العلوم الشرعية

في مطابقة نظريات الطبيعيين في الغيبيات للقرآن الكريم

التحذير من سلوك مسلك الإعجازيين في حمل القران الكريم على تخرصات الطبيعيين في الغيوب المحضة

 

❑ يقول الإمام الطبري في تفسيره:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا محمد بن بشر، وقبيصة، عن سفيان، عن عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار»
حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «من تكلم في القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار»حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبي معمر، قال: قال أبو بكر الصديق: «أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم»

ثم علق على الأثر قائلًا:


وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا، من أن ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه، إلا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بنصبه الدلالة عليه، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه، بل القائل في ذلك برأيه، وإن أصاب [ص:73] الحق فيه، فمخطئ فيما كان من فعله بقيله فيه برأيه، لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق، وإنما هو إصابة خارص وظان، والقائل في دين الله بالظن قائل على الله ما لا يعلم، وقد حرم الله جل ثناؤه ذلك في كتابه على عباده، فقال: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] فالقائل في تأويل كتاب الله الذي لا يدرك علمه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعل الله إليه بيانه، قائل بما لا يعلم، وإن وافق قيله ذلك في تأويله ما أراد الله به من معناه، لأن القائل فيه بغير علم، قائل على الله ما لا علم له به. وهذا هو معنى الخبر، الذي حدثنا به العباس بن عبد العظيم العنبري، قال: حدثنا حبان بن هلال، قال: حدثنا سهيل بن أبي حزم، قال: حدثنا أبو عمران الجوني، عن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ» [ص:74] يعني صلى الله عليه وسلم، أنه أخطأ في فعله، بقيله فيه برأيه، وإن وافق قيله ذلك عين الصواب عند الله، لأن قيله فيه برأيه، ليس بقيل عالم أن الذي قال فيه من قول حق وصواب، فهو قائل على الله ما لا يعلم، آثم بفعله ما قد نهى عنه وحظر عليه .

_
قلت: ومن وجوه النقض عليهم أن يقال:

❑ الوجه الأول: إن هذه النظريات هي عند أصحابها غير يقينية في ذاتها، إنما هم يرون أن المشكاة والأصل الذي خرجت منها يقيني، وليس آحاد النظريات في هذه الأبواب (وأقصد علم نشأة الكون مثلًا “الكوزمولوجيا” cosmology.
فآحاد النماذج المقترحة في السيناريو وترتيب الأحداث ووفق أي قانون طبيعي جرت هذا مما يختلفون فيه اختلاف شديد، ولكن اليقيني عندهم هو أنه لا بد أن العالم نشأ وفق آلية طبيعية وسبب طبيعي ولا يخفى أن هذا هو عين دهريتهم أصلًأ فهم لا يقولون “الطبيعة” حادثة، إنما الكون المعين الذي يعرفونه بأنه كل مافي الزمان والمكان حادث ويقولون بوجود طبائع قبل وجود الزمان نفسه هي من أحدثت العالم!

ولا شك أن هذا تناقض من وجوه، فلا معنى لوجود طبائع وصفات العالم قبل العالم نفسه إذ لا توجد الصفة قبل الموصوف! فضلًا عن أن تخلق الصفة الموصوف بها بالأساس!، ولا معنى لوجود قبل للزمان نفسه إذ ما هو قبل أيضًا زمان! وإلا فهذا تناقض صارخ.

ولكن الشاهد هنا أن هذا المنهج فاسد من حيث هو، وكذلك غير يقيني عند أصحابه في أحاد النظريات وإنما الأمر عندهم هو شهرة نموذج معين وقبول الجمهور له مع تجويزهم الإتيان بنموذج أخر منافس ومتكافئ معه من حيث الدلالة الحسية بما يعرف بمشكلة “underdetermination by observation” “تكافئ الدلالة الحسية” فالمحسوس المباشر يقبل التأويل على النظريتين بسبب أن ما وراء هذه المحسوسات أصلًا هو غيب محض فهو قابل من حيث المبدأ لخيال أي شخص كما هو واضح!.
فهل بمثل هذا يمكن أن نفسر كلام الله عز وجل!!.

❑ الوجه الثاني: حتى لو فرضنا مطابقة كلام الله عز وجل لتخرصات القوم في جزئية معينة، فيقال فيه كذب المنجمون ولو صدقوا ويقال فيه كما قال الإمام: “فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه، بل القائل في ذلك برأيه، وإن أصاب الحق فيه، فمخطئ فيما كان من فعله بقيله فيه برأيه، لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق، وإنما هو إصابة خارص وظان، “

ولأن الله عز وجل هو وحده من يعلم تأويل هذه الأيات بمعنى الكيفية التي تحققت فيها هذه المعاني في الغيب، لأن الآية ليس فيها نفس التفاصيل التي يذكرها الكوزمولوجيين “علماء نشأة الأكوان!!!” فمن أين زعمت أن ما ذكر في الآية قصد فيه نفس التفصيل الظني الدهري الأعمى الذي قالوه! بأي شيء حملت مجرد التوافق الظاهري بين الآية وبين بعض كلامهم على أن المقصود بالآية نفس كلامهم بالتفصيل من كل وجه!

فهب أن الله عز وجل ذكر أن العالم يتوسع مثلًا، والكوزمولوجيين ذكروا أن العالم يتوسع، فمن أين لك أن التوسع الذي قصده الله سبحانه في كتابه هو نفس التوسع الذي يتكلمون عنه بنفس التفاصيل ولنفس الأسباب والأقيسة!

فالمنهج كما ترون يا اخوة كله اعتداء صارخ على كلام الله.

❑ الوجه الثالث: لا يعدو تفسيرك لهذه الآيات أن يكون وجه من وجوه التفسير ولو تنزلنا معك فهو متكافئ مع غيره من حيث كونه هو المقصود من الآية فعلًا، وبهذا يكون ظنيا ولا يمكنك الزعم بأنه يقيني وتحلف أنه هو المقصود بالآية وإلا كنت مكابرًا كذابًا ناديت على نفسك بالجهل والفضيحة والزندقة فلا نحتاج حتى لتكلف الرد عليك، فما الفائدة من تفسيرك إن كان ظنيا وهدفك إثبات صحة الإسلام بالكلية بناء على هذا؟ وهل يثبت اليقيني بالظني؟

وإن قصدت إثبات صحة النظرية نفسها فيقال لك إن كانت النظرية ظنية في نفسها فما وجه تفسيرك للآيات بها؟ وإن كان التفسير ظني فما وجه تصحيحك للنظرية بالتفسير؟
على أن هذا المنهج فيه دور قبلي ممتنع واضح، وكأنه يقول:
(أ) لو صحت النظرية فيحتمل أنها هي المقصودة في الآية
(ب) لو أمكن أن تكون هي المقصودة في الآية فهي صحيحة
النتيجة: يمكن أن تكون صحيحة ويمكن أن تكون مقصودة من الآية فهي صحيحة!

فخبرني بربك أي مقدمة بنيت على الأخرى وأيهم النتيجة! وهل تدري ما يخرج من رأسك أصلًأ يا عدو نفسك! والله لا أنا ولا أنت نصبر على حر جهنم ولا بردها فاتق الله في نفسك وفيمن يقرأ لك!

هذا والله أعلم

#الغيث_الشامي

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات الهدّامة قديمها وحديثها حفيد الدارمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى