العقيدة

بيان غلط الشيخ “حسام الحمايدة” في مسألة تسلسل الحوادث

الحمد لله وحده، أما بعد، فقد أرسل إلي بعض الإخوة جزاه الله خيرا، روابط لمواد مسموعة ومرئية للداعية الأردني الشيخ حسام الحمايدة، تلبس فيها بأغلاط وشبهات في مسألة تسلسل الحوادث تحتاج إلى بيان. وفي الحقيقة لم يتسع وقتي إلا لسماع مجلس واحد من تلك المجالس، فوجدته يخطئ فيه شيخ الإسلام رحمه الله في حكمه بأن تسلسل الحوادث والمخلوقات من الأزل هو الأكمل في حق الله تعالى، وإنما يكتفي بتقرير الجواز العقلي وحسب، جواز التسلسل في المخلوقات. وأما الوقوع فينفيه، متعلقا في ذلك بشبهة مفادها أن السلف قد ثبت عنهم أن الله تعالى، قبل خلق العالم، كان ولم يكن شيء معه. وهو في كل مناسبة يحاول أن يتجنب الكلام بصراحة ووضوح عن مذهب شيخ الإسلام، يقول لا أريد أن أفتن الناس وكذا، لكنه قد تكلم فعلا، وأخرج ما عنده في بعض المواطن، وهو الآن مشهور منتشر على شبكات التواصل، وكثير من الناس يعجب بطريقته فتدخل عليه تلك الشبهة، لذا وجب التنبيه! الرجل يقول ما حاصله إذا كان قد ثبت من السمع أحد طرفي الجواز، بزعمه أن هذا ما ثبت فعلا، وهو أن لا تكون الحوادث قد تسلسلت من الأزل، فلا يجوز أن نثبته وقوعا، فضلا عن أن نقول إن نفيه يقتضي النقص في حق الباري سبحانه!
والرجل في الحقيقة يخالف بذلك التقرير جميع علماء أهل السنة في القرون التي تلت قرن شيخ الإسلام رحمه الله وصولا إلى يومنا هذا، ويرى أنه في سعة من أمره، وهذا غلط كبير! فالجواز فيما يتعلق بتسلسل الحوادث في حق الله تعالى، ليس أن ينتفي مطلقا أو أن يثبت مطلقا، وانتبه، وإنما الجواز هو بين أن يثبت على فترة أو فترات من الانفصال، أو أن يكون متصلا. لكنه في جميع الأحوال ثابت بضرورة كمال الخالقية الإلهية والفاعلية الإلهية (وليس كمال القدرة على الخلق والفعل كما هو مدار المسألة عنده). ما معنى الانفصال والاتصال؟ يعني يجوز أن يكون الله تعالى لم يزل يخلق مخلوقا بعد مخلوق من الأزل، لكن دون أن يكون كل عالم من العوالم المخلوقة قد حدث بعد إفناء سابقه مباشرة، أو أن يكون قد خلق بالتحويل عنه أو بالاستحالة! لا يلزم من القول بتسلسل الحوادث، أن يكون كل حادث قد خُلق بحيث لم تكن قبله فترة يوجد فيها رب العالمين منفردا بالوجود، أو لا شيء معه! هذا ليس واجبا عقلا بأيما وجه كان! لو قدرنا أن اختار ربنا تبارك وتعالى أن يفني جميع ما في الوجود مما سوى نفسه، فهل يقدر على أن يخلق شيئا جديدا بعدُ إن شاء، أم لا يقدر؟؟ نقول يقدر قطعا، سبحانه جل في علاه. هل يقدر على أن يختار أن يبقى لفترة منفردا بالوجود سبحانه، ولا شيء معه على الإطلاق، قبل أن يخلق خلقا جديدا، أم لا يقدر؟؟ يقدر قطعا!! وهو على ما يشاء قدير! ولهذا حرر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه “مسألة حدوث العالم” تجويز أن يخلق الله تعالى خلقا جديدا لا من شيء قبله على الإطلاق، ونقض على الفلاسفة الذين زعموا امتناع ذلك! يخلق لا من مادة ولا من عالم قائم سلفا ولا من شيء موجود فعلا، وإنما بقوله كن فيكون! فقط! هذا جائز له قطعا إذا شاء سبحانه. وأهل السنة مجمعون على هذا. بل أهل القبلة كافة وأهل الكتاب من قبلهم عليه! فالذي نقول بتجويزه عقلا، وبأنه لا تأثير له على ثبوت سلسلة الحوادث من الأزل أو انتفائها، أن يكون التسلسل على انفصال أو تراخ بين عالم مخلوق وعالم مخلوق قبله، يقع ذلك حين يشاء سبحانه ويختار! لا مانع من ذلك لا عقلا ولا شرعا. أما أن يكون التسلسل نفسه، تسلسل الحوادث بلا حادث أول، غايتنا فيه أن نقول بالجواز فقط، من جهة العقل، ثم إذا نظرنا إلى النصوص والآثار، رجحنا عدم الوقوع، فهذا تحرير فاسد جدا، ولا يصح.
قال الحمايدة في محاضرة أو مجلس له أرسله إلي أحد الإخوة جزاه الله خيرا:
“إذا أنت قلت بالأكملية، فتحت باب الشك في عدم مساواة القدرة بالقوة والقدرة بالفعل. فهمت؟ يعني أن الله حينما لا يخلق، أليس هو قادر على الخلق؟ طب حينما يخلق، هل تزداد القدرة قوة على الخلق؟ لا! فإذن لماذا تقول بأنه كمال فعله أولى من عدم فعله؟”
قلت وهذا الكلام غلط ولا شك، ولازمه نفي قاعدة الأكملية التي هي من أعمدة أهل السنة في هذا الباب، بل من أصول أهل الإسلام كافة، وليس من أصول مذهب ابن تيمية وحده! الله تبارك وتعالى يجب في حقه كل ما هو أكمل من جهة العقل قطعا، أي أنه يتنزه عن كل موجب للنقص وجوبا وضرورة. ونحن لا نتكلم هنا عن عدم الفعل في فترة دون فترة، أي اختيار ألا يخلق سبحانه، في فترة من الفترات، فلا يكون في الوجود غيره حالئذ! هذا جائز قطعا لا إشكال فيه عند أهل السنة. وإنما نتكلم هنا، وانتبه، عن الزعم بأنه بقي من الأزل، في زمان ماض لا نهاية له البتة من جهة الماضي، غير خالق لشيء أبدا على الإطلاق، حتى خلق هذا العالم! فهذا ما يقال فيه، بالضرورة، إنه يكون قد صار خالقا بعد أن لم يكن خالقا، بصرف النظر عن قضية القدرة! تصور أي زمان تريد أن تتصوره، مهما طال، ثم قارنه بزمان لا نهاية له في الماضي، فلن يبلغ أن يكون شيئا مذكورا! فكيف لا يكون على هذا قد اكتسب صفة الخلق (أو الخالقية) بعد أن كان عادما لها؟؟ الكلام هنا ليس عن استحقاق صفة “القدرة على الخلق”، من حيث هي خلق بالقوة، انتبه، وإنما هو عن استحقاق صفة الخالقية والفاعلية المتجددة، أنه سبحانه خالق بالفعل! أنه هو الخالق والخلاق، الذي لم يزل مستحقا لذلك المعنى من الأزل! هذا قدر إضافي في المعنى فوق القدرة. القدرة القديمة واحدة ولا شك، حال التلبس بخلق المخلوق وقبل التلبس به. فمتى كانت بالقوة فهي نفسها حين تكون بالفعل، لم تزد ولم تنقص، ولا إشكال في ذلك! الله تعالى كان قادرا على خلق آدم عليه السلام من الأزل قبل أن يتلبس بخلقه، ولم يصبح أقدر على خلقه عندما تلبس به فعلا! لا فرق في هذا. ولكن عندما يقال إنه كان بحيث لم يخلق شيئا البتة من الأزل، ولا مخلوق واحد، قبل هذا العالم، فكيف يصح إذن أن يوصف، كما وصفه الصحابة والسلف، بأنه الخلاق الذي لم يزل يخلق ما يشاء ويختار إذا شاء سبحانه، بلا بداية في الماضي؟؟ كيف إذن يصح فيه أنه قديم الذات قديم الصفات، لم يكتسب كمالا لم يكن له في الأزل، كما هو اعتقاد أهل السنة؟؟ لم يزل يخلق فعلا ولم يزل يرزق ولم يزل يتفضل بالنعم والعطايا ولم يزل يكلم غيره بما يشاء سبحانه، بلا أول لجميع ذلك، كما أنه لم يزل قادرا على جميع ذلك بلا ابتداء في الماضي! فهذه الصورة التي يجوزها الحمايدة بل يقول بوقوعها، بدعوى أن السمع قد حسمها، حقيقتها أنه اكتسب صفة الخالقية (أي فعل الخلق وتجدده) بعد أن كان عادما لها في زمان لا بداية له في الماضي، على امتداد وجوده سبحانه!! وهذه تشبيه له بالمخلوق الذي كان ميتا في الأزل، ثم اكتسب الحياة فصار يخلق ويفعل فيما يزال، بعد أن كان لا يفعل في الأزل! والسلف عندما ردوا على المعتزلة في مسألة الكلام، على زعمهم حدوثها بعد عدمها، في قولهم بخلق القرآن، دفعوا ذلك بأن قالوا إن نسبته إلى حدوث الكلام (من حيث هو صفة ذات قائمة به) تقتضي تشبيهه بالمخلوقين قطعا! فالمخلوق هو الذي يصبح متكلما بعد أن كان غير متكلم! والسلف في ذلك لم يعلقوا الأمر على القدرة، أو يختزلوه فيها كما هو كلام الشيخ هنا، هداه الله! لم يقولوا يجوز أن يكون بحيث لا يتكلم بشيء أبدا من الأزل، حتى يخلق هذا العالم فيكون متكلما بالفعل لا بالقوة!!
قال ابن بطة رحمه الله في الإبانة الكبرى: “قد فهم من آمن بالله وعقل عن الله أن كلام الله، ونفس الله، وعمل الله، وقدرة الله، وعزة الله، وسلطان الله، وعظمة الله، وحلم الله، وعفو الله، ورفق الله، وكل شيء من صفات الله أعظم الأشياء، وأنها كلها غير مخلوقة لأنها صفات الخالق ومن الخالق، فليس يدخل في قوله {خالق كل شيء} [الأنعام: 102]، لا كلامه، ولا عزته، ولا قدرته، ولا سلطانه، ولا عظمته، ولا جوده، ولا كرمه، لأن الله تعالى لم يزل بقوله وعلمه وقدرته وسلطانه وجميع صفاته إلها واحدا، وهذه صفاته قديمة بقدمه، أزلية بأزليته، دائمة بدوامه، باقية ببقائه، لم يخل ربنا من هذه الصفات طرفة عين”
قلت فانتبه إلى تفريقه رحمه الله بين قدرة الله وعمل الله! كلاهما عند السلف قديمان أزليان لا ابتداء لهما في الماضي!
قال الإمام أحمد رحمه الله، في رده على الجهمية في قولهم بأن الكلام الإلهي مخلوق: “ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلامًا، وقد جمعتم بين كفر وتشبيه. وتعالى الله عن هذه الصفة، بل نقول: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام. ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علمًا فعلم، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول: إنه كان قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورًا، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلقه لنفسه عظمة،” قلت: وكذلك لا نقول قد كان ولا فعل ولا خلق، حتى خلق لنفسه خلقا فصار خالقا! فهو لم يزل من الأزل يخلق كما لم يزل يتكلم، وكما لم يزل يقدر على أن يفعل ما يشاء! فإن موجب الاتصاف بالفاعلية إنما هو تجدد الفعل، وليس مجرد القدرة عليه! فلا يجوز أن يقال كان في الأزل قادرا على الخلق بالقوة، دون أن يخلق شيئا أبدا، ومع هذا يكون موصوفا بالخالقية وبأنه الخالق والخلاق، كما لا يجوز أن نقول لم يزل في الأزل موصوفا بالكلام بالقوة، أو بالقدرة، حتى خلق هذا العالم فصار متكلما بالفعل! هذا ما رده أحمد وسائر الأئمة على الجهمية، فانتبه!
قال الإمام البخاري رحمه الله في خلق أفعال العباد: “ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق، وأن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل، فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت” قلت: فمحال أن يكون حيا من الأزل بلا ابتداء في الماضي، ولا يشاء أن يخلق شيئا أبدا من الأزل في الماضي، قبل المخلوق الأول، ومع هذا تثبت له الحياة دون الموات من الأزل! كمال حياته وكمال قدرته وكمال مشيئته، يوجب ألا يكون لخلقه أول في الماضي كما أنه لا ابتداء لذاته في الماضي! وهذا ما عليه السلف ولم يعرفوا غيره!
المسألة ليست في أن القدرة الثابتة في الأزل لا تزيد ولا تنقص بكثرة الأفعال وقلتها، ولا أن كمال الفاعلية متوقف على كونه يفعل دائما بلا انقطاع أو انفصال البتة، أي لا يمكن أن يريد في فترة من الفترات ألا يخلق شيئا، لاقتضاء ذلك النقص، كما قد يفهمه من ساء فهمه وضعف تحقيقه في كلام شيخ الإسلام رحمه الله! لا! وإنما النكتة في أنك إذا أثبتّ موجودا قديما لم يزل غير موصوف بالفعل والخلق من الأزل، “حتى” خلق مخلوقا معينا، فقد نسبته إلى اكتساب الفاعلية بعد عدمها، بالضرورة، وهو ما يقتضي وصفه باكتساب القدرة بعد عدمها، واكتساب صفة الحياة بعد الموت! فالأكملية هذه ليست قاعدة عقلية بدعها الشيخ من كيسه، رحمه الله! والمذهب الذي اختار الحمايدة أن يخالف الشيخ فيه هنا، ليس مذهبا خلافيا بين أهل السنة، فضلا عن أن يكون قد انفرد به شيخ الإسلام! وإنما هو تحقيق ما كان عليه السلف في الباب، في جميع الصفات الفعلية الاختيارية، بلا تفريق! وكل من خالفه فهو غالط على السلف.
لا نقول إن تسلسل الحوادث هنا يكون واجبا على معنى الوجوب الأرسطي، بمعنى أنه إن لم يكن، فيلزم التناقض مطلقا، على كل وجه وكل اعتبار، وإنما يكون واجبا من جهة أنه إن لم يثبت، لزم النقص والموات في الأزل، واكتساب الرب صفة الخالقية والفاعلية بعد فقدها أزلا، سبحانه وتعالى علوا كبيرا! فهو جائز من جهة القدرة والإرادة، واجب من جهة مقتضى الكمال.
يقول: “الخالقية، صفة ذاتية والا صفة يكتسبها؟” قلت: بل صفة ذاتية قطعا، ولكن ما معناها عندك؟ معناها أنه لم يزل يخلق ما دامت ذاته قائمة في الأعيان، أم معناها الخلق بالقوة في الأزل، والخلق بالفعل فيما لا يزال؟ إن قلت الخلق بالقوة في الأزل، ثم بالفعل فيما يزال، قلنا: من قال بهذا التفريق من السلف وأئمة أهل الحديث قبلك، وأنت تراهم قد أطلقوا بلا تقييد كما مر التمثيل عليه من كلامهم؟؟ الخالقية معناها تجدد أفعال الخلق البتة! فلا يزال موصوفا بالخالقية، ما دام موجودا في الأعيان سبحانه، وإذن فلم يزل تتجدد عنه أفعال الخلق سبحانه بلا أول!
فرق بين أن تكون موصوفا، يا شيخ حسام، بالقدرة على الكتابة، وأن تكون موصوفا بفعل الكتابة، بحيث يقال فيك إنك “كاتب”. لو قلت لم أكتب شيئا أبدا، ولا لمرة واحدة، ولكن سأكتب في المستقبل، أعتزم ذلك، مع تمام قدرتي عليه، لم يجز ولم يصح فيك، لغة، الوصف بأنك كاتب، إلا على اعتبار ما سيكون! لا توصف بأنك كاتب فعلا حتى يقع منك فعل الكتابة ولو لمرة واحدة في الماضي! أما إن لم يقع أبدا، فغايتك أن تكون قادرا على الكتابة لا غير! تعرف الكتابة، مؤهل لها وقادر عليها، نعم! أما أنك كاتب، أو “كتّاب” (من فعال، كثير الكتابة)، فلا! وقد تقول إنك كاتب بالقوة دون الفعل، كما عبرت، لا بأس! ولكن الكاتب بالقوة ليس كاتبا على الوجه الذي يتمدح به صاحبه، وإنما يكون كاتبا مستحقا للمدح بكاتبيته، إذا حصلت منه الكتابة فعلا! انتبه لهذا فإنه دقيق، وهو ما زلت فيه قدم هذا الرجل.
فهذا هو غلط الشيخ الحمايدة من جهة المعقول. وأما من جهة المنقول، فيقول:
“المتكلمون إنما يناقشون الأولية، يعني إذا قلت إنك مؤمن أنه لا أولية لله، فلزاما أن تقول لا أولية لنوع المخلوقات، القدم النوعي، والقدم النوعي نوع كلي، فيرجع أن يكون الكلي هذا قديما قدم الذات، مع أني لا أقول بالكلي، لكني أقول أنا، أن الله سبحانه وتعالى حسم هذه المادة، فقال إنه موجود وليس معه أحد! ولا شيء!”
قلت: ليس في النصوص ما يحسم الأمر على ما تزعم أنه ينحسم به! وإنما فيها ما يقتضي خلافه! فغاية تلك الآثار التي تعلق الرجل بها في ذلك، أنها على قول بعض السلف بمفهومه لها، أنه سبحانه كان قبل خلقه هذا العالم لا موجود معه على الإطلاق، أن تكون إثباتا لكون المخلوقات معدومة في الوقت الذي اختار فيه سبحانه أن يخلق هذا العالم، فخلقه من غير مخلوق قبله، وليست موجبة للحكم بالإطلاق على كل الزمان الماضي قبل خلق العالم، بعدم وجود شيء مخلوق فيه مطلقا، مهما امتد في الماضي السحيق، بلا نهاية! لا السائل من الصحابة ولا المجيب توجه كلامهما في هذه المسألة إلى الأزل وما كان فيه، ولو صح ذلك لوجب بيانه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة! هم يستفهمون عن أول هذا الأمر! هذه الأرض التي نقف عليها والسماء التي من فوقنا، هذه المخلوقات، وهذا الملك الإلهي العظيم الحاضر الآن، الشاهد تحت حواسهم، ما أوله؟ هذا هو أصل القضية عندهم! أما أن يكون السؤال بحيث يتوجه بسؤاله إلى ذات الله القديمة، هل كان يصدر عنها خلق من الأزل أم كان أول خلق هذا العالم هو أول ما خلق الله على الإطلاق من الأزل، فلا لم يكن هذا هو وجه السؤال أبدا! لماذا؟ لأن الصحابة لم يتشبعوا بموجبات السؤال ومنطلقات البحث اليوناني في الوجود والموجود، التي تشبع بها المتكلمون، والتي تدعي أنت أن النص المذكور قد حسمها! ولم يجدوا حاملا أو داعيا عقليا للتفريق بين جنس القديم وجنس الحادث على طريقة الفلاسفة في ذلك! والأصل المستقر عندهم أنه سبحانه لم يزل فعالا لما يريد خلاقا لما يشاء، قبل هذا العالم وبعده، بلا فرق بين اللانهاية الماضية واللانهاية المستقبلة في ذلك! وهذا ثابت مستفيض في الآثار والسنن. فمن زعم أنهم توجهت أذهانهم بهذه العبارة “كان ولم يكن شيء معه” إلى الأزلية الزمانية، أنه لم يكن معه شيء أبدا البتة من الأزل، قبل خلقه هذا العالم، فهو المطالب بأن ينقل عنهم ما يدل صراحة على ذلك التوجيه والفهم! ولن يجده إن طلبه، مهما بحث، لأنهم كما ذكرنا، لم يقع لديهم من الإشكال الفلسفي ما يدعو لأن تطرأ تلك الفكرة في أذهانهم أصلا، رضي الله عنهم وأرضاهم! وإنما اضطر المتكلمون لحمل ألفاظهم في هذه المسألة على هذا الوجه المتكلف، خدمة لأصولهم وقواعدهم في معنى الحدوث الميتافيزيقي المطلق عندهم! لأنهم يعتقدون سلفا أن مبدأ الحدوث نفسه قد كان بعد أن لم يكن، بابتداء خلق العالم! وسببهم الأرسطي في ذلك معروف كما أطلنا النفس في بيانه! أما العرب، فليس في عرفهم اللغوي أنك إذا كان كلامك متوجها إلى خلق هذا العالم بخصوصه، تسأل عنه، ما أوله وماذا كان قبله، فيقال لك: كان خالقه ولا شيء معه ثم خلقه، أن تفهم أنه على أزليته وقدمه الذاتي سبحانه، لم يكن خالقا شيئا قبله البتة من الأزل، بل كان في عماء محض (على معنى عدم ما سواه مطلقا) في زمان لا نهاية له في الماضي، ثم خلقه!! لأ! الفلاسفة والمتكلمون هم الذين حملوا لفظة “كان الله” في الحديث ما لا تحتمله في استعمالات العرب! فبصرف النظر عن ترجيح شيخ الإسلام رحمه الله في لفظة حديث البخاري، هل الراجح هو “معه” أو “قبله” أو “غيره” أو كذا، فنحن نقطع بأن الصحابة ما تصوروا المسألة على هذه الصورة اليونانية أصلا، لأن أسباب ذلك التصور ما وقعت لهم ولا تعرضوا لها. ولو تصوروها لامتنع أن يكون فهمهم لهذه اللفظة على هذا الوجه الذي اختاره الحمايدة، وزعم أنه الصحيح من مذهب أهل السنة، أنه سبحانه قد اختار بمشيئته ألا يخلق شيئا أبدا من الأزل، فبقي بحيث لا يوجد في الوجود شيء سواه من الأزل، حتى اختار أن يخلق هذا العالم!
والعجيب أنه يورد الزيادة “وهو الآن على ما عليه كان” مع أنها منكرة ولا ثبوت لها في كتب السنة أصلا! قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: ” ومن أعظم الأصول التي يعتمدها هؤلاء الاتحادية الملاحدة المدعون للتحقيق والعرفان: ما يأثرونه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: {كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان} عند الاتحادية الملاحدة، وهذه الزيادة وهو قوله: {وهو الآن على ما عليه كان} كذب مفترى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتفق أهل العلم بالحديث على أنه موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث لا كبارها، ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد لا صحيح، ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري متكلمة الجهمية، فتلقاها منهم هؤلاء الذين وصلوا إلى آخر التجهم – وهو التعطيل والإلحاد -. ولكن أولئك قد يقولون: كان الله ولا مكان ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان. فقال هؤلاء: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان … وهذه الزيادة الإلحادية وهو قولهم: وهو الآن على ما عليه كان، قصد بها المتكلمة المتجهمة نفي الصفات التي وصف بها نفسه؛ من استوائه على العرش، ونزوله إلى السماء الدنيا، وغير ذلك, فقالوا: كان في الأزل ليس مستويا على العرش, وهو الآن على ما عليه كان”
قلت: فما جوابك يا شيخ حسام عن هذا الكلام؟؟
يقول أحد الحاضرين، وهو من كان يحاوره في هذه المسألة، إن ابن تيمية قال إن صفة الفعل صفة مدح، الله عز وجل قال فعال، صح؟ قال: نعم، قال: ولا صفة مدح مطلق لها بداية. قال: طيب ما هو صفة الفعل هي موجودة بوجود القدرة على الفعل! فمفهوم الأكملية، هذا الذي يقصد بأنه لو فعل يكون أفضل، هذا خطأ! لأن هذا تجوز على الله أن يدخل في معيارية أفعال التفضيل! كان ثم صار! لا، الله سبحانه وتعالى ليس هذا! قال: طيب يا شيخ برأيكم كيف توجيه كلام شيخ الإسلام مثلا؟ قال: قلنا من البداية أنا لا أريد أن أدخل في كلام شيخ الإسلام، لأني أخالفه! وهو شيخنا!
قلت: الله المستعان! يا رجل ما هكذا تورد الإبل!! الفعل صفة، والقدرة عليه صفة أخرى!! ليست هي نفس الصفة! نعم ثبوت الثانية شرط لثبوت الأولى عقلا، أي أن إحداهما تستلزم الأخرى، ولكن ليست هي نفسها! أنا أوصف بأني قادر على الكلام، كما أوصف بأني متكلم، أي فاعل للكلام، قد صدر مني ويصدر مرة بعد مرة، وأوصف في كل مرة من تلك المرات بأني قد تكلمت بها، وهي صفة الفعل. والتسوية بين صفة الفعل، وصفة القدرة عليه، من جنس تسوية الأشاعرة بين الفعل وإرادته أو لازمه، كما قالوا في المحبة هي إرادة الإحسان، وكما قالوا في الغضب إرادة الانتقام، وهكذا! أنت الآن تتأول الخلق في الأزل (وهو قولنا: لم يزل خالقا سبحانه) بالقدرة على الخلق في الأزل، أو الخلق بالقوة في الأزل، كما تأولت الأشاعرة صفة المحبة بإرادة الإحسان! وهذه ليست طريقة السلف، وإنما هي طريقة أهل الكلام!
ثم قال: “شوف أنت عارف ليش؟ لأنه لا يقتنع بأن القدم الكلي قدم حقيقي! مش القدم النوعي كلي؟ هو يرى أنها مسألة لا طائل تحتها، وأنها كلام غير صحيح! يعني افتراض، إذا أراد الله أن يبقى فاعلا، هذا نقص؟ لو موجود الآن شيخ الإسلام، هيك سوف يقول! فلماذا أنتم تقولون، بأن .. طب .. جواز أن يبقى فاعلا دائما، يعني يخلق قبل فعل، نقص؟ ليس نقص! هذا يحل الإشكال!”
قلت: يا رجل لا تموه على الناس! أي إشكال هذا الذي حللته؟؟ لو موجود الشيخ الآن سيقول ماذا؟ أن الله إن أراد أن يبقى فاعلا، صار ناقصا؟؟ لعله يقصد إن أراد أن يبقى غير فاعل. فإن قدرناه أراد هذا المعنى، فالجواب لا لا يكون نقصا أن يريد ألا يفعل شيئا سبحانه في فترة من الفترات كما مر. لكن أن يريد ألا يفعل شيئا أبدا من الأزل، في زمان لا ابتداء له، هذه قضية أخرى بالكلية! ثم القدم الكلي، ماذا تقصد بالقدم الكلي؟ إيش القدم الكلي الذي لا يراه ابن تيمية قدما حقيقيا هذا؟ أنت الآن تتكلم بمجملات المتكلمين التي تنكرها أنت نفسك عليهم عند الرد عليهم، أصلحك الله! القدم النوعي هذه ينسب به القدم إلى معنى كلي لا إلى متعين خارج الأذهان! هذه القضية أنت تخالف فيها؟ أرجو أنك لا تخالف! طيب ما معنى أنه قدم حقيقي أو ليس حقيقيا؟؟ القدم النوعي معناه أنه لم يزل أفراد النوع يوجد أحدهم بعد الآخر بلا أول! هذا هو القدم النوعي! فما معنى أن يكون قدما حقيقيا؟؟
ثم يقول حاكيا كلام الفلاسفة في مسألة أنهم لا يعرفون العلة إلا بالمعلول والعكس: “إذا افترضنا أنه (أي العلة) قديم قدما ذاتيا، ثم لا يكون معه قديم قدما زمانيا، فلابد أن يكون في فترة لم يفعل، وتعطل عن الفعل، فكيف نعرف أنه علة؟ فلا يكون علة! لأن وسم العلة عندهم أن يفعل. ولذلك قلت لك ابن سينا قال فليست العلة فاعلة بالقوة، بل بالفعل.”
قلت: يريد من هذا أن يقول إن الفلاسفة هم الذين يتأسس على أصولهم أن الباري لو لم يكن فاعلا في الأزل، على الدوام والاتصال، لم يكن علة لوجود العالم! وإذن فابن تيمية تأثر بأصول الفلاسفة في قوله بحوادث لا أول لها، وأن هذا من مقتضيات الكمال الإلهي الواجب! وهذا المعنى خطير جدا، والله المستعان! الفلاسفة يا شيخ حسام، لم يؤسسوا تصوراتهم لحال العالم حدوثا أو قدما، على تصورهم لوجود الصانع وصفته وما يجب له وما يمتنع، وكيف يصح له أن يكون علة! بل العكس هو الصحيح! فأصل القول بقدم العالم في الحقيقة هو الطريقة اليونانية في النظر في الوجود واستكناهه وتحقيقه وتكييفه! فهم لما نظروا في العالم من حولهم فوجدوه يبقى على ما هو عليه يوما بعد يوم، قالوا لابد أنه لم يزل كذلك بلا ابتداء في الماضي! أفلاك تدور من الأزل، وحركات تتجدد من الأزل، بلا ابتداء! فلما أرادوا أن يثبتوا له صانعا ما، أثبتوه بما يلائم نظريتهم الميتافيزيقية بشأن العالم وما زعموه من قدمه ومن كونه مركبا من كذا وكذا، والصفات تقوم بموجوداته بسبب كونها على كيفية كذا وكذا، إلى آخر ذلك. فما دام العالم قديما، فصانعه كذلك قديم، وهو بحيث لا يزال وجوده مستمدا من وجود ذلك الصانع على سبيل التعليل السرمدي اللاإرادي، أو الانبعاث الأزلي الأبدي! فليس هو إلا العلة التامة لبقاء الأجسام ولاستمرار تقلب الأعراض أو الصور عليها من الأزل وإلى الأبد! أو بإيجاز: ليس هو إلا المحرك العدمي الذي يحفظ لنظرياتنا سبب صحتها ومطابقتها الواقع في كل زمان ومكان! والعلة التي تقطع بها سلسلة المعلولات نظريا عند السؤال عنها! فهم ما عرفوا الرب سبحانه بالفطرة، كما يعرفه كل عاقل سوي النفس، وإنما عرفوه بأنه علة هذا العالم، وعلة كونه على ما زعموا أنه عليه في نظرياتهم! فليس داعيهم للمنع من انقطاع الفعل الإلهي (إن صح أن يسمى ذلك فعلا أصلا ولا يصح) لفترة في الماضي طالت أو قصرت، هو أنه يمتنع أن يكون علةً للعالم إن أجازوا ذلك، وإنما اضطرهم لذلك أنهم ما أثبتوه إلا علة مجردة عن كل صفة، ينبعث منها الخلق بالضرورة، دون إرادة أو قصد أو مشيئة أو علم أو حكمة أو شيء من ذلك. والحال كما مر أن نظرياتهم ليس يوصل من طريقها لادعاء بداية ما لهذا العالم في الماضي (وإن أدت بعض نظرياتهم إلى القول بحدوث هيئته التي نعرفها)! فما دام العالم موجودا، فلابد أن يوجد مصدره معه، كالبطارية، أعزكم الله، يظل النور منبعثا منها ما دام الحجر مركبا فيها، فإذا نزع، انقطع النور! فلو قدروا أن انقطع الخلق أو التعليل الإلهي لفترة في الماضي، حدث هذا العالم كما نعرفه بعدها، فما الذي يوجب ذلك وبأي شيء يترجح على تصورهم الميتافيزيقي لعلاقة الموجودات بذلك الصانع العدمي المزعوم؟؟ لا يتصور له ترجح أصلا! ولو أثبتوا له إرادة ومشيئة، لجوزوا أن يكون الواقع في غيب الماضي المطلق، وفي غيب المكان المطلق كذلك، أي فيما وراء القدر المحسوس المعتاد من هذا العالم، على خلاف ما زعموا في إطلاقاتهم النظرية، من غير أن يكون لهم طريق إلى معرفة ذلك البتة، بأيما نوع من أنواع القياس المطروقة عندهم! وإذن يصبح الواحد منهم مضطرا لاتباع أصحاب السلطة المعرفية الدينية في مجتمعهم، وهم لا يقبلون ذلك وما تفلسفوا إلا للفرار منه أصلا!! ومعلوم استكبارهم على الأنبياء والمرسلين، وزعمهم أنهم أعلم منهم، وأن الرسل إنما جاؤوا بالتخييلات والكلام الذي يلائم طباع العوام والسذج حتى يتبعوهم، إلى آخر ذلك!! ولهذا قالوا ما دام الصانع موجودا، من القدم، وما دام موصوفا بالخالقية من القدم، فلا يجوز أن يتأخر المعلوم عن علته، وإذن يجب أن يكون العالم قديما بقدم صانعه، ويمتنع أن يكون حادثا بعد عدمه!
فهذا كلام الفلاسفة وطريقة الفلاسفة. أما ابن تيمية رحمه الله، فما قال بتسلسل الحوادث لأجل أنه لو قال بخلافه لامتنع أن يكون الرب علة للعالم! وهو ما أسس إثبات الباري على معرفة ادعاها بشأن حال العالم وكيفيته وماهيات الموجودات وكذا! أبدا! فتقدير عدم الاتصاف بالفعل والخلق في فترة من فترات الزمان الماضي لا يمتنع عنده أصلا، وإنما الذي يمتنع أن يكون بحيث وجد من الأزل سبحانه دون أن يخلق شيئا البتة، قبل خلقه القلم، وأمره إياه بأن يكتب كل شيء!
فالرجل هداه الله عنده خلط وغلط كبير في هذا الباب، ومخالفة لاعتقاد السلف ولإجماعهم لا لابن تيمية وحده رحمه الله كما يتوهم، والله المستعان.
أبو الفداء حسام بن مسعود
غفر الله له

منقول من قناة إقناع

قناة إقناع غير مسؤولة عن نقل منشوراتها إلى هذا الموقع ، إنما هو عمل فردي من إدارة موقعنا

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى