«الحب الغرامي بطبيعته يستدعي (التأله)؛ فمن بين جميع المحبات هو -في ذروته – أكثرها تألها؛ ومن ثم أكثرها عرضة للمطالبة بعبادته، وهو من تلقاء ذاته يميل لأن يحول (حالة الوقوع في الحب) إلى نوع من الديانة»
– كليف ستيبلز لويس ت١٩٦٣م
«أكثر التحفظين في العهد الفيكتوري، كان الحب يقوم ببعض وظائف الإله الذي فقدوه، شيء أحسوا تجاهه في أعماق وجودهم، بولاء غير محدود. فبالنسبة لهم كان الحب كالإله، يطلب كل التضحيات ويشكل معنى لمظاهر الحياة التي لم يتم فهمها بعد”.»
– برتراند راسل
«”وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه”»
– شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
في الإنسان غريزة تعليل أفعاله، فهو بوصفه كائنًا فعّالًا فإنه يستحيل أن يرجح فعل على فعل بلا علة، وهو ذو اختيار في تحديد هذه العلل الغائية، وهذه العلل الغائية لابد أن تنتهي إلى مراد لذاته، في حقيقة الأمر يدرك المؤمن بالله سبحانه أنه مهما بحث عن شيء مراد لذاته يغنيه عن كل ما سواه، وهو مصدر كل الكمالات المطلوبة لهذا الباحث فلن يكون ذلك لأحد إلا الله، وأن كل الأسباب التي هي دونه راجعة لمشيئته سبحانه.
وجزء من هذه الغريزة الفطرية هي طلب التأله، بوصفه أنه ما يمكن أن يحدد نمطًا معينًا منطقيا من الأفعال بعيدًا عن العبث غير المرضي وعديم المعنى يجد المرء فيها تحقق مطلوبه من هذا المعبود فيندفع عنه المرهوب ويحصل له المرغوب، فالإنسان يلتذ بتعليل أفعاله بمعنى، وبما يعتقب فعله من غايات مرادة محمودة له ملائمة لطبعه عاجلة أم آجلة.
وهذا المعنى تجده في الحب بشكل عام، لكن على تفاوت في النقص والكمال فحب الله سبحانه الذي يقتضي الامتثال لأوامره أكمل من حب المخلوق الناقص الذي لا يمكن الاعتماد المطلق عليه.
وبعد أن قدمنا بهذه المقدمات، يمكن أن نقول إن هذا يعطينا تصور عن علة التفاف الإنسان المعاصر المتعلمن حول الحب الرومنسي، حيث أنه يجد بديلًا ولو كان بديلًا ناقصًا قلقًا عن التأله لله، فهو يلتذ بفعل ما يطلبه منه محبوبه وبترك ما لا يحب، وهو يصنع صنم العجوة ويأكله إذا جاع، فهو الذي يحدد من يحب، ويتخلى عنه في كل آن لطلب محبوب آخر، فهو بذلك يعبد شهواته اللازمة والمتعدية، فيعبد شهوته المتمثلة في إنسان آخر يمكن أن يعلل أفعاله ليرضيه ويحصل منه على مطلوب له، ولكون هذا الإنسان المحبوب ناقص فإنه ولا بد لن يكتفي بعبادته وحده بل لا بد من الشرك معه إذ ليس مستحقًا لافراده بذلك كما هو واضح، هنا نجد موطئ قدم للخيانة المبررة نفسيّا فلما يكون الحب هو أسمى مطلوب، تصبح التوقعات فيه عالية، ولا يعود هناك معنى للبقاء مع شخص لم يعد يعطيك لذة شعور البدايات في الحب، ولما كان الملل حتمي، كان الكفر بهذا المحبوب مسألة وقت حتى أصبح الحب علاقة مؤقتةً بالمشاعر، ينتصر فيها من فقد مشاعره أولًا بينما يبقى الوفي معذّبًا، فهكذا صارت العلاقات غير مستقرة، وهذا يصب الزيت في نار التأله لهذا صار هناك نوع من الاستماتة في محاولة إطالتها خوفًا من عواقب انهدامها وعندما تنهدم يحاول الإنسان إشباع ما فاته من مشاعر التعلق والاشيتاق بقصة أخرى.
حتى صار الناس يبحثون عن حيل نفسية ليجعل شريكه يتعلق به تعلق مرضي، لأن مقدار التعلق العادي لم يعد كافيّا لإلزامه في الاستمرار بعلاقة خالية من الواجب الأخلاقي الزائد على مجرد اللذة الشعورية الحاضرة، فعندما أصبح الحب نفسه أعلى من كل شيء ولم يعد خاضعًا لسلطة أعلى، اكتشف الإنسان أنه أكثر شيء مثير للقلق بل ومرعب وعندما تحرر الإنسان في الحب، صار عبدًا له.
يسمّنون الحب ليأكلهم في النهاية، فلنفس السبب الذي بدأ به وهو المشاعر المفاجئة سينتهي عند الملل المفاجئ، فإن لم يكن فوقه سلطة أعلى تبقيه وتقنن له ما به يُحفظ حقوق الطرفين، فسيكون مثل أي آلهة مخلوقة ناقصة تعبد من دون الله، ليس لها سبب تقوم به من نفسها، يطعمها الإنسان ويسقيها وإذا جاع هو وطلب منها الطعام، فلن تجد ما تقدمه له.