فلسفة العلوم

السّببيّةُ الكَافية، بين المَعرفةِ والوُجود

الفرق بين السببية وجوديًا وبينها معرفيًا

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

فمما تعم به البلوى اليوم أن صار كل حاطب ليل يستطيع أن يتكلم في أي فن قبل أن يتمكن من أصوله ويتصورها ويفرع عليها، ويتجلى ذلك حينما نتلكم عن مسائل العلم التجريبي، بالذات في مسائله التي تفتقر لنوعية “المشاهدات المباشرة”(1)، وتعتمد على “المشاهدات المؤولة” (2).

مهمة العلم التجريبي:

وظيفة العلم هي الاقتراب من الحقيقة مع زيادة المشاهدات حول الظاهرة المعينة ومحاولة بناء أفضل تصور ممكن متناسق مع المشاهدات للظاهرة المراد دراستها مع احتمال تطويرها بالمستقبل عند وجود مشاهدات أكثر مباشرة حول الظاهرة المدروسة أو ما يتعلق بها من ظواهر أخرى، سواء بدراسة علاقة المتغيرات ببعضها البعض، أو محاولة وصفها رياضيًا للتنبؤ بها.

ليس من وظيفة العلم سوى أن يخبرك بأن نظريتك التفسيرية التي تحاول تاويل المشاهدات التي تراها بأنها تدل على سيناريو يحصل في ما وراء الحس يسبب ما تراه هي نظرية قريبة من الواقع من حيث كونها فعلًا تشبه ما يحصل وتقدر على التنبؤ به بنائًا على وجه الشبه هذا، وسأضرب مثل:

هب أن مجموعة من العميان تاهوا في الصحراء ووجدوا فيل واقف في محله لا يتحرك، تلمسوا منه ذيله، فاقترح أحدهم أن هذا الذيل هو عبارة عن حبل متدلي من سقف ما أو شجرة أو ما إلى ذلك، وأحدهم قال بل هذا ثعبان، واتفقوا أنهم اذا وجدوه لا يتحرك ويتلوى إذا هو مجرد حبل، وإذا تلوى فهو ثعبان، وفجأة بدأ الحبل يتلوى وصحّ تنبؤ الذي اقترح أنه ثعبان، وبالحقيقة الامر هنا تنبؤه صحيح لكن تأويله ليس صحيح، بل الصحيح هو وجه الشبه بين تأويله والواقع، وهو أن الثعبان وذيل الفيل كلاهما قابل للحركة الذاتية وليس جمادًا، فقدرة النظرية على التنبؤ وتفسير المزيد من المشاهدات هذه تدل على قوتها وصحة تشبيهاتها ونمذجتها ووصفها الرياضي للظاهرة وليس بالضرورة تدل على مطابقتها للواقع!، وفي هذا الصدد يقول المتخصص في فلسفة العلم كاي براد وراي في كتابه “Resisting Scientific Realism” :

“بالرغم بان النظريات الحالية اكثر دقة في التنبؤ من النظريات السابقة فانه لا يوجد مانع عقلي ان تاتي نظريات في المستقبل تكون اكثر دقة وتستبدل النظرية الحالية. باستقراء تاريخ العلم التجريبي نلاحظ ان العلماء كانوا في اوقات يظنون انهم توصلو الى نظرية قريبة من الواقع او مطابقة للواقع بسبب ان تلك النظرية كانت تاتي بتنبؤات دقيقة وفي نفس الوقت لا يمكن ان يقال بان النمو الكبير للمعرفة العلمية في العصر الراهن هو دليل كافي على ان النظريات الحالية التي تمكننا من التنبؤ بشكل دقيق لن تتغير في المستقبل لصالح نظرية اخرى تكون اكثر دقة في التنبؤ وبحمولة من الفرضيات والدعاوي بشان الاشياء الغير محسوسة والتي تكون مخالفة جذريا للحمولة في النظرية السابقة بشان الاشياء الغير محسوسة.”

وهنا نأتي للمبحث المهم والمفصلي في هذا المقال:

السببية ومغالطة السببية الكاملة!

مغالطة اختزال السببية الكاملة إلى جزئها “The complete causal fallacy” وهي أن تدعي أن ما يظهر لك من أسباب تستطيع أن تختبرها وراء الظاهرة هي كل ما هنالك، وهي مغالطة من جهة أنها تعامل عدم العلم على أنه علم بالعدم، أو تختزل وتختصر كل أسباب الظاهرة واقعيّا إلى بعض الأسباب المعروفة فقط، وسأضرب مثال بسيط، ما الذي تحتاجه من الأسباب حتى ترفع يدك؟

أي أحد سيجيبني باختصار، فقط أريد أن ارفع يدي فأرفعها!

أقول له أنت الآن تتحدث عن السببية الكافية معرفيّا!، فبحقيقة الأمر يكفيك أن تعرف أن سبب تحريك اليد هو إرادة تحريك اليد وهذا يفيدك عمليّا ولا تحتاج في حياتك اليومية لمعرفة أزيد من هذا، لكن لا يمكنك أن تدعي أبدًا أن هذا واقعيّا كل ما في الأمر أو لنستبدل كلمة واقعيّا بـ (وجودّيًا)، فالأسباب الموجودة التي تؤدي لهذه الظاهرة كثيرة، مثلًا عند إرادتك بأن تحرك يدك هناك إشارة عصبية تنقدح من دماغك وصولًا لعضلات يدك ثم تنقبض العضلات بهيئة مخصوصة كما أردتها أنت لترتفع بالسرعة التي أردتها أنت وهناك نظام حيوي معقد جدّا من الخلايا والطاقة الخلوية كله سيعمل بشكل منظم ومتماسك لترتفع يدك كما أردت، وعدم علمك بهذا كله ليس يساوي عدم هذا في الخارج كما هو واضح!.

ونستنتج بنائًا على ذلك أنك مهما ظننت أنك تعرف جميع أسباب الظاهرة فيحتمل أن يوجد سبب خفي عنك وقد يكون هذا السبب مغيب عنك تغييبًا مطلقًا بحيث أنك لن تصل له أبدًا في حياتك، وما أظن أحدًا من الأمم السابقة على الأقل في التاريخ المدوّن كان يعرف ما نعرفه اليوم في علم الأعصاب وتركيبة العضلات وما إلى ذلك!، فما المانع أن يتطور العلم مستقبًلا ليكتشف ما نحن نظنه الأن غير موجود من الأنظمة والأسباب فقط لجهلنا بوجوده

ويمكننا أن نفهم محصّل هذا الاستنتاج من خلال مثال طرحه البروفيسور حسام بن مسعود (أبو الفداء) في المجلد الثاني من كتابه “معيار النظر” حين قال:

إن دعوى معرفة السببية الكاملة Complete causation هي من قبيل المغالطات المنطقية التي يجب أن ينتبه الباحث حتى لا يقع فيها من غير أن يشعر . ومثال ذلك أن يقول أحد الباحثين إن تعرض الطفل في صباه للاعتداء الجنسي يؤدي بالضرورة إلى الشذوذ أو الانحراف و سلوك طريق الإجرام الاحترافي في المستقبل ، فهذا تنظير يوحي بأن هذا هو السبب الوحيد ، وإن لم يصرح الباحث بذلك ، بل إنه يكاد يصرف أنظار الناس عن السبب الأهم وراء الانحراف السلوكي والاجتماعي في أي إنسان منحرف : ألا وهو إرادته العاقلة الحرة واختياره ( على علم ودراية ) أن يمارس السلوك المنحرف ، مع ما كان تحت تلك الإرادة من أهواء في نفسه تزين له اختيارها وتحمله على تسويغها بجملة من الأشياء قد يكون منها ما تعرض له من ابتلائات في صباه.

السببية الكافية وجوديّا والسببية الكافية معرفيّا:

السببية الكافية وجوديّا أو كما يقال لها “السببية الكاملة” هي الأسباب الواقعية التي تسبق الظاهرة في الواقع وتؤدي إليها سواء جهلناها أو علمناها أو جهلنا بعضها وعلمنا بعضها، فهي كل ما تحتاجه الظاهرة من أسباب حتى تحصل في الواقع، ومن هذه الأسباب أنواع منها: وسأضرب مثال في باب المنزل مثلًا حتى يتضح الأمر:

السببية الابتدائية: وهي سبب ابتداء الظاهرة (وفي هذه الحالة سبب ابتداء وجود الباب هو أن النجار جاء وركبه في محله).

السببية الاستمرارية: وهي سبب استمرار الظاهرة في الوجود (وفي هذه الحالة بقاء مسامير ومفاصل الباب ولوحه الخشبي متماسك بقوة وثبات).

انتفاء الأسباب المانعة: وهي عدم وجود أسباب تمنع من بقاء أو وجود الباب في محله، كأن يقال لماذا هذا الباب موجود هنا؟ فيجاب: لأنه لم يقم أحد ما بخلعه!.

السببية الغائية: وهذه تجيب عن سؤال “لماذا” وليس “كيف”، فيقال لماذا هذا الباب موجود هنا؟، فيجيب صاحب المنزل: لكي أحمي المنزل من السرقة.

كلها يصح أن تسمى أسباب مع أنها أنواع مختلفة، وعلمك ببعضها لا يلزم منه عدم وجودها كلها، وفي الحقيقة العقل يوجب أن تجتمع كل هذه الانواع قبل حدوث أي ظاهرة حتى تحصل!، وسأضرب مثال يعد خطير نوعًا ما بالنسبة للعلمويين:

المثال المدمّر للعملوية:

وبنائًا على ما قدمناه، فلا يمكن للعلموي مثلًا أن ينفي وجود أسباب غائبة عن معرفته (غيبية) وراء الظاهرة المحسوسة المراد دراستها، فمثلًا ظاهرة تكاثف السحب وسيرها أو ما إلى ذلك من الظواهر التي تسبق هطول المطر، لا مانع عقلًا من أن يكون سيرها على النظام الذي نراه راجعًا إلى عمل الملائكة الموكلة بأمر مباشر من الله سبحانه لأن تجري الأمر على ما يجري عليه تمامًا وما نستطيع أن نصفه ونتنبئ به بنائًا على عادتنا في تتبع أثار نظام عمل الملائكة! وليس له أن يقول أن هذه خرافة أو غير مطابقة للواقع بينما قفزة من السببية الكافية معرفيّا إلى الكاملة وجوديّا هو الذي يعد مغالطة وخرافة على وجه التحقيق فتأمل!

خاتمة:

فأقول والله الموفق، إن العلموي لا ينطلق من هذه المغالطة إلا بنائًا على مسلمات الفلسفة الدهرية الطبيعية المادية التي سبق أن تحدثنا عنها في مقال سابق (يمكنك مراجعته بالضغط هنا)، وأنت كمسلم لا يلزمك لا قليل منها ولا كثير إذ هي مسلمات اعتقادية فلسفية او لنقل “دينية” محضة، وهي ما يسميه البروفيسور حسام بن مسعود (أبو الفداء)  “مغالطة طبعنة الفجوات المعرفية” Nature in the gaps!، وإدراكك لهذه الحقيقة تكون أصلًا تستطيع من خلاله التفريق بين المعرفة التجريبية المفيدة المتواضعة وبين إدعائات العلموي العريضة في ما وراء الحس من غيبيات نفيّا وإثباتًا من كيسه!.

هذا والحمد لله والله أعلم.


هامش:

(1) المشاهدة المباشرة: وهي التجربة المباشرة للظاهرة بالحس المباشر سواء كان باطنًا أو ظاهرًا بالحواس الخمسة، أو مشاهدة يشعرك ضرورة وبداهة بوجود الظاهرة كأن ترى ما يدل على سير الكهرباء في السلك ضرورة مع كونك لا ترى الكهرباء وتسمى “مشاهدة بالقوة بينما النوع الأول يسمى مشاهدة بالفعل”.

(2) المشاهدة المأولة: والتي تدل بالخبرة والعادة على شيء ما، كأن تفتح النافذة صباحًا فترى الشوارع المجاورة كلها مبتلة وأسقف المنازل والأشجار، فتفهم أن هذا يدل على هطول الأمطار، وهذا راجع لخبرتك السابقة بأن المطر عندما تنزل تترك هذه الأثار، فبالتالي طالما هذه الأثار موجودة فهي تدل على حصول المطر باحتمالية كبيرة جدّا ويقينية، فبالطبع لن تكون جائت سيارة اطفاء وقامت برش كل هذه الكمية الضخمة من الماء على المنازل والارض والأشجار بلا سبب! لذلك فهذا الاحتمال مستبعد وقد فصلت في هذا المنطق التفسيري في مقال سابق (أضغط هنا لقرائته).

 

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button