قضايا

في قولهم: قد ثبت هذا رياضيًّا، ولغة الأرقام لا تكذب!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

“الوجه الرابع: العلم الرياضي لا تكمل به النفوس وإن ارتضت به العقول:
إن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والى الرياضي والى الإلهي وجعلهم الرياضي أشرف من الطبيعي والإلهي أشرف من الرياضي هو مما قلبوا به الحقائق.
فإن العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج ومبدأ حركاتها وتحولاتها من حال إلى حال وما فيها من الطبائع أشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة فإن كون الإنسان لا يتصور إلا شكلا مدورا أو مثلثا أو مربعا ولو تصور كل ما في أقليدس أو لا يتصور إلا أعدادا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج وليس ذلك كمالا في النفس ولولا أن ذلك يطلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجية التي هي أجسام وأعراض لما جعل علما.
وإنما جعلوا الهندسة مبدأ لعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية.
فان علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل والهندسة التي هي علم بالكم المتصل علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة مثل: جمع الأعداد وقسمتها.[1] “

يبين شيخ الإسلام في كتابه الرد على المنطقيين وغيره من الكتب إن الكليات الذهنية والمقدرات الذهنية المحضة كالمقادير والأعداد الرياضية ولو كانت مادتها في ذاتها يقينية فإنها لا تفيد علمًا بذاتها بموجود خارجي معين، ولا يحتاج إليها إلا من باب تقريب تصور الجزئي إن كان صعبا فيفرعه الذهن على الكلي (كما في قياس الشمول)، وفي العصر الحديث صارت تمثل العلاقات بين الطبائع الخارجية للأشياء في عبارات قانونية كلية انتزعت من الاستقراء في اطار المقادير التي وقع عليها الاستقراء وفي ذلك الحيز الزماني والمكاني الذي يسري فيه النظام والسنن الكونية المعينة المخصوصة له في حد علم الناظر فإنه يطبق كل مرة هذه القيم التي يستخرجها من الموجودات والمعدودات الخارجية ويطبق عليها هذا النمط في الحساب فيخرج بنتائج مفيدة، فاستخدام الرياضيات هنا أداتي كما ترى، وكثير من مواده يدخلها الاستقراء الناقص فهي تطبق في حيز الاستقراء باحتمال صحة عالي فعلا لكن خارجه تتضائل احتمالية صحتها المعرفية كلما ابتعدت عن حيز الاستقراء ليستحيل علمك بالنهاية إلى القول بغير علم ولا دليل لخروجك عن حيز الاستقراء وبعدك عنه ابتعادا كبيرا في الزمان والمكان،
كمثل من يمثل ما تعلمه من طبائع النار والأشجار في الدنيا على النار والأشجار في جهنم!
وإن الرياضيات تبقى على ضرورتها الصارمة ما إن بقيت حكما ذهنيا محضا (كقولنا 1+1=2 بالضرورة) أو لغويا شيء مع شيء شيئان ما لم يستحيلا إلى شيء آخر (وركز على القيد الأخير) فإن أحكام الخارج من تحولات المادة عند جمعها مع مادة أخرى أكثر توسعا من صرامة التعامل مع العدد المجرد، فلا يقال إن ما أثبتناه ذهنيا رياضيا إن كان ضروريا فإن وصفنا به طبيعة خارجية لزم أن تكون هي ضرورية أيضا لضرورة العبارة التي استعملت لوصفها بها
فإن الحقيقة الخارجية ليست مطابقة للعبارة الرياضية من كل وجه بل هي عبارة وصفية خبرية مع قياس تمثيلي، فأنت تمثل المقادير الخارجية بمعاني كلية ذهنية في رأسك ثم تمثل العلاقات الخارجية بين هذه الطبائع بالعلاقات الذهنية المجردة بين المقادير الذهنية المجردة كالضرب والقسمة، ففي الخارج قد توجد شروط وموانع تتغير فتغير طبيعة تفاعل المواد مع بهضها بما لا يكون داخلا في العبارة الرياضية التي استخدمتها انت في وصفها، وفي الخارج فإن طبيعة المعدود ب 1 مثلا قد تتغير بينما الواحد الذهني لا تتغير ماهيته إلى 2 مثلا بل يبقى معنى الواحد واحد ومعنى الاثنين اثنين بالضرورة.
فالعبارة الرياضية التي تصف سرعة سقوط الأشياء على الأرض كل مرة أنها 9.8 (تسارع الجاذبية) ليست ضرورية عقلا أن تكون مطابقة للخارج، بل هي احتمال كبير جدا كما هو في العادة يبلغ مرتبة اليقين في الحياة اليومية في استقراء البشر لنوع الشروط والموانع المتوفر بكثرة في العادة، وأما العبارة ذهنيا اي بغض النظر عن متعلقها الخارجي بل العلاقة بين المقادير الذهنية المحضة في هذه المعادلة فهي ضرورية يستحيل أن تنخرم لكن غلط من أخرج هذا من الأذهان لينزله على الأعيان!
وأتمنى أن أكون قد أحسنت إيضاح هذه المسألة
وهذا له علاقة بثمرة البحث الرياضي فإن كثيرا منه يتحول لبحث فلسفي محض لا ثمرة تطبيقية له أبدا وهذا مما لا ينبغي أن يضيع المسلم وقته فيه ويلتزم بدراسة ما له فائدة تطبيقية ممكنة إمكانا خارجيا علم له نظير ومحل يمكن أن يطبق فيه ولو بعد حين.
وقد تكلمت عن هذا في عدة مقالات في السابق سأضع رابطها، عن حقيقة الرياضيات وتطبيق المعادلات الرياضية في الفيزياء بشكل أكثر تفصيلًا.

وفي هذا يقول البروفيسور المهندس أبو الفداء حسام بن مسعود:

“الرياضيات إنما هي لغة رمزية كأي لغة يستعملها الإنسان في تصوير فئة معينة من فئات المعاني وتركيبها (العلاقات الذهنية بين أسماء الوحدات المتكررة – ككميات أو أعداد – سواء كانت تعبر عن أعيان متباينة كما في المعادلات الرياضية ونحوها أو عن صفات متداخلة لعين واحدة كما في التعبير الهندسي).
فليست هي «مكتشفة» ولا «مخترعة» كما اختلفت فيه الفلاسفة، وإنما هي لغة رمزية تتعامل مع بعض أنواع المعاني التجريدية بصورة مرجعها إلى مبدأ المعالجة اللغوية المنطقية للعلاقات بين تلك المعاني اللفظية محل البحث والتجريد. فما كان من بدهيات تلك المعاني في التجريد الذهني فإنما يتوصل منه (بالتركيب والمعالجة اللغوية الرمزية) إلى تصور علاقات كلية تجريدية صحيحة – معنويا – بين معالجاتها المختلفة ولا شك (وليس اكتشافها بالمفهوم الأنطولوجي)، وما كان من صور التعبير الوصفي والهندسي عن شيء واقعي، فإنما هو ضرب من التعبير اللغوي عن شيء أو نوع واقعي، بما يرد على أي تعبير لغوي من إجمال وتأویل و اشتباه و مغالطة وسوء تصور وغير ذلك وليس هو اختراعا بالمعنى الوجودي أيضا.”
ويبنى على هذا أن الاستدلال بالرياضيات على الموجودات الخارجية لا يحمل أي قيمة معرفية زائدة عن الاستقراء أو التعبير اللغوي الاعتيادي أو الضرورات المعرفية الأخرى التي لا يعبر عنها بالرموز الرياضية بالعادة إلا أنها كلغة تكون أدق في التعامل مع المقادير المتصلة والمفصلة من سائر الأساليب اللغوية الأخرى وأبعد عن الإجمال أيضا في كثير من التخصصات المعرفية (ولا أقول كلها)، ومن الافتتان بطريقة التعبير الرياضية في غير محلها أن بعض الباحثين يحلمون أن يحولوا جميع العلوم إلى علوم مريّضة نظير ما هو حاصل في الفيزياء! سواء بوجود داعٍ لذلك أو بعدمه.

ويقول:

“من أثر انتشار الفلسفة الوضعية في بلادنا أن صرنا نسمع قول القائل من المفتونين من بني جلدتنا: “لغة الأرقام لا تكذب!” فمن أين جاؤوا بهذه الدعوى الكلية المجملة العريضة وما دليل ذلك الاعتقاد لديهم؟
حقيقة الدعوى أيها القارئ الكريم أن كل من تمكن من صياغة فكرة من الأفكار لديه (أيا ما كانت) في «لغة الأرقام»: أي في معادلة أو عدة معادلات أو مصفوفة أو في أنموذج جيومتري أو نحوه فقد صدق بالضرورة (أي إذا كان التعبير الرياضي نفسه صحيحا بمقاييس الصنعة)! فبأي عقل تصدق هذه الدعوى الكلية نفسها عند من يتدبرها؟ هذا إطلاق فاسد لا يليق بعاقل أن يسلم به! ما كان من أعداد أو بيانات عددية لمعدود ما مما يمكن توثيقه بمجرد تكلف العد والإحصاء في أعيان معدودة لنوع مشاهد محسوس فهذا من «الأرقام» التي يحتج بها ولا إشكال لأن معدودها حاضر في الحس المباشر يمكن مراجعته لمن أراد.
فهنا يصح أن يقال إن «لغة الأرقام» لم تكذب! أما أن يقال عند المخاصمة: الحجة بيني وبينك هي “لغة الأرقام”؛ ثم يساق إلى الخصم من التنطع بالعبارة الرياضية والقياس التخميني في الغيبيات المحضة ما لا يسمن ولا يغني من جوع: فهذا لاحجة فيه عند من يعقل» والحمد لله رب العالمين!” [3]

لذلك كان شيخ الإسلام يقول:

“بل لولا المعدودات والمقدرات الخارجية ما عُدَّت الرياضيات علما، مع أن قوانينها ضرورية يقينية لا تنتقض ألبتة، لكنها محدودة الفائدة إذا لم تتعلق بموجودات خارجية، وغاية فائدتها حينئذ اللذة الذهنية، والرياضة العقلية، وتدريب النفس على الصواب، كما يصنع الطلاب عند دراسة علم المواريث والتدرب على قسمة التركات، فما لم توجد تَرِكات تقسم في الواقع الخارجي يبقى هذا العلم محدود الفائدة.
وهكذا الهندسة؛ فإن اليونان لم يتعلموها لمجرد تصور المقدرات؛ بل احتاجوها لأجل العمران، ولأجل ما أوقعهم فيه الشيطان من عبادة الكواكب، فكانوا يبنون لها الهياكل، ويرصدونها ليتعلموا مقاديرها ومقادير حركاتها وما بينها من الاتصالات ليستعينوا بذلك على وضع ما يرونه مناسبا لها من الاعتقادات والطقوس، ولما كانت الأفلاك مستديرة لم يمكنهم معرفة حسابها إلا بالهندسة .
ولذلك قيل : علوم الفلاسفة إما يقينيات صادقة لا منفعة فيها، وإما ظنون كاذبة لا ثقة فيها ؛ فالأولى الرياضيات، والثانية إلهياتهم .” [4]

وسبحان الله فلكل قوم وارث فكما أن اليونان الأوائل كانوا يطوعون الرياضيات في خدمة عباداتهم للكواكب فاليوم يطوع احفادهم من الطبيعانيين الرياضيات خدمة ميتافيزيقاهم الاعتقادية في الفضاء وأبحاثه والكوزمولوجيا لنصرة نظرياتهم في نشاة الكون والحياة وما يجوز وما لا يجوز وجوده من الموجوادت الخارجية! تشابهت قلوبهم.
—-
الهامش:
[1] [ الرد على المنطقيين، 133]
[2] معيار النظر عند اهل السنة والأثر (165/3)
[3] كتاب معيار النظر عند أهل السنة والأثر – المجلد الثالث – د. حسام بن مسعود.
[4] لخصه د. سعود العريفي من كتاب الرد على المنطقيين [مذكور في كتاب النقد التيمي للمنطق ص251، والنص الأصلي في الرد على المنطقيين ص136]
المقالات السابقة في التعليقات
#الغيث_الشامي

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات الهدّامة قديمها وحديثها حفيد الدارمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى