والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
مقدمة:
قد يسأل البعض، إذا كان وجود الله فطري ضروري، فهل هذا يقصد منه أنه لا يمكن الاستدلال عليه بالنظر والتأمل والتدبر؟ |
الجواب والتحليل:
إن موافقة ما في العقل الضروري البدهي لما جاء بعد النظر والتأمل تزيد اليقين ولا شك، كما أن موافقة البداهة الضرورية للحس المعاين تزيد اليقين، وهذا طبع نفسي علمي في الانسان فإن علم المسألة من طريق واحد يقيني ولكن من طريقين أيقن بالنفس.
فمثلًا النفس الموسوسة المتشككة مع يقينها من طريق واحد فإنها تبحث عن طرق كثيرة حتى ترتاح وترضى، وبالطبع نحن لا نشجع هذا إنما من باب ضرب المثل.
أما النفس الطبيعية فيكفيها اليقين او الظن الراجح حتى ترتاح نفسها وهذا ليس عيباً فيها إلا إن كان فيه تقصير عن التوثيق الأكمل للعلوم إن كان مطلوباً، وإن الشيء الضروري في العقل إذا جائت العادة المستفيضة أو النقل الصريح بما يوافقه كان أوثق وأقوى في النفوس والحجاج، وأصعب في التلبيس عليه من قبل أهل الباطل والخطأ.
وكذلك الدليل القوي الصحيح مُقنع لذاته في مقامه المناسب أمام من يستوعبه بلغة الخطاب المناسبة ومكان وزمان وحال المخاطب.
ولكن قد لا يقنع المخاطب لأهواء وحيل نفسية تحرفه عن إرادة السماع والفهم ومن ثم تغيير الرأي، تكون نابعة عن طبع مكتسب قوي (كحب ما هو عليه من المنصب في بين أهل الباطل وكثرة الأتباع وتفضيله ذلك على الحق، وهذا الطبع معلوم بطلانه لكل عاقل ولكنه بالنهاية طبع مكتسب بقدره الزائد المبالغ فيه، فإن الإنسان بطبعه يحب الشهرة والاتباع ولكنه بعقله يعرف أن الحق اشرف ويدافع طبعه بعقله ويقدم العقل على الشهوة، وأما الطبع المكتسب كموت الضمير مثلاً فبسببه يتوقف حصول تلك المدافعة)
ولذلك يقال كثيراً، قد يكون الدليل صحيحًا وغير مقنع، يكفي العاقل الفاهم له في اليقين وقد لا يكفيه في الحجاج، وهذا مما قد يسبب الشك في بعض النفوس، فتورد عليه إيرادات وانقادات ضعيفة لا تقوى على إبطال الدليل الصحيح فيكذب العلم الضروري في نفسه بصحة الدليل لنفسه ويحسن الظن بالطرف الآخر، أو يتنزل معه تنزلاً في غير محله فيضعف الدليل تلقائيا بعينه حيث يشعر نفسياً بأن الدليل غير كافي ويمكن التنازل عنه لإرضاء الخصم.
وهذا يذكرك بقول الفيلسوف الأمريكي التحليلي ألفين بلانتينجا حينما قال (وأنقل كلامه بالمعنى استئناساً لا استدلالاً): “إن الدليل المقنع قد لا يقنع الجميع”، فهذا ليس دليل نسبية ولا اختلاف حقيقي في العقول إنما اختلاف في طبائع النفس العاقلة واسباب القبول والنفور من الحق إن توضح، ولذلك مثلاً هناك مغالطة منطقية تسمى “تسميم البئر” وهي رفض السماع لمصدر كامل وتزييفه بلا سبب صحيح ومقنع لمجرد أنه لا يريد الاحتجاج بهذا المصدر إرادة محضة غير مبررة.
كما جاء في الآية الكريمة:
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7]
ففي هذه الآية كان تبرير اصرارهم على عدم السماع أصلا لنبي الله نوح كان لمجرد الكبر ليس إلا، فهم لا يريدون السماع منه لا حقاً ولا باطلاً ابتداء وهذه صورة من مغالطة تسميم البئر.
بالنهاية يكفيك في الحجاج (النقاش) أن تبين الحجة (الدليل) بصورة ولغة مناسبة للمخاطب وعقله وسعة علمه وثم لا تبالي إن اقتنع أم لم يقتنع، وانقطع من جداله إن رأيته يكابر على الحقائق ويكذب الواضحات، فهذا يكذب على نفسه قبل أن يكذب عليك، وقبل أن تقنعه انت عليه أن يفتح الباب أصلا للاقتناع.
الخلاصة:
اليقين المطلوب في اعتقادك في أركان الإيمان وأصول الدين بعموم هو الجزم المنصرم الذي تتمنى أن تموت عليه والذي لا تضع احتمالًا أن يكون باطلًا في يوم من الأيام أي ما يقال عنه “100%”، ولكن اليقين من هذا النوع نفسه قد يزيد فيصبح مثلًا 200%، وهو كله يشترك بالقدر الذي يصح أن يُسمى لأجله يقين فتجد الله سبحانه وتعالى قسم اليقين لمراتب فقال تعالى في سورة التكاثر : ” كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ” (التكاثر: 5-7) أي ترونها معاينة بالأبصار موقنين حقيقتها ، ثم قال تعالى : ” ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ ” (التكاثر: 8) أي لتسألن يوم القيامة عن نعيم الدنيا من صحة الأبدان والأسماع والأبصار والمكاسب وملاذ المآكل والمشارب ، وغير ذلك هل أديتم شكرها على الوجه المشروع (1)
وجعل اليقين الكامل هو اليقين العقلي الحسي وليس العقلي وحده كما عند كثير من الفلاسفة والنظّار المتأثرين بالنزعة المثالية الأفلاطونية التي توهن وتقلل من قيمة الأجسام والمحسوسات مقابل الأفكار والقيم والمجردات.
مراتب اليقين:
المرتبة الأولى : علم اليقين ، وهي انكشاف المعلوم للقلب ، بحيث يشاهده ولا يشك فيه كانكشاف المرئي للبصر .
المرتبة الثانية : عين اليقين ، أي مشاهدة المعلوم بالأبصار .
المرتبة الثالثة : حق اليقين ، وهي أعلى درجات اليقين ، وهي مباشرة المعلوم وإدراكه الإدراك التام .
فالأولى : كعلمك بأن في هذا الوادي ماء ، والثانية : كرؤيته ، والثالثة : كالشرب منه (2) .
ومثال آخر : إيماننا الجازم بالجنة والنار هذا علم اليقين ؛ فإذا أزلفت الجنة يوم القيامة للمتقين ، وشاهدها الخلائق ، وبرزت الجحيم للغاوين ، ورأها الخلائق ، فذلك عين اليقين ، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، فذلك حينئذ حق اليقين (3).
ومما ينبغي أن يعلم أن اليقين يقوى ويضعف ويزداد وينقص ، فهو درجات متفاوتة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” للمؤمنين العارفين بالله المحبين له من مقامات القرب ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة ، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله “(4) وقال عن اليقين في موضع آخر : ” له درجات متفاوتة “(5) وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ” اليقين يضعف ويقوى “(6) .
خاتمة:
واليقين لا يحصل دائمًا بالنظر والإستدلال وحسب كما يظن البعض، فهب أن عندك منظار ترى فيه الأشياء في المسافات البعيدة، فهل سترى به بشكل واضح وهو متسخ العدسة؟ أبدًا، فكما أنك تحتاج تنظيفها فأنت تحتاج أن تزكي النفس وتزيل الأهواء الصارفة عن قبول الحق والبحث عنه بصدق، ولذلك فأحيانًا النقاش مع صاحب الباطل لا يجب أن يكون نقاشًا عقليّا استدلاليّا جافًا خاليًا من الوعظ والتذكير بما تعلم يقينًا كونه مركوزًا في فطرته.