بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين والغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه
هذه القاعدة الذهبية في تزكية النفس، كما هو معلوم لدى بعض القرّاء أن هذا الزمن يسمى عصر السرعة أو عصر الفردانية وعصر مواقع التواصل الاجتماعي والمقارنات ووهم الكمال.
وأنا مثلك، لا يمكنني أبدًا أن أتجرأ لأحكم على نفسي أنني لم أتأثر بواحدة من هذه الأنماط الاجتماعية والنفسية التي عمت بها البلوى في هذا الزمان.
المشروع الفاشل منذ الولادة!.
ذاك المشروع المؤجل من قبل أن يبدأ، سأبدأ بالقراءة في هذه العطلة الصيفية، سألتزم بعد انتهاء فترة الضغوطات هذه، لن أضيع صلاة، بل وقد تجلس تفضفض لصديقك وتشتكي له أنك تكره في نفسك جدّا تأخير الصلاة وأنك تتمنى من كل قلبك أن لا تؤخرها، وقد تضع جداول وتبحث على الانترنيت عن أفضل طريقة للالتزام بهذه الجداول وتنظيم الوقت، ثم كل هذا يذهب عبثًا!، لماذا؟ هذا ما سنناقشه في هذا المقال إن شاء الله.
القاعدة الإبليسية الخارجية (لا أسجد إلا لك، وصاحب الذنب كافر!)
“وهم الكمال”، هكذا أطلق عليه بعض دكاترة الطب النفسي المتخصصين كالدكتور الأردني “عبد الرحمن ذاكر الهاشمي” وتلميذه الدكتور “آدم صقر الصقور” وغيرهم من المختصين وبالأدبيات الإنجليزية يعرف باسم “perfection”.
ويتلخص بأنك لا تريد البدء خطوة خطوة، بل تريد تغيير جذري من أول يوم وكأنك تشترط معجزة حتى تلتزم!، وهذا من قلة الأدب مع الله سبحانه أساسًا، وفضلًا عن هذا فإن العادة والتجربة البشرية والتاريخ يخبروننا أن التغيرات الكبرى حصلت بالتخطيط التدريجي والخطوات المدروسة وتوفيق الله سبحانه، وأن العجلة من الشيطان، واشتراط الكمال هذا هو من خصال الخوارج وليس أهل السنة أصلًا، حيث أنهم يرون أن الإيمان شيء واحد يأتي كله أو يذهب كلّه، وليس أنه مراتب ويزيد وينقص، لذلك يكفرون صاحب الكبيرة، ووجه الشبه أنك إما ألا تضيع الصلاة تمامًا أو تتركها وحكم تارك الصلاة هو الكفر عند أهل السنة كما تعلم! وتطلبك الكمال فيها ليس من كمال إيمانك!، إنما مخادعة إبليسية يخدعك شيطانك بها، ألست ترى إبليس اشترط التوحيد المطلق حتى يعبد الله حتى صار يعدّل على أوامره من عند نفسه فقال لربه لا أسجد إلا لك! وهذا وهم الكمال وليس حقيقة الكمال، بل حقيقة كمال العبادة هو كمال الخضوع لحكمة الله سبحانه مع الخوف والرجاء.
وكونك تشتكي لصديقك وتفضفض وتبحث هذا ليس بالضرورة نتيجة لحرقتك وبداية الحلّ! بل قد يكون هو المشكلة أساسًا!، ألست تلاحظ أن حماسك ينام كل مرة بعد أن تفرغ من ذلك؟!
“أسلوب الشكوى التفريغي”
أو “كلام جمعات النسوان” مع احترامي للأخوات : )، لكن من باب المثال، جاءت للقاضي الشرعي في الشام امرأة تشتكي أن زوجها يشتم الله وتارك للصلاة والصيام مع انه ينتسب للإسلام لكن الرجل تقريبًا يحاول جاهدًا أن يكون مثال على فكرة “تارك أعمال الجوارح بالكليّة” الله المستعان، فقال لها الإخوة انصحيه وإلا كان كافرًا ويبطل زواجك منه وتكون حياتك معه بالحرام والزنا والعياذ بالله، وطبعا هي وقفت معهم وتفاعلت فعلًا بشكل إيجابي ونصحته فامتنع ووبخها وكاد يضربها فهربت منه، وخبأها أحد الإخوة في بيته مع زوجته يعني وتحمّل أذى زوجها وحامى عليها وعدها بمثابة عرضه، ومع الوقت اكتشف أن الامرأة هذه كلمت زوجها على الهاتف وتصالحوا وعادت له بالسر فجأة دون أن يعرفوا، يعني هربت من منزل الأخ لزوجها السابق مع أنه لم تتغير أخلاقه وما زال يكفر وكل شيء، لكن هي كل ما كانت تفعله هو مجرد ردة فعل على مشكلة زوجية بينهم، لكن كانت تهولها، كثير من الناس هكذا للأسف، التزامه أو طلبه للعلم يكون ردة فعل تزول بزوال الدافع العارض هذا، وبنفس الوقت الشاهد الأساسي بالموضوع أن ما قامت به هذه المرأة كثير من النساء لا تقوم به أساسًا، بل قد تشتكي لك لمجرد التفريغ ولا تغير أي شيء في واقعها، وهذا الشخص الذي يقول لك أريد أن أطلب العلم ووقتي يضيع في الفراغ نفسه يفعل مثلها “كأن جارة تشتكي لجارتها”، لا يقوم بأي شيء، لأنه ينتظر ذلك الوقت الفارغ الأسطوري المثالي الذي سيتفرغ به ليكون ابن عثيمين الثاني!، وهذا الوقت لن يوجد، ستبقى تشغلك الدنيويات طوال حياتك، فلا تتشرط على ربّك، بعض طلب العلم هو فرض عليك وعلى كل مسلم في وضعك اليوم، والله بعضنا يعيش في دول الفتن تطرق باب قلبك وعقلك في كل مكان!، ها أنا أعيش في تركيا، وأنا شاب أعزب، وأدرس في جامعة، لنكن صرحاء، ألا نحتاج تزكية للنفس؟ وطلب علم وطلب ثبات وأصدقاء أصحاب سنة؟ ألست أنت مثلي أم مرفوع عنك القلم ولا تخشى على نفسك من الفتن؟!
فلا تطلب المثاليّات فلست مطالب بها، أنت ما تفعله تفعله لنفسك، في دنياك، تعمل مع أنك تعلم أن عملك ليس مثالي ولن يجعلك ملياردير في وقت قصير، لكنك تجمع القرش على القرش وتفني حياتك لأجله، ثم لا تفكر في آخرتك ونفسك!، ثم تحاول أن ترضي ضميرك بادعاء أن عندك نية لطلب العلم ثم أنت تؤجلها لأسباب أنت تعلم أنك لا تؤجل اشياء غيرها لنفس هذه الأسباب، ها أنت تدرس لموادك الدنيوية ولو كان قد تبقى يوم واحد للامتحان ولا تقول لم يتبقى وقت وليس هذا وقت مثالي للدراسة!، أتأمن على نفسك أن لا تفتن غدًا صباحًا بما لا تحتسب؟
هذه دعوة لكم جميعًا يا إخوة، لا تشترط على ربّك، اقرأ ورقي أو pdf أو كتب صوتية أو محاضرات صوتية، أيّا كان، لست معذور، كل الطرق متوفرة اليوم وبسهولة فدعك من الأعذار التافهة.
في الحافلة، في الطريق، في أوقات فراغك ولو 5 أو 10 دقائق في اليوم، فالجبال من حصى والبحار من قطرات، “ما لا يدرك كلّه، لا يترك كله” وأنت غرضك ليس دنيوي، فما الذي يدفعك لأن تريد ان تصبح عالم في يوم وليلة؟ أنت مطالب ان تفعل ما عليك، ولو متّ قبل أن تصبح عالم تنفع الأمة فكان ماذا؟ الله يعلم نيتك والله سيجزيك بما تستحق، ولن تضيع الأمة بضياعك، فورائك أناس قيضهم الله في كل زمن يموتون ويعيشون لأجل السنة فلا تخف ولا تعجز، واعلم أن الغرب بحضارته المادية كلها لا يعدل “حدثنا” وأخبرنا” عن رسول الله وصحابته وتابعيهم! ولا قريب من ذلك! ولا يعلم شيئًا ثمينًا يعيش لأجله كما تعلم أنت، ومهما تطورت أحجارهم فإن نفوسهم التي بين جنباتهم وقلوبهم التي في صدورهم عفنة صدئة وأنت قلبك متصل بالسماء مازال فاحمد ربك على هذه النعمة واشرب من بحر هذا الدين وارتوِ منه بما استطعت.
الفردانية والمقارنة ونزعة النرجسية العصرية
من بلايا هذا العصر أنك تقارن نفسك بفلان وفلان من طلبة العلم الذي ينشر أنه يطلب العلم بالمنهجية الفلانية الأسطورية وعلى الشيخ فلان وفلان فتبقى تؤجل ذلك حتى تبدأ كما بدأ!، ثم لا أنت تبدأ كما بدأ بل ولا حتى أقل من ذلك، وهذا لان الفردانية والمصلحة الشخصية وطلب الأفضلية الذاتية هذا مما تغذيه مثل هذه الوسائل، اجعل طلبك لوجه الله واطلب ما تحتاج من الاساسيات بالبداية وهي لا تحتاج منهج أساسًا! أساسيات العقيدة، أساسيات الفقه وأصوله، وأمهات متون الحديث مع شروحات لها من أكابر العلماء!، ولن يعيبك أحد على هذا المنهج أبدًا فمسألة المناهج هذه اجتهادية تختلف حسب حال الشخص وقراءاته السابقة، فلا توهم نفسك وتبحث عن الكمال الذي يرديك في دركات النقص، ولا تجعل لهواك حظّا في طلب العلم ولا تجعله بابًا لتعذية النرجسية وطلب التميز الوهمي.