المعرفة

لماذا نستخدم الدليل العقلي في الأمور الفطرية والبديهية؟

والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

ففي الآونة الأخيرة أطل على أهل السنة مرة أخرى مارد الكلام والتفلسف بحجة أنه النظر العقلي والحكمة المجردة وأنه هو المسلك الرشيد القويم في إفحام الملاحدة وإنقاذ أهل الإسلام من تهمة الإيمان الأعمى والتقليد الأغبى، فإذا نبهتهم إن أصول دين المسلمين مسائل ضرورية بديهية أصلها فطري في النفوس والتسليم للرسول هو من جنس الضرورة الوصفية ومن العمل بمقتضى الفطرة الذي لا يحتاج لإعادة نظر حتى يثبت صحته ويصح الإيمان في النفس كيقين علمي صحيح، ولا تضرنا مكابرة المكابرة والمسألة مسألة دعوة وحسب وإلا فلا خوف علينا من مزاعمهم، قالوا لك لكن نحن قادرين على صياغة دليل عقلي على هذه الأمور!، لذلك اليوم سنجاوب هذا السؤال المشكل الذي يفيد مطلوبنا ولا يفيد مطلوبهم ابتداء.

سؤال:

لماذا يصيغ بعض النّاس أدلة عقلية لإثبات صحة قول ما، أو معرفة ما، مع كون صحتها بديهية فطرية؟ وما الصواب المنهجي في ذلك؟

صياغة دليل عقلي في مسألة ضرورية هو لغاية نقض ما عنده من باطل والزامه بالاعتراف بالحق الضروري الذي عندنا، وهذا لا يكون إلا باعتقاد مسبق أنه أساسًا مكابر على الضرورة العقلية التي تلزمه بمجرد عقله وأن التلازمات التي نقدمها بين المقدمات العقلية الضرورية الأولية ولوازمها هذا نفسه تلازم ضروري لا يخفى على عاقل يستوعب هذه المقدمات وأنه ليس مجرد العرض اللغوي هو الذي يكسبها الضرورية إنما الإقرار بصحة الجمل اللغوية التي تحمل هذه المعاني الضرورية هي لكونها أساسا كمعاني صحيحة وإلا فاللغة حاملة لها وحسب، فنبدأ بجعله يقر بحقيقة ضرورية نشترك نحن واياه بالاقرار بها ثم بيان التلازم الضروري بينها وبين ما يكابر عليه لإلزامه بالتناقض وفضحه وهذا البيان هو بيان لما يجب أن يجده الخصم في نفسه وهو يكابر عليه ولذلك نحن نقدم له المقدمة الضرورية التي نوقعه بالاقرار بها كطعم للإلزام مبني أساسًا على علمنا الضروري المسبق بأن التلازم العقلي الضروري بين هذه المعرفة الضرورية التي يقر بها وبين ما يكابر عليه هو أساسا تلازم فطري ضروري لن يخفى عليه وإلا لجاز أيضًا أن يكابر عليه ويسكتنا! وحينها تبطل هذه الطريقة الاستدلالية أصلًا!.

المحصلة:

فالدليل العقلي إنما مبناه ومعناه هو استغلال الفطرة والتلازم الضروري بين بعض البديهيات بحيث إن اسقطت واحدة لزم سقوط جملة من البديهيات التي تتعلق بها مما يفضح تناقض من يقر بها مع نفسه وبالتالي مكابرته امام نفسه وجمهوره.
وأما المتكلمين فصدقوا الفلاسفة في زعمهم أن هذا التلازم الضروري البدهي يخفى عليهم، (وهذا الاعتراض السوفسطائي قد يورد على اي دليل بأنه لا يجد ضرورة في التلازم بين الدليل والمدلول ولا خروج لهم من هذا المأزق في مذهبهم)
وبنائا عليه احتاجوا ان يثبتوا الضرورات بالنظريات، التي بدورها تحولت هكذا الى نظريات يحتمل ورود المعارض عليها وثم اذا جادلوا بالضرورات وقدموا الأدلة التي هي أصعب في العقل من المدلول من باب التنزل الجدلي مع الخصم اعتقدوا ان اقرار الفيلسوف الدهري بصحة الدليل هو نجاجهم في تأسيس الفطرة والضرورة في نفسه من جديد وليس أنه أقر بما هو فعلا لا يتصور ألا يتلازم في عقل من عقول بني آدم من الضرورات وانه فقط اضطر ان يكون صادقا وتنازل عن بعض اهوائه او اقر بالضرورة تلك لمصلحة أن لا يسقط مذهبه الذي يقر بتلك الضرورة فيه.

فالأمر أشبه بمن يقول أنا أقر لكم بأن النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ثم يقول فلان قائم وقاعد في نفس الوقت فنحاول صياغة دليل الزامي حتى يقر بما نحن نعلم انه يجده ضرورة اظهر في نفسه من اقراره بان النقيضان لا يجتمعان بأن الرجل لا يمكن أن يكون قائما قاعدا في نفس الوقت بحال! وان التلازم بين هذين الامرين ضروري لا ينفك في عقل العاقل وانما صياغة الدليل انما هي من باب التكذيب للخصم وليس اعتقاد صدقه واحتياجه للدليل فعلا!

فلينتبه لهذا جيدًا، الأدلة نوعين، فالتدليل على أمر فطري بأمر فطري هو نوع من الالزام والنقض على المخاصم، واستغلال التلازم الضروري بين بعض الضرورات مما يفيد بيان تناقض الخصم مع نفسه او في مذهبه باقراره بضرورة دون الاقرار بسائر الضرورات التي لا تستقيم هي بعينها في العقل دونهم بضرورة العقل كذلك، بينما الدليل في القضايا الجنائية أو الشرعية التوقيفية فما هو غير معلوم بالفطرة والضرورة ففعلا يؤسس في نفس المخاطب معرفة صحيحة مكتسبة في نفس الأمر كتقديم دليل من الكتاب والسنة او شهادة الشهود وما الى ذلك فهي ادلة تدل العاقل على المدلول ولكنها تؤسس بالنفس بعد عدمها بخلاف الادلة العقلية التي تعتمد على طبيعة العقل نفسه وفطرته.

مع كون كل عمل عقلي نظري أصلا هو يرجع لمعايير عقلية ضرورية تميز بين السلوك الاستدلالي الصواب وبين الاستدلال السقيم وهي كالمسطرة المعيارية وترجع لها كل عمليات فهم المحسوس أو النظر للوصول للمزيد من الحقائق (ما يسمى الضرورات الوصفية والثانوية والاستقرائية وما إلى ذلك)

الخلاصة:

هذه طريقة أهل السنة والجماعة وهذه هي الحقيقة العقلية للدليل العقلي الضروري وهي خلاف طريقة المتكلمين الذي يلزم من مذهبهم نسبية الضرورات وبالتالي المعرفة بإطلاق، وتنتهي بهم الى اثبات الضرورات بالنظريات والاستدلال اللانهائي وسيولة العقل والشك والريب.

الغيث الشامي (أبو عبادة)

أبو عبادة، أثري، دمشقي، شغوف بعلوم الاعتقاد، مهتم بنقد الفلسفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى