سلسلة منهجية العلم التجريبي #فلسفة_العلوم – الجزء الثالث
هل يمكننا أن نقبل عبارة رياضية قانونية من نظرية معينة دون قبول جميع ما تقرره النظرية؟
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين والقرون الثلاثة الأولى المفضلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد تكلمنا في المقال السابق عن معنى العبارة الرياضية في أصلها، ومن أي وجه تعتبر مكتشفة ومن أي وجه معتبر مخترعة أو “موضوعة”، ولعلكم مررتم يومًا على نقاش يتهم فيه الدهري العلموي خصمه السنّي أنه إذا كان يريد أن يستفيد من تطبيقات نظرية معينة فعليه أن يقبل كل حمولتها الانطولوجية “الوجودية”، أي لا يعاملها كنظرية تصف الواقع وصفًا تمثيليّا وتقريبيّا وتتبعه بالوصف الرياضي واللغوي بأحسن وأوفق ما قد ظهر للنظّار فيها من مشاهدات best guess (من حيث المبدأ، وإلا فأحيانا تكون التفسيرات سفسطائية يهدم أولها آخرها)، إنما يريدك الدهري أن تعامل القياس التمثيلي التقريبي بأن تساوي بين المشبه والمشبه به واقعيّا، أو إن ربط الناظر التجريبي بين متغيرين في ما يظهر له من اقترانهم ورأى أن يعتقد أن أحدهم يؤثر بالخلفية (أي في ما وراء الحس) على المتغير الثاني بكيفية معينة قياسًا على عملية أخرى مشابهة بوجه من الوجوه لهذه، كان لزامًا عليك إن وضعت العبارة الرياضية توافق المشاهدات أن تقبل التفسير نفسه الذي بنيت عليه، وبالحقيقة هذا لا يلزم، لأن عملية الضرب والقسمة وغيرها التي يضعها الناظر في المعادلة هي نفسها ليست واقع الأمر إنما تشبيه لأقرب العلاقات الرياضية التي يمكن أن تعبر عن شيء شبيه بما يحدث بالقدر المشاهد واقعًا لتخرج نتائج مشابهة لما علمناه أنه ينتج عن العملية واقعًا، ولنضرب مثال:
السرعة = المسافة ÷ الزمن
V=DT
فكما تلاحظ في الواقع إذا شاهدت سيارة تمشي، فلا يوجد شيء واقعي يتم تقسيمه مثلًا بالسكين أو أي أداة للتقطيع والتقسيم والتجزئة يسمى المكان والزمان!
إنما الأمر كله تشبيه للتعامل مع الأرقام عند قياسها وتحويلها إلى أرقام بوحدات القياس، بل حتى وحدات القياس واستخدام القيم الرياضية (الأرقام) كله من أساسه قياس تشبيهي، فإذا قلت أن الشارع مثلًا 30 متر، بالحقيقة ليس الشارع مكون من 30 متر مركبين ببعضهم كما تركب الطوب!، انما أنت أخذت مسافة معينة من امتداد الشارع واعتبرتها متر كما اتفق النظار بمسافات أولية معيارية حتى يتم القياس بتكرارها لاستخراج قيمة لأطوال أو امتدادات الشيء المتصل، ونفس الشيء في الزمن، والقسمة إنما تعبر عن تشبيه لطريقة التغير التي تحصل بين هذه القيم، فإذا حولنا المدة الزمنية إلى رقم بقياسها باستخدام وحدة قياس مناسبة، والمكان أيضا ووضعناهم في معادلة فما أقرب صيغة رياضية تمثيلية يمكن أن توضع لتصف عبارة (أن كلما كان الجسم المتحرك أسرع لزم بالضرورة العقلية والعادة المستفيضة أن يعبر المسافة المعينة بزمن أقل، هي قسمة المسافة على الزمن، لكن بالحقيقة لا يوجد شيء عيني قائم بنفسه خارج الذهن اسمه زمن يوضع في أداة تقسيم وتقسمه مع حركة السيارة!، فإن كان أساس وضع العبارة الرياضية كله قياس تمثيلي وتشبيه في تشبيه، والنظرية التي قد توضع العبارة بالأساس قد تكون أيضًا قياس تمثيلي لتفسير تغير المتغيرات داخل المعادلة بأن كذا يؤثر على كذا بالطريقة الفلانية حتى يحصل كذا، فتخرج النتيجة الفلانية، فلا يلزم أنك ان استخرجت نتيجة مطابقة للواقع بالمقارنة الحسية بين معادلتك وما تراه في الظاهرة أن تكون المعادلة من حيث التفسير صحيحة فهي تفيدنا معرفيا لا وجوديّا (أي من حيث التطبيق بالنسبة لنا تفيدنا أن نعرف نتائج العملية كل مرة في حال عدم وجود موانع سببية من سير الأمر كما يسير في العادة التي وضعت العبارة الرياضية (القانون الرياضي) لوصفها، وهذه تسمى الكفاية المعرفية، يعني أنا يكفيني أن أعرف أن هذا الشيء كأنه يعمل هكذا فينتج كذا وهذا مفيد لي عمليّا فلا أحتاج أن أتيقن أن تشبيهي هذا هو واقع الأمر لأن المسألة كلها أصلًا تم دراستها لأستفيد عمليّا وليس ترف فكري فقط، فمعرفيا نحن نستفيد من قدرتها التنبؤية من حيث انها وضعت كوصف يراعي الظاهرة الفعلية ولا يلزم ان نقبل الحمولة التفسيرية التي تزعم انها تطابق الواقع في ما وراء الجانب المحسوس من الظاهرة، وسأضرب مثال لأوضح الأمر:
هب أن هناك سرقة حصلت، فجاء شخصين للقاضي، وضعوا نظرية تفسر كل ما تمت مشاهدته في مسرح الجريمة، لكن بمتهمين مختلفين تماما، والنظريتين استطاعت ان تقدم تفسير يؤول اليه واقع الأمر إلى أن يكون الغرض فعلا مسروق مع مشاهدة جميع هذه الآثار.
فكون الفرضتين تفسر الواقع بالاستفادة من المشاهدات المعينة، لا يعني أن التفسير نفسه صحيح، فالمشاهدة التي يحاولان تفسيرها غير التفسير نفسه، وأحيانا تتساوى الكفة في التفسيرات underdetermination، فيكون التفسيرين فعلا لو صح أي واحد منهم سيحصل نفس الشيء
كأن يقال
لو حصل (ص) سيحصل (س)، وفعلا س حاصل إذا ص سبقه
ولكن أيضا يصح أن يقال لو حصل (ب) سيحصل (س) وفعلا س حاصل، فهل حصل قبله (ص) أم (ب)، إن كان (ب) و(ص) مما لا يرجى التأكد منه حسيًا فوصفك لحصول (س) لا يكفي للترجيح بين التفسيرين، إنما يكتفى بالتشبيه والترجيح الاحتمالي وليس لك ان تمنع أحد ان يستغل المشاهدة المفسرة (س) لكن بتفسير مخالف لتفسيرك مع الاستفادة من جميع الأدوات التي تصف المشاهدة، ولو كانت معادلتك الرياضية التي تصف المشاهدة مهما كنت قد حشرت فرضياتك داخل العبارة الرياضية، لأن العبارة أساسًا موضوعة كوصف تشبيهي رمزي لوصف الظاهرة المحسوسة أمامك والتنبؤ بها بشكل مطابق للحس، وفرضياتك الموضوعة ليس لها أي قيمة معرفية زائدة عن فرضيات العالم المخالف لك في التفسير طالما ليس عندكم مشاهدة مرجحة لأحد التفسيرين، وسواء هو حشر فرضياته في العبارة الرياضية أو حشرت أنت فالعبارة الرياضية هي تبقى قياس تمثيلي للواقع المشاهد أمامك، الأهم هو الفائدة الفعلية وهي انها فعلا تتطابق مع الظاهرة في القدر المشاهد منها ولا علاقة لنا بالجانب الغيببي منها، فها نحن نقبل التنبؤات الطقسية بشكل كامل التي تنبئ بالتغيرات المناخية مع أنها تستثني أي عمل للملائكة داخلها، ومع ذلك تعطي نتائج صحيحة، ولا يلزم أن نقبل تفسيرهم هم (أي الطبعانيين) لهذه الظاهرة إنما نقبل وصفهم للظاهرة بما هو في العادة ونقول ان القدر المشاهد من التغيرات التي في العادة تحصل على ما تحصل عليه لعمل ملائكة في الغيب تجريها على هذه الطريقة بأمر ينزل من الله عليها وان هذه الملائكة لو توقفت عن عملها الموكلة به لتعطلت هذه العملية المشاهدة بالكلية والله أعلم بالكيفية التي تدبر الملائكة فيها هذه العملية من وراء الحس، وليس لأحد أن يعترض بأنه يملك المعرفة بالسببية الكاملة وراء هذه العملية، وسأشرح الفرق بين السببية الكافية معرفيّا والسببية الكاملة وجوديّا في مقال آخر إن شاء الله، على أية حال فهم لهم ان يربطوا بين الأسباب في القدر المشاهد وليس لهم أن يزعموا انتفاء أي سبب في ما وراء القدر المحسوس أو أن يفترضوا مبدئيّا أنه يجب أن يكون طبيعي نوعًا فنحن لا يلزمنا اعتقادهم الفلسفي الطبيعي كما ترى! إلا لو زعموا أن لديهم استقراء كامل ولم يعد يغيب عنهم أي شيء في الزمان أو المكان أو الوجود بشكل عام وأنهم رأوه أنه كله طبيعي نوعًا وهذا لم يحصل لهم كما ترى!.
وليس للناظر أيضًا أن يطرد المعادلة على جميع القيم الممكنة عقلًا فمن المعلوم أساسا أن بعض المعادلات تتوقف فائدتها للمطلوب (أي أن تصف الواقع وصفًا صحيحًا) عند مجاوزة حد معين من القيم سواء بالسالب أو بالموجب، لأننا كما قلنا هي أساسا قياس تمثيلي لوصف الظاهرة المشاهدة التي يشترط لحصولها أن تجتمع أسبابها الكافية وتنتفي الموانع، فالظاهرة التي تحصل عندما تسير السيارة بسرعة 100 كيلو بالساعة لا تدري هل تستمر إذا سارت السيارة بسرعة 100 مليار كيلو متر بالساعة، لعدم وجود أي مشاهدة أو تجربة تتناول هذه القضية، فلا يمكنك ان تطرد المعادلة التي تصف تأثير دوبلر على الصوت الصادر من السيارة في هذه السرعات الضخمة المليارية لأنه ببساطة ليس في عادتك شيء يجعلك تجزم او تظن حتى ظن راجح أن تستمر الظاهرة هذه “تأثير دوبلر” في هذه الحالة!.
فلا يمكنك أن تعمم المعادلة هذه إلا في حدود الاستقراء والقيم المعتادة وكلما ابتعدت عنها قلت القيمة المعرفية لها وقل احتمال مطابقتها للواقع في معرفتك واتجهت نحو “اللا أدرية” في الحكم على الظاهرة في الغيب.
وهذا طبعًا خلاف ما يقوم به الفيزيائيين بطرد معادلاتهم التي تصف ظواهر أرضية على الكون كله من اوله لآخره وقياس الكون كله على أنه نظام مغلق (بعضهم يعللها بعدم وجود مكان خارجه مثلًا – زعموا!)، أو آلة ميكانيكية أو غيره، أو ادعاء معرفة السببية الكاملة وراء ظاهرة معينة، وهذا لأنهم يعاملون العلم التجريبي ليس كأداة معرفية للاستفادة من النظاميات السببية التي مكننا الله من معاينتها بشكل مباشر او غير مباشر، إنما مصدر لمعرفة الغيوب مطلقة التغييب عن الحس البشري والقيام مقام الأنبياء في الإخبار عن هذه النوعية من الغيبيات والمبدأ والمعاد والله المسعان، وهذا كما هو معلوم من معتقدات العلموية وأصحاب الوضعية المنطقية.
هؤلاء يعتقدون أنهم يضعون معادلات لا تصف فقط العادة في طبائع بعض الأشياء في الواقع في ظروف معينة كما شاء لها الله أن تكون في مكان معين وزمان معين، إنما طبيعة الواقع نفسه من حيث كونه واقع، أي تنظير على شرط الوجود، أي بمجرد أن يكون الشيء موجود لا بد أن تؤثر عليه هذه الظاهرة الكونية التي عمموها على الزمان والمكان مهما كانت طبيعته!، كل موجود لا بد ان يدخل بشكل أو بآخر في نظرية النسبية او تحت تأثير ظاهرة الجاذبية أو غيرها من النظريات، فهم يعتقدون أنه لا موجود بحق إلا ما هو يناظر من نراه من طبائع الأشياء والعالم المشهود لنا مما هو حولنا (لا موجود بحق إلا الطبيعة) وهذه مسلمة دهرية فلسفية وليست مسألة علميّة ولو رغمت أنوف! ليس لأحد أبدًا أن يدعي أن هذه المسألة قام عليها أي دليل مستساغ عقلًا بل والله ولا شبهة دليل، هذه مسلمة الدهريين التاريخية وليست حقيقة علمية، بل هم يبنون طريقتهم في التعامل مع المعادلات أساسا عليها، ويعتقدون أن طبيعة الوجود أن تحكمه هذه المعادلات الرياضية كأنما هي آلهة أفلاطونية في عالم المثل وقد شرحت لماذا أنا أشبهها هذا التشبيه في مقال سابق تجدون رابطه في التعليقات، فتشابهت قلوبهم مع قلب أفلاطون وأجدادهم من الفلاسفة اليونانيين، لذلك يعتقدون أنهم يكتشفون المعادلة الرياضية نفسها ويقدسونها ويعتقدون فيها أنها أعلى قيمة معرفية من سائر المصادر المعرفية، لأنهم لا يعتبرون أنها وصف قد يصيب وقد يخطئ وله حدود في صوابه، إنما هي الآلهة التي تحكم الواقع كله من أوله لآخره زمانيّا ومكانيّا، لذلك تجد مثلًا من يفسر بمعادلات الجاذبية نشأة العالم كله، تفسير نشأة الكل من جزئه!، فتأمل.
وهذه الخدع الدهرية التي يحشرونها في العلم التجريبي مع ادعاء الحياد العلمي تنطلي على كثير من بني جلدتنا هداهم الله فيقدسون بضاعتهم تحت اسم “العلم” والعلم قال كلمته وما إلى ذلك من تلك العبارات الساذجة السمجة التي بمجرد أن تسمعها فلك أن تعلم أن الذي يرددها مقلد لا يدري يمينه من شماله في فلسفة العلم ومناهج الاستدلال في مواضيع العلم التجريبي ومراتب المعارف من حيث الغيب والشاهد عن الحس، ولا يدرون أنهم إنما سموه العلم باطلاق لأنه مصدرهم الوحيد في معرفة الغيوب المحضة التي يقوم مقام الأنبياء والكتب، فكما يعد أهل الأديان ما عندهم من عقائد موروثة عن أنبيائهم هي أعلى العلوم قيمة كما قال الله تعالى:
شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿١٢٠ البقرة﴾
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿١٤٥ البقرة﴾
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴿٧ آل عمران﴾
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴿١٨ آل عمران﴾
فالله سبحانه يعد العلم بإطلاق هكذا أي أعلى مراتبه هو ما نزل منه سبحانه إلى أنبيائه، بما فيه إطلاعهم على المبدأ والمعاد والأخلاق والغايات والمعاني والعبادات والمصير والتعاملات وما الله به عليم هو الأعلى من حيث القيمة المعرفية
والطبعانيين الدهرية يستبدلون كل هذه الأمور قيمهم وأقيستهم الطبعانية المادية محلها على ما أحب أن اسميه “Nature in the gaps” ويقولون للناس قد جائكم العلم من عندنا فاذهبوا إلى أديانكم وأولوها وإلا سقطت فالدين تبعًا للعلم وإن تعارض الدين والعلم قدمنا ما عندنا من العلم عليه وإن توافق كان فضل العلم عليه هو أن يثبت صحته!، فصار كل ما يأتيك به الطبعاني اسمه علم مهما كانت منزلتهم المعرفية من حيث الثبوت لا ترقى أن تكون شبهة دليل فضلًا عن أن تقدم على كلام ثبت أن الرب خالق العقل والحواس قد قاله!، الله المستعان ولا رب سواه
يكفي البيان إلى هذا الحد إلى أن ألقاكم في جزء جديد من المقال
أخوكم الغيث الشامي أبو عبادة ستر الله عيوبه
1142022
#سراج