئًا أصلًا.
فمن الذي حدد أن الواجب يجب أن يكون موجود ؟ وأن كل موجود له صفات ؟ هذا السؤال شبيه بسؤال من خلق الله !!
لا أحد حدد، قولنا وجود الله سبحانه ضروري له معنيان، المعنى الأول أنه لا معنى لعدم وجوده وهذا مستحيل، والثاني أننا نجد في نفوسنا ضرورة أنه موجود بحيث لا يمكننا إنكارها إلا وقد وقعنا بالتناقض والمحالات وكذبنا على أنفسنا وكابرنا الحقائق الجلية الواضحة التي لا تخفى على عاقل سليم النفس من الأهواء والتقليد الأعمى.
وكذلك في ضرورة أن التوحيد حسن، وأن العدل حسن والظلم قبيح (أي ما تسمى بالجمل الأخلاقية الضرورية أو الحسن والقبح الذاتي التي من مصاديق ضروريتها صفات الخالق نفسها سبحانه) فهي لأنها معاني كمالية حسنة كان الله ولم يزل متصفا بها وليس أنها لذاتها لا كمال ولا نقص إلا لأن الله اتصف بها! بل القضيتين متلازمتين ، بحيث يمكن إدراك حسن الصفة في ذاتها وأنها صفة تليق بالخالق وهنا تنطلق قاعدة الأكملية في الذهن وهو أن ما جاز لله من صفات الكمال التي تليق بذاته ويكون نقيضها نقص بالضرورة أو فقدها نقص لا كمال وجودي فيه بحيث يكون أقصى كمال وجودي متصور وجبت له أن يكون موصوفا بها ومنزها عن عدم الاتصاف بها مثل أن الكذب من حيث الأصل صفة نقص قبيحة لا تليق به سبحانه ولو احتاج المخلوق لها في أحوال الضرورة بحيث تقصر قدرته على أن يأتي بالعواقب الحسنة الأكبر ويدفع العواقب السيئة على من خلالها (خير الشرين) والقائلين بخلاف ذلك هم نفاة التحسين والتقبيح العقليين الموضوعيين من الأشاعرة والملاحدة ولأقوالهم لوازم قبيحة جدا ومخالفات شنيعة للشرع وإبطال للنبوات والعقول على حد سواء، ومثل أن 1+1=2، كل هذه الجمل من هذه النوعية.
ويقع الخلط بينها وبين ما يسمى قوانين الطبيعة التي هي بدورها لا تعدو أن تكون جمل وصفية لوصف طبيعة المواد وتفاعلاتها مع بعضها البعض في هذا العالم وهي السنن المخلوقة المطردة النابعة عن جبلة جبلت عليها المواد في العالم ونحن نصفها بجمل لها صياغة قانونية مثل “الماء في الظروف الطبيعية يتبخر بدرجة حرارة 100 C”
فهذه ليست ضرورة عقلية هي وصف لكل موجود من حيث كونه موجود أو وصف لازم لمعنى معين بحيث لا معنى أن ينطبق على شيء إلا تلازم معه المعنى الآخر على كيفية تليق بذات هذا الموصوف كقولنا إن كل موجود له صفات مثلًا، بل هو قانون وصفي راجع لكيفية مخلوقة وطبيعة مخلوقة في مواد معينة لا يجوز تعميمه على كل الموجودات.
فالقانون هذا هو جمل كلية في أذهاننا وما يطابقها في الواقع هو جميع الجزئيات التي يصفها هذا القانون، فهل يقال إن هذه المواد خاضعة لهذا القانون ؟
نسأل هنا ما الذي تقصده بالقانون؟ هل الجملة الوصفية التي صغناها ؟ فهذه جملة ذهنية لا يخضع لها شيء بل هي مجرد الوصف !
أم تقصد السنة الإلهية التي لما شائها سبحانه خلق الخلق ليكون على صورة تنفذ فيها هذه المشيئة؟ فهم إذا مفتقرون لتدبير الإله خاضعين لمشيئته وسنته.
فلا يصح إذا أن يقال إن الله خالق مبدأ السببية لأن هذا تناقض.
كأنك تقول الله كان الله ومبدأ السببية غير صحيح ففعل فعلًا رجح صحة هذا المعنى على نقيضه ! أي أن الله سبحانه هو السبب السابق على النتيحة والنتيجة هي مبدأ وجود أسباب ومسببات أساسًا ! ألا تلاحظ التناقض الجلي الواضح!
وقد يقال إننا نقصد أن الله هو الموجود الأول والأزلي سبحانه وهو المصحح لوجود موجودات يصح فيها أن يقال أنها مخلوقة لكونه أساسا يصح فيه أزلا أنه هو الخالق سبحانه لم يزل.
فنقول إذا تقصد هذا المسوغ لقولنا نحن أنه لم يزل هناك أسباب ومسببات أي السبب المنطقي وليس السبب الفاعل! وهذا أمر ذهني محض!
فلا يقال إن السببية من لوازم ذاته والمعنى اللازم لا يجري على الملزوم وهذا الكلام الذي لا أجد له معنى، لأن الله سبحانه صفاته من لوازم ذاته ومعاني صفاته جارية على ذاته فحياته موجودة بوجوده سبحانه ضرورة أن الصفة قائمة بالموصوف موجودة بوجوده، ومع ذلك لا يقال أنه فاعل لصفاته بل هذه القسمة قسمة عقلية محضة أساسا ، وجود الشيء في الخارج تكون صفاته منه لا غيره وكما يقال الوجود عين الماهية في الخارج والصفات من الموصوف في الخارج، وهذه شبهة المغايرة الجهمية رد عليها الإمام أحمد نفسه في كتابه الرد على الزنادقة والجهمية، لما قالوا له هل الله هو كلامه أم غير كلامه ؟! فأجابهم أن كلام الله فعل من أفعاله راجع لصفة من صفاته وصفات الشيء منه فليس له وجود من غير صفاته سابق عليها ثم فعلها ولا هي لازمة له بمعنى لزوم الشيء لغيره كلزوم الزوجة للمتزوج حال وصفه بأنه متزوج مثلًا! بل هي من ذاته ومن وجوده أصلًا، وهي معاني متعددة في ذاته لها حقائها التي تخصها من ذاته سبحانه.
فكما أن معنى الحياة يصح عليه سبحانه وهو من لوازمه فكذلك معنى أنه سبب لأفعاله ومفعولاته مثل ذلك.
إذا هذه شبهة الجهمية، يأتون بمعنى يصح على ذات الخالق بكيفية تكون غير مخلوقة تليق بذاته ككونه يتكلم في وقت دون وقت وذاته كبيرة فوق العرش بمكان ليس يليق بأحد غير ذي العرش سبحانه وهو فوق العرش والعرش تحته، وأنه له صفات عظيمة لا تماثل صفات المخلوقين تليق بذاته كالوجود واليد فيقولون:
خالق المكان لا مكان له، خالق الزمان لا زمان له، وكما يقول النصارى عندما تلزمهم بأن إلههم ممتنع من مبدأ النظر لأن الذات الواحدة لا تكون 1 و3 في نفس الوقت، فيقولون أنتم تفكرون بالمنطق المخلوق؟ أليس الله خالق كل شيء، ومبدأ أن الشيء لا يكون واحد وثلاثة مخلوق والله سابق عليه فهو لا يخضع لمخلوقاته بالتالي لا يصح هذا عليه!!
ونحن نقول كل من يقول بذلك فهو واقع بالتناقض لا محالة إذ جملة أن الخالق لا يخضع لمخلوقه هذه نفسها جملة ضرورية عقلا وعلى منهجك ستكون مخلوقة، وإذا أنت قتلت أي إمكانية للكلام عن الخالق أو استيعاب أي شيء عنه وكأن البشر عقولهم غير مهيئة لاستيعاب فكرة إله موجود أساسا يمكن أن يرسل الرسل ويخاطب وكذا.
وهي جملة متناقضة ذاتيا تنطلق من معرفة ضرورية عن الإله لتقضي على كل معرفة ضرورية عن الإله.
هذه المعاني تصح في ذات الله من باب الإخبار بالمعاني الصحيحة ولو كانت بلفظ مجمل يجب الاستفصال منه أو جملة مفصلة واضحة يجب قبولها ما إن جاء الوحي والعقل الصريح الفطري الخالي من زبالات الفلاسفة الميتافيزيقيين بقبولها.
فليست هذه المعاني في حد ذاتها كيانات قائمة بنفسها تحكم الواقع ولا هي نفس معرفتنا بل المعرفة غير المعروف والمعروف هنا إما شيء قائم بنفسه أو معنى كلي منتزع من جزئياته وتحققه الموضوعي هو تحققه فيها.
فقبل وجود الإنسان وبعده، معاني السببية لازالت مطابقة للواقع، ولذلك بعد وجود الانسان استطاع أن يفهم هذا أساسًا.
أي أن لهذه المعاني جانب وجودي للصحة ويمكن أن نمثل على هذا أننا لو قدرنا أنني وجدت في أي زمان أو مكان وأطلقت عبارة أن “كل حادث له محدث” فكنت على حق
ولكان هناك ما يطابق هذا المعنى في الخارج
هذا المعنى نفسه لم يزل صادقا على الوجود، لا يعني هذا أنه قائم بنفسه صحة هذه المبادئ لها معنى وجودي ومعنى معرفي وهذا واضح إلا لمن يحاول أن يصطاد في الماء العكر أو المثاليين أصحاب الأقوال العجيبة.
وكذلك معاني الزمان والمكان وكل ما يسميه “القضايا الضرورية الشاملة لكل موجود في كل زمان ومكان وكل موجود تصح فيه بحسب كيفيته التي تخصه بحيث لا تكون قياس شمول أو تمثيل تستوي أفراده على جهة الكيفيات”
هذا والله أعلم.
#الغيث_الشامي

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى