فلسفة العلوم

العبارة الرياضية بين الفهم الافلاطوني الخرافي والمعنى الحقيقي لها

سلسلة منهجية العلم التجريبي #فلسفة_العلوم – الجزء الثاني

العبارة الرياضية بين الفهم الافلاطوني الخرافي والمعنى الحقيقي لها

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيببين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: 

فهذا المقال هو مقدمة بسيطة في فلسفية الرياضيات وعلاقتها مع فلسفة العلوم وقد خطر على بالي أن أكتب فيه لأن عند بعض الناس فهم أفلاطوني غريب لمفهوم القانون الرياضي وعلاقته بالقانون الطبيعي، (حيث كان أفلاطون يثبت حقيقة وجودية للأرقام والجمع والعلاقات الرياضية خارج الذهن في عالم يسمى عالم المُثُل، فعلى كلامه كأنك لو قدر لك الذهاب لهذا العالم لاستطعت ان تلمس الرقم واحد أو تراه عيانًا!، فهو عنده عالم المعقولات قائم بنفسه كما يقوم عالم المحسوسات بنفسه أي خارج الذهن (العقل)، وهذه كما ترى سخافة منقطعة النظير حيث أنه يخلط بين المعاني الذهنية الكلية وبين الأشياء الموجودة خارج الذهن (في الواقع) وهذه مغالطة منطقية شهيرة تسمى “مغالطة التشييء أو التجسيم projection fallacy (1)”

وهذا ما تراه اليوم عند كثير من الناس حيث يظن الواحد منهم أنه (اكتشف) المعادلة التي يعمل بها القانون الطبيعي الفلاني، ويتناسى أنما المعادلة الرياضية ليست هي المشاهدة نفسها ولا هي طبيعة المتغيرات التي يحاول وصفها وأن ما تحتويه المعادلة من جمع وطرح وقسمة بين الأرقام هو فقط تصورات ذهنية تمثيلية تشبيهية لما يراه عيانًا في الواقع من النظام السببي المشاهد!، فالعبارة الرياضية حقيقتها أنها صياغة لغوية تبسيطية وتجريدية للمقادير المشاهدة من الكميات المنفصلة والمتصلة (2)، وتشبيه العلاقات (التفاعلات) بين هذه المقادير على المعاني الرياضية التي قد تعبر عنها لإعطاء نتيجة صحيحة مفهومة تصف هذه المشاهدة وصفًا صحيحًا مطابقًا للواقع رمزيًّا (أي الأرقام تعبر عن قياسك بالوحدات القياسية للكميات المشاهدة حسيًّا، يعني من الآخر هي جملة لغوية وضعية وضعها الفيزيائي لوصف القدر الذي يراه، قد تصح وقد تخطئ سواء في حالات معينة توافرت فيها موانع لانطباق وصف المعادلة الرمزي على الحالة المراد دراستها، أو حتى خطأ الحمولة التفسيرية التي يفترضها الباحث كافتراض تفسيري explanatory hypothesis (3) للربط بين المتغيرات التي وصفها في معادلته والفيصل هنا هو العادة والاستقراء والتجربة، فهو هكذا اكتشف العلاقة القانونية المطردة النظامية بين المتغيرات الفيزيائية حسيًّا وليس انه اكتشف المعادلة نفسها! بل وضعها وضعًا ليعبر فيها عن ما يشاهد حتى “يستطيع” (هو) أن يتنبئ أنه لو تحققت نفس المتغيرات في المقدار التي حصلت له فيه هذه العادة أنه سيعطي نفس النتائج بموجب طبيعة هذه المتغيرات التي في حسّه المعتاد فلا يجاوز هذا القدر بالتنظير والقياس ولا يحصر المعاني الكلية المطلقة (كمعنى الحركة والقوة والكتلة وغيره) في تلك المشاهدات الجزئية المشاهدة، بل يبقى منضبطًا تحت فهم أنها جزئيات وهي نوعية من انواع الحركة مثلا او القوة او كذا داخلة تحت هذا المعنى الكلي الذي يعبر عنها خلقها الله في هذا العالم

فلا يقال كل حركة لا بد ان تكون بكذا وكذا حتى يوصل بهذا القياس على ما في عادته من موجودات ومشاهدات الى رب العالمين وصفاته سبحانه!

ولكن كما يخبرنا التاريخ والواقع أن بعض العاملين في مجال التنظير الفيزيائي، فهذا هو كل ما يسعى له! تصور كوني شامل على شرط الوجود في مكان ما وزمان ما، ينطلق من مسلمة تحكمية لا دليل عليها مفادها أن أن كل ما يوجد في أي زمان أو مكان لا بد أنه يشابه ما نراه من طبائع الأشياء حولنا، فيما حقيقته أنه ينطلق من المعتقد الدهري الإلحادي لاثباته بالنهاية وهذا دور منطقي واضح كما ترى، أي انه يريد ان يضع قانون يصف طبيعة كل موجود من حيث هو موجود سواء غاب عن حسه تغييبا مطلقا أو كان مشهودًا له! فلا يلتزم لا بوجود عادة ولا بحدودها ولا بغيره وهذا كما هو واضح محض خرافة يرفضه العاقل والحمد لله أولًا وآخرًا.

وسنتحدث إن شاء الله في المقال القادم عن “هل يمكننا أن نقبل عبارة رياضية قانونية من نظرية معينة دون قبول جميع ما تقرره النظرية؟” وما المنطق الذي يبنى عليه وضع العبارات الرياضية أساسًا للوصف التنبؤي بالنظاميات السببية المعتادة في خبرة وتجربة الباحث.

——

(1) وهذه المغالطة مشتهرة بين أوساط الكتاب المسلمين باسم (خلط مافي الأذهان بما في الأعيان، ومغالطة التجسيم هي معاملة التصورات العقلية أو الذهنية على أنها أشياء ذات وجود حقيقي بنفسها خارج العقل، كأن يعامل رقم واحد على أنه شيء حقيقي غير المعدود نفسه، بل أن هناك شيء حقيقي اسمه رقم واحد، أو يعامل مفهوم “الزمان” على أنه شيء قائم بنفسه خارج الذهن وليس مجرد علاقات ذهنية تصف ترتيب الحوادث من حيث وقوعها بمجموعة من المفاهيم “قبل” و”بعد” و”أثناء” وحاضر وماضي ومستقبل والآن وغدًا وما إلى ذلك من تلك المعاني الذهنية.

(2) • واقصد بالكميات المتصلة هي كقياس طول شيء واحد بوحدة قياسية معتمدة فهذا المقدار أو كم (مقدار الطول) يعد متصلًا ومع ذلك فنحن قادرين أن نعبر عنه قياسًا على وحدة من وحدات حساب الأطوال والمسافات

• أما الكميات المنفصلة فهو كعد الكرات أو غيره (أي الأجسام والأشياء المنفصلة) القابلة للعد.

(3) راجع المقال السابق حول مفهوم التعقل التفسيري (الاستدلال التفسيري “التخميني”، تجد رابطه في التعليقات

كتبه: الغيث الشامي (غيث وليد)

#سراج

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات الهدّامة قديمها وحديثها حفيد الدارمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى