عقيدة مشتركة أم أصل وفرع؟
“فتحير الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يومًا، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى” – الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (1)
أدرك الإمام أحمد بن حنبل على جلالة قدره أنما أتيَ الجهم من دخوله الجدل بلا علم في أصول الدين ومصادر استمدادها الوحيدة عند المسلمين، فاقتبس عقائد من فلاسفة النصارى دون تحقيق وقياس على مسطرة الشريعة.
وللأسف كثير من المتصدرين في مجال الرد على الإلحاد لم يدركوا ما سبقهم إليه الإمام أحمد بما يزيد على الألف عام!، فاليوم تجد من ينقل حجج زنادقة النصارى المتفلسفة في قضايا النشأة مطلقة التغييب “أي نشأة العالم وقصة الخلق ومافيه”، كويليام لين كريغ وغيره، وهذه الحجج مبنية على عقيدة هجيبة (اعتقاد النصارى + اعتقاد الدهريين).
التنقيب عن أصول الباطل المستترة
فالتنظير في مثل هذه القضايا ليس تنظيرًا بريئًا كما هو واضح في أول العقل، فكيف للعاقل أن يزعم ببراءة أنه قادر أن يفهم كيف خلق الله العالم على غير مثل سابق من خلال التأمل المحض والنظر في طبائع العالم!
وإلا فعند التنقيب تجد أن إمكانية التنظير في هذه القضايا أساسًا مبنيٌّ على قبول المسلمات الدهرية الأربعة التي تتأسس كلها على مبدأ نفي إمكان وجود الغيب المطلق فضلًا عن وجوب وجوده! وهو معتقد الدهريين ومفاده: أنه لا شيء اسمه غيب مطلق إنما الأمر غيب نسبي يشابه نوعًا ما نشهده بحواسنا من طبائع هذا العالم المشهود، على أننا فقط لم يقدّر لنا أن نذهب إليه: وعليه أيضًا فإن كان الزمكان كله طبيعيّا نوعًا تجري عليه الحوادث من نفس الأنواع والطبائع التي نشهدها في هذا الحيز المشاهد، ويسمى التنظير بالقياس الاستقرائي “على شرط الوجود” ويكون شرط الوجود أساسًا أن يكون طبيعي نوعًا ويمكن قياسه على مافي عادتنا من موجودات وطبائع لها.
● فيمكننا حينها تأويل المحسوسات البعيدة مهما كانت ضئيلة جدّا على أنها مشابهة، وحتى ما لا نحسه مهما اتجهنا بأي جهة من المكان إلى ما لا نهاية، وتسمى هذه المسلمة “التساوي المكاني المطلق”
● والثانية هي التساوي الزماني من حيث نوعية الحوادث أنها كلها من نفس النوع الطبيعي الذي نشاهده أو يناظره من حيث دخوله في المعادلات التي تصف الجزء المشاهد من العالم ونفس نوع الأشياء أو الأسباب التي نفترضها كأسباب طبيعية بالقياس التخميني لتفسير الحوادث الطبيعية
● والثالث هو مبدأ الإنغلاق السببي على الأسباب الطبيعية بحيث أنهم ينفون وجود شيء غير طبيعي كمقدمة مسلم بها أساسًا.
● ومبدأ اللاغاية أو ما يسمى “مبدأ الوضاعة” وهذا الذي يمكنهم من قياس الأرض والشمس والقمر والحوادث التي تجري على الأرض بأي كوكب سيار أو نجم بعيد في السماء على أنه لا خصوصية فيهم لشيء على شيء.
ومبدأ نفي المعارف الفطرية الضرورية التي تغني عن الالتجاء للحواس للتحقق من صحتها بل هي أساسًا التي نفهم الحواس بها بشكل صحيح، أو اثبات بعضها تحكمًا وهم اضطربوا بهذا كثيرًا ولنسميه “المبدأ السوفسطائي”
انتهينا الآن من أشهر المسلمات الدهرية التي تبنى عليها نظريات النشأة التي يقاس فيها عمل الصانع على العمليات التي تجري داخل الصنعة بعد صنعها
أما المسلمات النصرانية التي امتزجت بهذه المسلمات الدهرية:
● فهي قدريتهم التي تقول أن الله لا يقدر شيء إنما يخلق الطبيعة وهي تعمل لوحدها من تلقاء نفسها والله يتدخل أحيانًا لإصلاح بعض مشاكلها، وبناء عليه ترى نيوتن يشبه الكون بالآلة الميكانيكية التي يصلحها الإله كل فترة حتى تبقى تعمل، وهي تعمل وفق قوانين طبيعية تخلق منها ما تخلق، والإله فقط وظيفته أن يرجح الإحتمالات الصعبة التي يصعب أن تترجح بالصدفة “الوجودية” التي لم يقدر الله حصولها إنما حصلت اتفاقًا بشكل طبيعي، فيكون بذلك الإله قد صمم بعض الأشياء في الكون التي يمكن معرفتها بالمقارنة مع غيرها، كما ترى تلك النزعة واضحة عند جماعة “التصميم الذكي”
● وكذلك نزعتهم التجهمية في تأويل النصوص حتى صارت نصوص سفر التكوين كلها مأولة وكلها من قبيل المجاز وقصص العظة والعبرة والرموز.
● وهم ليس عندهم أي مشكلة في إخراج الإله عن الزمكان والقول بعقيدة التولد الذاتي كما في قولهم في يسوع نفسه!
فهم ما أبعدوا النجعة عن الملاحدة كثيرًا، على أنهم يقولون بشيء من الغائية وليس كلها، فالقدري لا يستطيع أن يثبت الغاية من وراء كل حدث، إنما بعض الأحداث التي يشعر بعلمه القاصر أنها مقصودة وورائها فعل إلهي مخصوص، أو المعجزات مثلًا، ولذلك تجد كثير منهم يقولون بالصدفة الوجودية واللاحتمية الوجودية (الإحتمالات الوجودية خارج الذهن)
● وبذلك برز لنا مجموعة من الحجج النصرانية التي هي نتاج تزاوج بين الفكر الإلحادي والفكر النصراني الزندقي:
مثل:
الحجة من الضبط الدقيق، الحجة من التصميم الذكي، الحجة من الإنفجار العظيم، الحجة من مبدأ الانتروبي، الحجة من المبدأ “الأنثروبي”، الحجة من الديناميكا الحرارية، وغيرها من الحجج التي يمكن تسميتها ب”Christian natural arguments” الحجج الطبعانية النصرانية.
وممن ينقل حججهم هذه دون فحص المسلمات الفلسفية الاعتقادية التي بنيت عليها ويقبلونها لمجرد شيوعها وشهرة القائلين بها في الغرب: أمثال عمرو شريف، محمد باسل الطائي، زغلول النجار، عدنان ابراهيم، نضال قسوم، وهؤلاء جهمية عصريين بامتياز، وبعض من المحسوبين على السلفية لا أحب ذكر أسمائهم هداهم الله.
الخلاصة:
يا أخي الكريم، لا تستورد حججًا من شخص يخالفك في العقيدة قبل أن تدققها جيدًا فإنه ما بناها إلا لنصرة اعتقاده، وقد يكون فيها من التسليم الغير صحيح لأصول خصمه مافيها، وأنت تأتي تنتزعها عن سياقها هذا لتدافع فيها عن عقيدة أخرى، فهذا خطأ منهجي كبير وجب الانتباه له.