فلسفة العلوم

الإستدلال التخميني abductive reasoning

 سلسلة منهجية العلم التجريبي #فلسفة_العلوم – الجزء الأول

الإستدلال التخميني abductive reasoning

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيببين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فكل عام وأنتم بخير ونعتذر عن طول الإنقطاع.

قررنا أن نعود لكن بسلسلة منهجية مفيدة لكل طالب علم مسلم وكل طالب حق.

وهو مقدمة في المنهج التجريبي ومناهج الإستدلال الصحيحة في التعامل مع المشاهدات والحس البشري ومراتب الأدلة من حيث القوة والثبوت ومطابقة الواقع ومفهوم النظرية والفرضية والمبرهنة والقانون الرياضي والقانون الطبيعي وما إلى ذلك من مواضيع ذات صلة.

كل هذا سنتطرق إليه في هذه السلسلة إن شاء الله.

سنبدأ بالاستدلال التخميني (Abductive reasoning).

وهو طريقة للاستدلال المنطقي تنتقل من الملاحظة (الاستقراء والعادة المحسوسة) إلى الفرضية التفسيرية التي تستطيع تفسير المشاهدة الملاحظة المراد تفسيرها وتسعى لتقديم دليل على صحة تفسير معين كأرجح تفسير معروف أو حتى التفسير الصحيح فعلا في الأول بشكل مسوغ عقلًا (أي له مستند دليلي من الحس والعادة المقترنة بنفس الظروف).

فالاستدلال التخميني هو تخمين أن (أ) هو تفسير يحتمل بنسبة معينة أن يكون صحيحا لـ(ب) نتيجة طبيعية لذلك التخمين المبني على العادة والاستقراء السابق للحالات المشابهة والقرائن الحسية للمشاهدة المطلوب تفسيرها.

فتخمينك (أ) لتفسير المشاهدة (ب) يعتمد على عادتك بأن السبب (أ) هو سبب كافي بالعادة لكن لا يلزم بالضرورة لتفسير المشاهدة (ب).

قد يكون أيضًا السبب (ص) يؤدي لحصول نفس المشاهدة (ب) أيضًا والمرجح بين السببين (أ) و (ص) هو القرائن الحسية المرجحة التي تنحاز لأحد التفسيرين وهي ليست نفس المشاهدة المراد تفسيرها.

إنما قدر زائد عليها يستند عليه تفسيرها وإلا لزم الدور.

لأن صحة الافتراض التفسيري للمشاهدة المطلوب تفسيرها لا يتوقف على المشاهدة نفسها إنما يتطلب البحث عن دليل يفيد علمًا بتفسير هذه المشاهدة.

فكما اتفقنا أن المشاهدة (ب) لا يعلم تفسيرها ولهذا سنستخدم هذا المنطق اًصلا لتفسيرها.

لدينا عدة نماذج لأسباب قد تؤدي لـ(ب) نركز على القرائن الحسية التي تترافق مع هذه المشاهدة فإذا دلتنا على صحة أحد الفرضيتين مثلًا  (أ) أو (ص) فنختار الصحيح ويكون هذا ابطال للخاطئ.

وقد تظهر مشاهدة تبطل (أ) لكن لا تدل بالضرورة على صحة (ص) إنما قد تفتح المجال لافتراض سبب جديد وهو (ج) مثلًا.

وقد ينتهي البحث بإقرار الباحث بأن هذه المسألة لا يمكن الترجيح بها بين الفرضيات بشكل يقيني بل بظن ضعيف جدا لعدم كفاية المشاهدات للدلالة على صحة أي تفسير لها (كالجرائم التي تؤيد ضد مجهول مثلًا).

وهناك مسمى آخر للاستدلال التخميني هو الاستدلال بأفضل تفسير والذي طرحه الفيلسوف جيلبيرت هارمان ولكن بطريقة مختلفة.

الاستدلال بأفضل تفسير يقول أنه في العادة هناك عدة فرضيات من الممكن ان تفسر المشاهدة ولهذا السبب فيجب علينا استبعاد جميع الفرضيات الضعيفة حتى يمكننا من الاستدلال بالتفسير الأفضل.

مثال على الإستدلال بأفضل تفسير هو في تفسير العشب الرطب.

لو كان العشب رطبا فمن المحتمل أنها أمطرت.

المطر أفضل تفسير للعشب الرطب، مثلا في البرازيل.

لكن هذا لا يلزم منه أن يكون أفضل تفسير في منطقة صحراوية في الجزيرة العربية في ذروة الموسم الجاف، حيث من المحتمل أن تكون أنظمة الرشاش الآلي هي أفضل تفسير للعشب الرطب خاصة لو كان العشب رطبا ولكن أرضية الشارع جافة.

وذلك بناءا على استقراء العادة في الحوادث المشابهة في هذه الظروف في هذا الزمان والمكان التي تتواجد به المشاهدة المطلوب تفسيرها.

استخدامات خاطئة لهذا المنطق:

هب أن شخصًا ما حاول تفسير كون كل عشب المساحة الخضراء الرطبة الواسعة مبلل بكون هناك كائن غريب يعيش في هذه المنطقة ولم يتم اكتشافه بعد هو من تسبب برطوبة هذه التربة، فهل يكون لافتراضه التخميني هذا أي قيمة؟ حتى لو زعم أن لافتراضه قدرة تفسيرية عالية للمشاهدات والربط بين المتغيرات يبقى افتراضه ليس له أي مستند من العادة والخبرة الاستقرائية التجريبية وليس هناك أي نسبة احتمالية معرفية موجودة تعبر عن صحة كلامه بأي نسبة ظن حتى.

فهو استخدم منطق التخمين التفسيري بشكل خاطئ.

وهذا يحصل كثيرًا في النظريات التي تتناول مسائل غائبة عن الحس تغييب مطلق فلا يمكن التحقق منها حسيّا.

فيفترض فيها عوامل لا تتسم بالضرورة العقلية ولا لها مستند حسي أو خبري لمعرفتها ويتم وضع فرضيات زائدة باستمرار حتى تجعل هذه العوامل تفسر أكبر كمية من المشاهدات لصالحها وتحارب المشاهدات المبطلة لصحتها إلى أن يحصل ذلك.

مع أن أساس خطأها ليس وجود مشاهدات مبطلة إنما أساس استخدامها لهذا المنطق (التفسير التخميني) بطريقة سيئة بعيدة عن أي أساس استقرائي، ولا حتى تشبيهي بنوع يشابه هذه الحوادث بأي وجه من الوجوه.

ومهما تم وضع نماذج وفرضيات تفصيلية جدا جدا لا تستند على أساس حسي استقرائي يفيد صحة التفسير المعين دون غيره من التفاسير المناسبة فيبقى التفسير ليس له قيمة لا هو ولا التفسيرات المنافسة المتكافئة من حيث كونها لا تملك دليل تتأسس عليه.

#سراج.

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button