بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالمتابع للساحة الإسلامية الرادة على الإلحاد بكل مذاهبه بآخر عشر سنوات يجد أنها تتطور باستمرار وتحاول أن تضبط منهجها وبحمد الله فإن الراية يحملها أهل السنة أكثر من غيرهم وهم السّواد الأعظم فيها، ولو أننا رأينا بعض “الطحالب” التي نبتت في الساحة من الجهمية العلموية (العصريين) والقدماء مثل عمرو شريف وأحمد خيري العمري ونضال قسوم ومحمد باسل الطائي وسعيد فودة وإلخ..
لكن أيضًا رأينا نماذج مشرّفة من الإخوة بارك الله فيهم مثل الدكتور أبو الفداء ابن مسعود، ود. إياد قنيبي، و الشيخ عبد الله الخليفي، ود. عبد الرحمن ذاكر، ود. هيثم طلعت، ود. هشام عزمي، ود. عبد الرحمن الشهري، ود. أشرف قطب، ود. أحمد ابراهيم وغيرهم ممن لا استطيع حصرهم في مقال واحد حقيقة حفظهم الله وبارك فيهم جميعًا وجمعهم على السنة إلى يوم يبعثون.
وطبعًا لا شك قد نختلف في المنهج مع بعض الأسماء المذكورة ولكن هذا لا يحملنا على إنكار جهودهم الكبيرة التي هي كالشمس في هذا الباب، فأسأل الله أن يسددهم وإيانا ويوفقهم لكل خير وسنة، آمين يارب العالمين.
النقد البناء..
حقيقة بسيطة، نحن لدينا مشكلة نفسية مع النقد!، نعم لا تستغرب، اسأل نفسك بعض الأسئلة مثل:
- هل تتضايق إذا تم انتقاد أو تخطئة شخص تعتبره قدوة ومع ذلك تعتقد أنه غير معصوم ولو كانت هذه التخطئة بدليل معتبر؟
- هل مستعد للتحقق من كلام هذا الناقد إن ظهر وجاهة نقده؟
- هل قدوتك فوق النقد؟
- هل يلزم من كل نقد أن تسقط الشخصية المنقودة وتسقط من كونها قدوة؟
- هل الاقتداء بالبشر معناه التبعية المطلقة العمياء؟
- هل أنت لا تقبل النقد لقدواتك لكي تريح عقلك من التحقق؟!
- ما مفهوم التفكير الناقد والنقد بالنسبة لك؟
إن كنت تجد حساسيّة في التعاطي مع مثل هذه الأمور فحقيقة تحتاج أن تراجع نفسك لأن هذا السلوك هو نوع من المخادعات النفسية وستؤدي بك حتمًا لمغالطات منطقية مثل “تسميم البئر (1)“، و”الاحتكام للسلطة(2)“.
بحمد الله أهل السنة مسطرتهم الأولى هي الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ونعم نحن نعتقد أن الشخص إذا عرف عنه العلم فمظان الصواب عنده لكن هذا لا يعني أن احتمالية خطأه صفر وأن هذا يبرر لنا أن نقدح ونشتم كل من سولت نفسه أن ينتقده ولو كان عنده علم كذلك!، أتذكر يومًا أنني كتبت مقالًا انتقد منهج التفكير النقدي الذي قرره الدكتور أحمد السيد وقد ذكرت أن تفريقه بين ما عرّفه بـ “التفكير النقدي” وبين “التفكير الشكي” هو منهج التأسيسيين الديكارتيين (foundationalism) (3) الذي يتعارض مع قول أهل السنة في الفطرة، وأن مآله إلى التفكير الشكي بالنهاية وإنكار الفطرة أو الإقرار بها مع تفريغها من مضمونها وقوتها الاحتجاجية، فجائني شخص من أتباعه يكتب مقال بعنوان “تدليسات الغيث الشامي” وما زاد والله أن دافع عن الدكتور بكلام من عنده ومن كيسه وهو يناقض كلام الدكتور المذكور في 3 كتب نقلت منها تصريحه الواضح بأن موقف الملحد والمؤمن مبدئيّا في المناظرة متساوي من حيث المطلوب (أي مطالبين باثبات وجهة نظرهم على السّواء سواء بالنفي أو الاثبات في قضية وجود الله سبحانه أي “التكافؤ النظري المبدئي”) (4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
فليس الأمر كذلك لأن هذه المقدمة الضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يعارضها كسائر المعارف الضرورية بل نعلم بالضرورة أن ماعارضها من النظريات فهو باطل على سبيل الجملة وإن لم نذكر حل الشبه على وجه التفصيل كما نعلم فساد سائر النظريات السوفسطائية المعارضة للعلوم الضرورية
وإذا قال القائل لا تثبت هذه المقدمة حتى ينفى المعارض المبطل لها ونفي ذلك لا يكون إلا بثبوتها كان قوله ممنوعا غير مقبول باتفاق العقلاء على نظائر ذلك فإن كل مقدمة ضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يقدح فيها والاستدلال بها لا يتوقف على ذلك بل هم يقولون إن القضايا اليقينية سواء كانت ضرورية أو نظرية لا يتوقف العلم بموجبها على نفي المعارض ولو توقف على ذلك لم يعلم أحد شيئا لأن ما يخطر بالقلوب من الشبهات المعارضة لا نهاية له فكيف يحتاج فى العلوم الضرورية إلى نفي المعارض
ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هده القضية الضرورية قبل أن يعلموا أن فى الوجود من ينكرها ويخالفها وأكثر الفطر السليمة إذا ذكر لهم قول النفاة بادروا إلى تجهيلهم وتكفيرهم ومنهم من لا يصدق أن عاقلا يقول ذلك لظهور هذه القضية عندهم واستقرارها في أنفسهم فينسبون من خالفها إلى الجنون حتى يروا ذلك في كتبهم أو يسمعوه من أحدهم، انتهى كلامه النفيس (5)
وقال في موضع آخر من كتبه:
وكيف تكون النتيجة المثبتة بمثل هذه المقدمات دافعة لتلك القضايا الضروريات.
وهذا الذي قد نبه عليه في هذا المقام: كلما أمعن الناظر فيه وفيما تكلم أهل النفي فيه: ازداد بصيرة ومعرفة بما فيه فإنه لا يتصور أن يبني النفي على مقدمات ضرورية تساوى في جزم العقل بها مقدمات أهل الإثبات الجازمة لفساد نتيجتهم وهو قولهم: إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه جزما لا يساويه فيه جزم العقل بالمقدمات التي تبنى عليها هذه النتيجة الثابتة امتنع أن يزول ذلك الجزم العقلي الضروري بنتيجة ليست مثله في الجزم.
وهذا الكلام قبل النظر في تلك المقدمات المعارضة لهذا الجزم: هل هي صحيحة أو فاسدة وإنما المقصود هنا أنه لا يصح للمناظرة ولا يقبل في المناظرة أن يعارض هذا الجزم المستقر في الفطرة بما يزعمه من الأدلة النظرية وهذا المقام كاف في دفعه وإن لم تحل شبهاته كما يكفي في دفع السوفسطائي أن يقال: إنما تنفيه قضايا ضرورية فلا يقبل نفيها بما يذكر من الشبهة النظرية. (6)
قال تلميذه شيخ الإسلام ابن القيم الجوزية رحمه الله:
كل إذا ما نابه أمر يرى … متوجها بضرورة الإنسان
نحو العلو فليس يطلب خلفه … وأمامه أو جانب الإنسان
ونهاية الشبهات تشكيك وتخميش … وتغبير على الإيمان
لا يستطيع تعارض المعلوم والـ … معقول عند بدائه الإنسان
فمن المحال القدح في المعلوم … بالشبهات هذا بين البطلان
وإذا البدائه قابلتها هذه … الشبهات لم تحتج إلى بطلان
شتان بين مقالة أوصى بها … بعض لبعض أول للثاني
ومقالة فطر الإله عباده … حقا عليها ما هما عدلان (7)
فاستغربت ما الذي دفع هذا الطالب لهذا الهجوم غير المبرر؟!، حتى أنه ذكر في مقاله أنه لم يتكلف حتى أن ينهي قراءة مقالي للآخر، الواضح أن هناك دافع نفسي دفعه أن يكتب مقال كامل ينقد مقالة شخص لم يقرأها كاملة حتى، فقط ليتهمه بأنه يجتزء كلام شخص آخر! يعني ينقد الاجتزاء بالاجتزاء! وهذا والله ما يثير العجب، لذلك أحب أن أنبه أن نقدنا هو لتحسين الساحة ولضبطها على مسطرة منهج أهل السنة والجماعة وليس للإسقاط أو لابطال الوثوقية بأحد وبحقيقة الأمر لي صوتية قد حللت بها هذه الظاهرة بعنوان “نقد أم إسقاط – نقد منهجية خاطئة في التعامل مع النقد العلمي”.
لندخل إلى صلب الموضوع:
كيف تم زرع بذور الوسواس القهري في عقول طلّاب العلم؟
تعلمت أثناء دراستي لاضطراب الوسواس القهري OCD أن الفكرة الوسواسية تتميز بعدة سمات عن الفكرة الطبيعية وتتلخص في هذه النقاط:
- تكون معاكسة للفعل الحالي بالذات إن كان مهم (أي أنك إذا جئت تصلي مثلًا تحاول ان تعاكس سلوكك وتلهيك عنه حتى تتوقف عنه)
- تؤلم الشخص من خلال الهجوم على “الأنا العليا high ego” أو ذلك الجانب الأعلى في النفس الذي يحتوي على الضرورات والأخلاقيات العليا والضمير والأشخاص الذي يعتبرهم الإنسان خطوط حمراء، فهو يلعب على الهجوم على هذا الجانب ونزع قدسيته والطعن فيه والتنقير لإسقاطه من باب تدمير الشخص المصاب بالمرض وكأنه يأكل نفسه بنفسه.
- أن الوسواس يشترط عليك سلوكيّات معينة حتى تخف وطئة النوبة الوسواسية وأعراضها مثل القلق والتوتر ونتف الشعر في بعض الأحيان أو قضم الأظافر وصعوبة التركيز وضعف الذاكرة والاستحواذ على جريان التفكير وموضوعاته.
- أن الفكرة الوسواسية متسلطة مستحوذة إنشطارية لا تركز على الإجابة بل تتقافز من سؤال لسؤال.
- أن الفكرة الوسواسية ليست كيان عاقل يفهم الأدلة المضادة إنما هي مجرد خلل كيميائي لا يدرك أهمية وبدهية ما يتم التشكيك به إنما فقط تضغط على الشخص بإشعاره بشعور الشك النفسي لإسقاط الاطمنان المعرفي المجرد وتشكيك الشخص في نفسه وعقله.
- أن الفكرة الوسواسية تغش وتجعلك تنسى الحالة الطبيعية وتنسى أجوبتك الاعتيادية وتفقدك شعور الثقة في إجاباتك السابقة ثم تعيده لك حصرًا بعد إعادة السلوك الدفاعي مثل (مجادلتها).
وتعلمنا كذلك أن سلوكك مع الوسواس هو ما يحدد هل أنت شخص موسوس حقّا أم أن ورود هذه الأفكار على رأسك هو أمر عابر لا يجعلك يصح أن تسمى “مصاب بإضطراب الوسواس القهري”، وحقيقة فالسلوك في الإنسان ليس مجردًا عن الفكرة والشعور، والشعور لا يكون إلا شعورًا مفهومًا للإنسان مثلًا، أنا أشعر بالجوع، هذا مفهوم، أنا أشعر بالشك، هذا واضح، لا أتكلم عن صحة تبرير الشعور فالأصل في هذه المشاعر الصدق إلا إذا جائت قرائن تخرجها عن الأصل إلى ما يجعل العقل يفهمها على غير ما تفهم عليه عادة، فمثلًا الألم الذي تشعر به عندما يعالجك الطبيب هذا لا يفهم منه أنك في خطر كما قد تفهم عندما تضرب قدمك بحافة الباب!، وكذلك الشك، قد تكون تشعر بالشك ببساطة لأنك تشك وقد تكون تشعر به فقط لأنك مصاب بالوسواس القهري مع أنك تدري تمامًا أن العقل يجزم ببدهية هذه الفكرة وأنه من الخطأ المعرفي الشك بها لأنها ليست من القضايا القابلة للشك وورود المعارض وأن الشك بها هو ليس عمل عقلي صحيح إنما مجرد انحياز نفسي لأهواء خالية من الأسباب المعرفية المعتبرة والمسوّغة، كالشك في قاعدة السببية أو 1+1=2 أو وجود الله سبحانه.
وهنا الموسوس حقيقة يعطي هذا الشعور مجده، وهذا قد يكون مدفوع بحالة نفسية متزامنة معه وقد تكون هي من تسببه أصلًا مثل الضغوطات النفسية التي يمر بها الإنسان مما قد يجعله هش نفسيّا ويهرب للواقع من خلال إعطاء القيمة لأشياء تافهة ومضطرب لا يستطيع التفريق بين الأولويات في الأفكار فلا يميز بين الأفكار التي يجب أن يهملها وبين الأفكار التي فعلا تستحق أن ينفصل عن الواقع للتفكير بها.
أو قد يكون له سبب آيديولوجي فكري او ما يسمى بمعتقد باطن (core beliefs) اكتسبه بخبرة سابقة، أي أن الشخص لديه نظام فكري خاطئ أو خلفية خاطئة عن الموضوع مما يجعله عرضة أكثر للتعامل مع الفكرة الوسواسية بما يغذيها ويجعلها تفرخ وتبيض وتترسخ في عقله، أي مما يجعل الدماغ فعلًا يصدق أن إنذار الخطر الذي تحدثه الفكرة الوسواسية هو إنذار صحيح ويبدأ يجهز لها التعقيدات العصبية الخاصة بها ويكيف نفسه لطلب المساعدة من الشخص في حال ورودها إذ هو تعرف عليها على أن وجودها خطر، والحل الذي ينجح معها أول مرة هو ما سيتمر اعتماده لاحقًا في دفع الشعور السيء المرافق لها ألا وهو في هذه الحالة “الوسواس الفكري” (الجدل) والاستدلال مثلًا ثم الحصول على الراحة بعد جوابها، وهكذا كل مرة تخطر على بالك الفكرة سيطالبك العقل بالعلاج الجاهز وهو الجدل وإعادة النظر بلا وعي ولن يستوعب أنك قد فعلت ذلك مرارًا وتكرارًا بل قد يجعلك تنسى أنك فعلته أو أنه مازال يعطي جدوى بالذات أن المشكلة عادت من جديد مما سيحفزك لإعادة السلوك كسلوك مفرغ عن المعنى المعقول له ألا وهو مجرد ايراد الجواب وانتهى بل صار سلوك علاجي آلي مفرغ عن معناه الطبيعي.
ومن الأنظمة الفكرية التي تدعم هذا الإضطراب حقيقة هي السفسطة!، نعم، نسبية المعرفة مثلًا، والشك النظري الجدلي، أو ما يسمى بـ “نظرية المعرفة الجدلية” التي تجعل معتنقها يعتقد أن كل الأفكار يرد عليها معارض معتبر وتحتاج أن يسبق التصديق بها دليل منفصل عنها وأنه لا فرق بين بديهة صحيحة بنفسها وبين معرفة ثانوية أو نظرية ولا فرق بين المعرفة الاستنباطية الضرورية الأولية وبين المعرفة الاستقرائية الثانوية، ولا فرق بين اليقين الجازم المنتهي والظن الراجح والتوقف في المسألة مع العلم بعدم ضرر الجهل بها وما له قرائن على وجوده وما له قرائن على عدمه وما إلى ذلك.
ما علاقة هذا بموضوعنا؟
بالطبع له علاقة وثيقة، نحن هنا يا أحباء يجب أن يكون لنا نظرة تحليلية عميقة، ننظر للأمور بشمولية ونربط كل العوامل ببعضها، هذا ما يجب أن يفعله الباحث المهتم بتطوير الساحة الفكرية الإسلامية وهذه هي مبادئ التفكير النقدي الحقيقي: الاحتكام إلى مسطرة من المعايير والمعارف المرجعية للتحقق من صحة المدخلات والمخرجات الفكرية على حدّ سواء.
بعض الرادين على الملاحدة اليوم يلقنّون طلابهم حرفيّا الوسواس القهري معرفيّا وسلوكيّا دون أن يشعروا!، كيف ذلك؟
عندما يقولون لك أن كل المعارف بإطلاق يجب أن يسبقها دليل يصححها حتى تقبل هكذا بإطلاق بلا تفصيل، كما قال أحمد السيد مثلًا في كتاب سابغات ص53: “يجب ألا يكون لأي معلومةٍ قيمةٌ تستحق النظر والنقاش، ما لم تكن تتوفر على أدنى درجات التوثيق العلمي وأما إن كانت مُرسلةَ لا زمام لها ولا خطام فالموقف الصحيح تجاهها هو الردّ وكذلك ربما تكون المعلومة صحيحة، ولكن الاستدلال بها على المطلوب غير صحيح؛ فيجب أن يدقق الناقد في الكلام ويتفحصه ولا يضطرب لمجرد إيراد معلومة لا تصمد أمام النقد العلمي”
“وفي كتاب التفكير الناقد للجيل الصاعد ص18: وإن قال: “الله غير موجود” فيمكننا أن نقول له أيضاً: “الله موجود” وهكذا لا يصبح أي من القولين أدعى للقبول من الآخر، إذاً.. السؤال الأول الذي يجب أن نطرحه عند مناقشة أي فكرة هو: أين الدليل على ما تقول؟ هات دليلك كي أناقشك.”
ويعلمك أن تتعلم الفروع وجواب الشبهات التفصيلية على شرط الملحد قبل تلقي العقيدة بالتدريج وبشكل رأسي مرتب ممنهج يعطي كل مسألة أهميتها وحقّها، وأن تناظر كل ملحد يأتيك بأي هراء فكري معاملًا إياه على أنه باحث عن الحق له استشكال وجيه يحتاج الجواب، بل أن تكون وظيفتك “محاور” أو “مجادل” وأنت مازلت لم تحرر عقيدتك بتفصيل جيد حتى تتصدر للمناظرة عند الحاجة لها، وأن تبحث عن إجابة لأي سؤال يخطر على بالك دون ترتيب الأولويات باعتباره “شبهة”، وأن الحق قابل أن يرد عليه شبهات معتبرة لذلك وجب أن تتعلم أدلة وجود الله مثلًا، وأن الفطرة تتغير والشعور الضروري بضرورية وفطرية المعتقد لا يعول عليه ولا يوثق به بل تحتاج أن تبني لنفسك أساس “يقيني عقلاني” حتى تحمي نفسك من الإلحاد وأن هناك فرق بين المؤمن بوجود الله “بأدلة عقلية” أي ما يسميه النصارى “reasonable faith” مقابل المؤمن العادي العامي وهو ما يسمونه “Leap of faith”، وأنك عليك أن تتعلم الردود على كافة الاعتراضات الموجودة على وجه الأرض على هذه الأدلة حتى تتيقن من أن دينك سالم من المعارض وتنتصر بهذه المناظرات التي تدخل لها بلا زمام ولا خطام، بل يكون دينك نفسه خاضعًا للتجريب بالمناظرات باستمرار، حتى صارت المناظرات هي معيار الحق فيقال طالما أنك قوي هكذا ولك أدلة ليش ما تناظر الفئة الفلانية؟!، وكأن صحة الأدلة في نفسها لا تعرف إلا في المناظرات المباشرة!.
وكذلك مسألة الحالة الغالية في الإعذار التي تذكرني بمذهب نسبية المعرفة وتكافؤ الادلة كما قالت لي مرة إعلامية كانت تناقشني “أنني أعذر من يقول لي أن هذه الطاولة غير موجودة وهذه السماء خضراء ولا استطيع أن أزعم أنه مخطئ أو مكابر) وأن أي حق بإطلاق قد يخفى عليك وعلى غيرك وأنك قد تظن أن شيء ما حق بالضرورة وهو ليس كذلك في نفس الأمر “نسبية الضرورات”، وهو نفسه نسبية المعرفة.
بالحقيقة أنت هكذا فتحت الباب على مصراعيه أمام الأفكار الوسواسية، لأن الأفكار الوسواسية ستأتيك لتطرد هذه الأصول وتلزمك بلوازمها، فالذي يشكك بالشعور الضروري وكفايته في مسألة وجود الله سيشك بكفاية الشعور الضروري بصحة عدم التناقض والسببية على حد سواء، ومن يرى أي ترهات يقولها الملحد “شبهات” معتبرة تحتاج تعلم الرد فهذا سيرى في أي فكرة وسواسية مادة للنقاش وهذا يناقض أساسًا ما نقوله لمريض الوسواس أن يهمل الفكرة الوسواسية ويعطيها حجمها الحقيقي بأن لديه علم ضروري يخالفها ولا تستحق ان تناقش أصلًا للقاعدة البديهية بأن العلم الضروري لا يرد عليه معارض معتبر ولو ورد عليه فهو من جنس السفسطة واضحة البطلان من اول العقل ولا تحتاج إعادة نظر وقياس لاستخراج وجه البطلان التفصيلي على شرط معين كشرط التناقض مثلًا أو غيره لتساوي بطلان التناقض وبطلانها في أول العقل من حيث الشعور الضروري بالبطلان.
فبالحقيقة أنتم تعلمونهم الوسواس القهري معرفيّا وسلوكيّا وتعطونهم مبررات لذلك كمسألة زوال الفطرة أو ما يجب أن تسمّوه “تحريف الفطرة وليس الانحراف عن الفطرة وانتكاسها بالغفلة عنها وترك العمل بمقتضاها” كما قال تعالى عن قوم فرعون: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾.
ومسألة الفطرة الوهمية (أي حالة الفطرة بعد الخراب وهو أن صاحبها يجد ضرورة فاسدة في نفسه كأن يرى أن الزنا أو الشرك هو الصواب، وحقيقة المشرك قد يصل لما هو قريب من ذلك فيزين له عقله وشيطانه الشرك إلى أبعد مدى لكن مع ذلك إن عاد لعقله الضروري وتجرد عن الأهواء فلن يحكم العقل إلا بالضرورة الصحيحة طالما أنه سليم وهي أن الله واحد ولهذا خاطب الرسل جميع المشركين بهذا وإلا لكانوا مجانين لا يمكن إقامة الحجة عليهم أبدًا إذ العقل الذي يحكم بحكم ضروري خاطئ في مسألة فهذا لا يجب أن يثق به صاحبه أصلًا إذ مدار معرفة الحق هو أساسًا الثقة بالنتائج التي يحكم العقل بضرورتها فالعقل الذي ينتج ضرورات فاسدة هذا مجنون أساسًا لا يسمى صاحبه عاقلًأ وبما أننا نعلم فطرة وجبلة أن العاقل لا يمكن إلا أن يصل لنفس الضرورات فإذا من نرى سلامه عقله من الجنون ومع ذلك نراه ينكر الضرورات فنعلم فورًا أنه مكابر جاحد) ومع ذلك فهذه الفرقة عندهم الكافر هو نتيجة لشبهات وظروف اجتماعية أدت لالتباس الحق بالباطل عنده وفعلًا هو مهما عاد لنفسه وراجعها فلن يصل لشيء ويحتاج علاج خارجي بالجدل والاجوبة المنطقية على شرطه فإن كان لا يقبل إلا بالأدلة المعقدة والمقدمات الطويلة قدمناها له وإن كان لا يقبل إلا بالنظريات العلمية قدمناها له وإن كان متأثرًا بالقيم الغربية أريناه أن الإسلام يتوافق معها وإن كان يرى الشدة في بعض أحكام المرأة أو التكفير أنكرناها ورمينا القائل بها بتشويه الدين وأنه يتسبب بإلحاد الناس!، فيمكننا تسمية هذا المذهب بمذهب تحريف الفطرة (بما يرفع الثقة عن الاحتجاج بها تمامًا كأي مصدري معرفي محرّف) وهذا ليس هو نفسه “تغيّر الفطرة” كما يعتقد أهل السنة، ثم يحاول المتلبس في هذا المنهج تعويض ذلك بالاستدلال العقلي على طريقة المتكلمين في إيجاب النظر ونفي الفطرة بالحال أو المقال للتحقق من الحفاظ على سلامة الفطرة بقياسها على مسطرة النظر العقلي حتى يسلم مما يسمى بـ” الضرورة الوهمية “، بل أنتم على منهجكم الفطرة تزول حتى لا يمكن الاحتجاج بها أصلًا ويصبح وجودها كعدمها، وأنها من أوهى انواع المعارف عندكم وأنها ليست من العقل في شيء! إذ فرق كاملة عندكم تريد الحق من جهة العقل الضروري وجهة الرسول وعلمائها متوقدي الذكاء ومع ذلك لم يصلوا لشيء في مسألة ظاهرة كمسألة العلو والحكمة والأفعال الاختيارية ومع ذلك كلهم يعذروا على نفس القدر من العذر ويعظموا بنفس القدر من التعظيم وينزهوا عن المكابرة وتقديم مذاهبهم الفلسفية على العقل والنقل جميعًا والحط عليهم بالقول بمسألة أن ظواهر القرأن كفر والفطرة الوهمية ومسألة التخييل وإقرار الرسول للصحابة على باطل!، مع أن الله عز وجل الذي أخبرنا أنه أشهدنا على وجوده وكماله واستحقاقه للعبادة وانها فطرة هو نفسه الذي قال لنا “أفي الله شك فاطر السماوات والأرض” وما لا شك فيه فهو يقيني ضروري لا يحتمل المعارض عليه بأي نسبة احتمالية والجزم به منتهي وهذا قرار عقلاني ولا شك وهو فطري كما يقرره القرآن وأن كل الظواهر الكونية والنفسية تشهد لهذه الحقيقة المغروسة في النفوس منذ ميثاق الذر الذي علق الله عليه الاقرار بالرسالة وأن لا يأتي جاحد النبوة يوم القيامة يقول أنه لم يقر بها لأنه غفل عن هذه الشهادة التي يبنى عليها الإيمان بالرسل وتصديقهم، بل من المعلوم أن تصديق الرسل وتعيينهم ومعرفتهم مبني على مسألة التحسين والتقبيح ومسألة معرفة صفة الرب المستحق للعبادة الذي لا يعبد إلا هو ويعرف الرب بعلوّه وخالقيته وعلمه وتدبيره للعالم قبل أي صفة أخرى، فمعلوم أنك لا يمكنك أن تعرف موجود دون أن تعرف أي صفة آخرى، إذ لا موجود بلا صفات!، فالفطرة لا تخبرنا فقط أن الله موجود بل تعينه بصفات أساسية وثم إن جائنا الرسول يخبرنا بعبادته علمنا مبدئّيا أن هذا الرسول يدعو لمسألة حق في نفسها.
وحقيقة مسألة الفطرة تتعلق بمسألة في علم النفس المعرفي وهي مسألة السوية “normalcy“، أي كيف يعرف الشخص أنه سليم العقل والنفس بل وينطلق من هذا للوصول لأفكار سليمة بناء على هذه المعايير الفطرية السليمة الطبيعية من أصل خلقته، فالمنهج الذي يبني الأسس العقلية الفطرية واليقين بها على أساس النظر أساسًا والتحقق النظري أو لنسميه “المابعدي” (أي التحقق من البديهيات على ما يفترض أن يبنى عليها بعد الاقرار بها) هذا يقع بالدور لأن النظر نفسه مبني على البديهيات الفطرية!، ولأن معرفة صحة هذه العملية النظرية نفسه يحتاج معايير سابقة فمن لا يقول بفطريتها هذا سيقع بالدور والتسلسل!، وأنتم تزعمون تعذر معرفة السوية بالنسبة للشخص وهي الإيمان بالله كمسألة فطرية وسوية خلقية إنسانية دون إعادة النظر والتمكن من الرد على شبهات الملاحدة الشهيرة وأن الملحد فعلًا قد تخفى عليه المسألة وأن المسلم يجب أن يحترمه ويحترم شبهاته ويجاوبها على شرطه (علميّا وفلسفيّا) دون اتهامه من حيث الأصل بأنه مكابر جاحد.
يكفي هذا القدر وبإذن الله سأكمل في الجزء الثاني من المقال في حديثي عن المنهج الفاسد في الرد على الإلحاد والتعامل مع شبهاته مما يعزز لظهور الوسواس القهري عند طلاب العلم.
الهامش والإحالات:
(1) وأقصد بها أنه في هذه الحالة يرفض السماع من أي ناقد للشخصية ويحرم نفسه من الاستفادة منه لأسباب نفسية “هوى” محض.
(2) يحتكم لشخص القدوة وليس لمعايير الصواب والخطأ الشرعية والعقلية.
(3) الذين حاولوا وضع قيود نظرية على الضرورات وحصرها ببعض المعارف الضرورية مع جحد كثير منها كالتجربة الشهيرة التي قام بها ديكارت وعرفت يتجربة “الكوجيتو” الذي جرب الشك بكل الضرورات حتى وصل بزعمه لضرورة واحدة لا يستطيع الشك بها وهي أنه يشك وبدأ يستنبط منها الضرورات مع أنها لا تختلف من حيث الضرورة عن سائر الضرورات مثل الضرورة الأولى التي استنبطها وأسسها على حقيقة أنه يشك وهي أنه موجود!، فمن وصل لهذه المرحلة فكبّر عليه أربع ونفض يدك منه فهذا لا علاقة له بالعقل أبدًا فضلًا عن أن يعد “مؤسس المنهج العقلاني”!، مع أنه زعم أنه هكذا يحارب السفسطة ويريد تأسيس نظرية معرفة سالمة من اعتراضات اللا أدرية السوفسطائيين ولكنه كما ترى بلع طعمهم في تحويله كل المعارف لمعارف نظرية قابلة للشك ثم يجعل الشك نفسه هو الحقيقة المطلقة! فبالله ما الفارق بينه وبين السوفسطائيين؟!، فتأمل.
(4) رابط المقال المقصود الذي نقدت فيه تفصيل أحمد السيد في مسألة التفكير النقدي (إضغط هنا)
(5) درء تعارض العقل والنقل ط-أخرى (6/ 343)
(6) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ط-أخرى (2/ 10)
(7) [ابن القيم ,نونية ابن القيم = الكافية الشافية ,صفحة 74]
للاستزادة في الباب تابع:
“الرد على من زعم أن أصل الفطرة يزول بالكلية من النفوس، وبيان المعنى الصحيح لتغيرها (اضغط هنا)”
الرد على صورة شهيرة من صور نسبية المعرفة
نقاش الحجة والدليل عند المتكلمين واللاهوتيين وعلاقته بالرد على الإلحاد
مقدمة في دليل الغريزة (الفطرة)
السفسطة المحترمة 2 – تفصيل مهم
في ما يخص علاقة الفطرة بعلم النفس والسوية النفسية