إثبات التحسين والتقبيح على مراتب:
أحدها: اتصاف الأفعال بصفات لأجلها كانت حَسَنة أو قبيحة سيئة.
والثاني: أن تلك الصفات هل تُدْرك بالعقل أم لا؟
الثالث: هل هناك تلازم بين ما يدركه العقل وما يأتي به الشرع؟
والرابع: هل يترتب الثواب والعقاب بدون الشرع أم لا؟
فأما الأول: فأهل السنة يثبتون أن الأفعال اشتملت على صفاتٍ لأجلها كانت حسنةً وسيئةً (ولا مشاحاة في الاصطلاح، فإن قولنا حسنة وقبيحة، كقول قائل كمال ونقص، أو خير وشر، أو حسناء وفحشاء، ونحو ذلك)، تقتضي مدحا أو ذما لفاعلها، فكل من أتى حسنا عالما بحسنه مريدا له فهو مستحق للمدح، وكل من أتى قبيحا عالما بقبحه غنيا عنه مريدا له فهو مستحق للذم. وهذا وإن كنا لا نقول أن كل الأفعال تتصف بحسن وقبح، ولكنا نقطع بأن بعضها يشتمل على صفات موضوعية يعود إليها حكمنا على الفعل حسنا أو قبحا، وإلا كان أمر النزاع بأحد المتماثلين ترجيحًا بلا مرجِّح، ومن قال: إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح، فهو بمنزلة قوله: ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين والتبريد والإشباع والإرواء، فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار، كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار. ولم يقل أحدٌ: إن الحُسْن والقُبح هو وصف لازم لذات الفعل، بل نقول: تختلف صفات الفعل باختلاف أحواله وأنواعه، فقد يقوم به المقتضي لحسنه أو قبحه، ولكن يختلف عنه مقتضاه لفوات شرط أو وجود مانع.
وأما الثاني: فيجوز أن تُدرَك تلك الصفات بمجرد العقل، وإن كنا لا نقول أن العقل يدركها كلها، بل حتى المعتزلة لا يقولون ذلك. فحسن وقبح الأفعال من مدركات العقول لا من مجعولاته وإنشائه، فوجود تلك الصفات مستقل عن إدراكنا له. وما تبلغ العقول إدراكه من حسن وقبح الأفعال قد يكون هذا الإدراك ضروريا، وقد يكون نظريا، فكل ما أمرت به الشريعة حسن، وكل ما نهت عنه قبيح، وإن حكم العقل بخلاف ما جائت به لم يكن ذلك من أحكام العقول بل من أوهامها.
وأما الثالث: فنقول: ما يعرف ببداهة العقول وضرورياتها كالتوحيد وشكر المنعم وقبح الظلم لا يجوز أن يرد الشرع بخلافه. وما يعرف بتوليد العقل استنباطا أو استدلالا، فلا يمتنع أن يرد بخلافه. فما ثبت بالعقل ينقسم قسمين: فما كان منه واجبا لعينه كشكر المنعم والإنصاف وقبح الظلم فلا يصح أن يرد الشرع بخلاف ذلك. وما كان واجبا لعلة أو دليل، مثل: الأعيان المنتفع بها التي فيها الخلاف. فيصح أن يرتفع الدليل والعلة، فيرتفع ذلك الحكم. وهذا غير ممتنع.
وأما رابع: فلا يثبت أهل السنة الثواب والعقاب قبل الشرع، وإن كنا نثبت استحقاقه، فكل من عاقبه الله فهو مستحق للذم، وليس كل استحق الذم عاقبه الله، فلا عقاب أو ثواب إلا بعد قيام الحجة الرسالية، فالمدح والذم منفكان عن الثواب والعقاب، ولا يلزم من إثبات الأولين إثبات الآخرين، وفرق بين استحقاق العقاب والحكم بوقوعه.