قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
“ولفظ ” الأعراض في اللغة ” قد يفهم منه ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها وكذلك لفظ ” الحوادث والمحدثات ” قد يفهم ما يحدثه الإنسان من الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة أو ما يحدث للإنسان من الأمراض ونحو ذلك. والله سبحانه وتعالى يجب تنزيهه عما هو فوق ذلك مما فيه نوع نقص فكيف تنزيهه عن هذه الأمور؟ ولكن لم يكن مقصود المعتزلة بقولهم هو منزه عن الأعراض والحوادث إلا نفي صفاته وأفعاله فعندهم لا يقوم به علم ولا قدرة ولا مشيئة ولا رحمة ولا حب ولا رضا ولا فرح ولا خلق ولا إحسان ولا عدل ولا إتيان ولا مجيء ولا نزول ولا استواء ولا غير ذلك من صفاته وأفعاله. وجماهير المسلمين يخالفونهم في ذلك ومن الطوائف من ينازعهم في الصفات دون الأفعال ومنهم من ينازعهم في بعض الصفات دون بعض”
– مجموع التفاوى، القدر.
فبين شيخ الإسلام المعنى اللغوي للفظة الأعراض وأن خلافنا مع المعتزلة ونفاة الأعراض ليس خلافًا لغويًا محضًا إنما هو خلاف على ما اصطلحوا على أن يسموه أعراض، وهنا يبغني التنبه إلى أن معظم الخلافات الفلسفية لا تدور حول اللفظ إنما الحقيقة التي ينزل عليها اللفظ وكثير من الناس يجادل في نفس اللفظ ومعناه لغةً ظنا منه أن هذا مدار الخلاف.
والأشاعرة يقولون إذا أثبتم لله يد فأنتم مشبهة فنحن لا نعلم اليد إلا هذه التي في الإنسان، وكذبوا بل اليد يمكن أن تضاف لغير الإنسان فهي صفة والصفة تأخذ كيفيتها من الموصوف بها لكن لها معنى ثابت في نفسها (بغض النظر عن قدرتك على صياغة تعريف له بألفاظ أخرى أم لا فهذا مبحث آخر وهو خارج محل النزاع)
فإن قيل إن يد الإنسان لها شكل معين، قيل هذا داخل في معنى الكيفية، فإن قلت أنا لا أعقل الفرق بين المعنى والكيفية قلنا لك قل هذا في العلم والقدرة والحياة.
فهي في الإنسان لها كيفية معينة فمثلًا العلم هو نوع من الحس الباطن ويحصل في الإنسان بكيفيات معينة ويقوم بالإنسان بكيفية معينة فله كيفية تخص الإنسان وهو من باب الأعراض على اصطلاح المعتزلة أي ما يقوم بغيره في الأعيان ونحن لا نعقل العلم في الشاهد إلا أنه يقوم بجسم ويكون في قلبه أو دماغه.
ثانيًا، إن الأعراض أضعف وجودّيا من الأبعاض، فإن في الشاهد البعض يقوم بنفسه فيد الإنسان هي بعض قائم بنفسه من الإنسان، أما العلم واللون والحياة والقدرة فهي تقوم بغيرها، فمثلًا بعض قدرة الإنسان يقوم بيده، بينما اليد لا تقوم بالقدرة، وحياة الإنسان تقوم ببدنه، بينما رأسه لا يقوم بالحياة، فما نعقله في الإنسان من صفات المعاني كلها تقوم بالجسم ولولاه ما وجدت، بينما الأبعاض تقوم بلا صفات المعاني.فإن كنت تريد أن تحتكم للشاهد فدونك هذه الحقيقة الصادمة!
ثالثًا، فإن مصدر العلم بمعنى القدرة ومعنى اليد واحد هو الشاهد ثم ننزل المعنى الكلي على الغائب دون الخوض في الكيفية، فنعقل القدر المعنوي المشترك ونقول بأن هناك قدر مميز لكن نفوض العلم به.
وفي هذا السياق يقول الإمام ابن القيم في الصواعق المرسلة:
“قيل له فهلا أثبت المعنى الذي تأولته على وجه لا يستلزم تشبيها.
فإن قال ذلك أمر لا يعقل.
قيل له فكيف عقلته في المعنى الذي أثبته وأنت وسائر أهل الأرض إنما تفهم المعاني الغائبة بما تفهمها به في الشاهد ولولا ذلك لما عقلت أنت ولا أحد شيئا غائبا البتة فما أبديته في التأويل إن كان له نظير في الشاهد لزمك التشبيه وإن لم يكن له نظير لم يمكنك تعقله البتة وإن أولت النص بالعدم عطلته فأنت في تأويلك بين التعطيل والتشبيه مع جنايتك على النص وانتهاكك حرمته فهلا عظمت قدره وحفظت حرمته وأقررته وأمررته مع نفي التشبيه والتخلص من التعطيل وبالله التوفيق.”
وهو نفس موقف شيخه ابن تيمية رحمه الله من المعرفة واكتساب العلم بالمعاني.
حيث يقول في المجلد الرابع من بيان تلبيس الجهمية:
“وبكل حال فلا يقوم بنفسه قضية كلية عقلية ضرورية أو غير ضرورية إلا بتوسط قياس واعتبار حتى مثل علمه بأن الواحد نصف الاثنين وأن الجسم لا يكون في مكانين وأن الضدين لا يجتمعان هو في ذلك كله قد أدرك بحسه ذلك في بعض الأجسام والأجساد والألوان المتضادة وعقل أن من ما لم يحسه مثل ما أحسه في ذلك وأن الحكم لا يفترق واحد وواحد وجسم وجسم ولون ولون وضد وضد يحكم بذلك حكماً عاماً كلياً وإذا كان كذلك لم يكن له حجة عقلية في العلم الإلهي أصلاً إلا ولابد فيها من قضية كلية والقضية الكلية لابد فيها من قياس الغائب على الشاهد فإن كان هذا باطلاً بطل جميع كلامهم بالأدلة العقلية في العلم الإلهي”
وحتى أوضح الأمر أكثر فإن الكيفية هي صفة الصفة، وهي التي تعرف بمشاهدة الموصوف أو شبيهه أو أحد أفراد نوعه، وهي ما به يحصل الفرق بين علمك أنت بصفات الله وعلمه هو، فمثلا الله يعلم أن له حياة، وأنت تعلم أن لله حياة، فما الفرق بين علمك بذلك وعلمه؟ الفرق أنه يعلم حقيقة وصفة قيام الحياة في نفسه بينما أنت فقط تعلم أنها تقوم به دون إدراك حقيقة ذلك التفصيلية.
باختصار، كل ما تقوله في الأعيان من أنها لا تكون إلا جسمًا مركبًا، يقوله لك المعتزلة في الصفات التي لا تكون فينا إلا أعراض قائمة بالجسم والأبعاض، فإن تعقلت اعراضًا لا تستلزم التركيب الممنوع فيلزمك في الأبعاض.
وقد قدم الإمام ابن القيم هذا الاحتجاج بصورة مختصرة في كتابه الصواعق المرسلة كما يلي:
“وقالت طائفة أخرى (من الأشاعرة): ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاضا، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يتأول، وما كان ظاهره جوارح وأبعاضا كالوجه واليدين والقدم فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم.
قال المثبتون (السلفية): جوابنا لكم هو عين الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات، فهم قالوا لكم: لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلا للأعراض ولزم التركيب والتجسيم والانقسام، كما قلتم: لو كان له وجه ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام وحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به؟
فإن قلتم: نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضا ولا نسميها أعراضا فلا يستلزم تركيبا ولا تجسيما.
قيل لكم: ونحن نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه ونفيتموها أنتم عنه على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح ولا يسمى المتصف بها مركبا ولا جسما ولا منقسما.
فإن قلتم: هذا لا يعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض، قلنا لكم: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض.
فإن قلتم: العرض لا يبقى زمانين، وصفات الرب تعالى باقية دائما أبدية فليست أعراضا، قلنا: وكذلك الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها، وذلك في حق الرب تعالى محال، فليست أبعاضا ولا جوارح، فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقا في نوعين، والمخلوق يجوز أن تفارقه أبعاضه وأعراضه.
فإن قلتم: إن كان الوجه عين اليد وعين الساق والإصبع فهو محال، وإن كان غيره يلزم التميز ويلزم التركيب، قلنا لكم: وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهي نفس الحياة والقدرة فهو محال، وإن تميز لزم التركيب، فما هو جوابكم؟ فالجواب مشترك.
فإن قلتم: نحن نعقل صفات ليست أعراضا تقوم بغير جسم وإن لم يكن له في الشاهد نظير، ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة، ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين، وإن أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه.
ولما أخذ هذا الإلزام بخناق الجهمية قالوا: الباب كله عندنا واحد ونحن ننفي الجميع.”
روابط ذات صلة لتعميق فهم المسألة:
مسائل في قياس الشاهد على الغائب ولماذا يضع الأشاعرة هذه الفروقات بين الصفات، محاضرة في الإله الميتافيزيقي، مناقشة م. ماهر أمير لنفس الشبهة في كتاب الانتصار للتدمرية، الرد على من قال أن أهل السنة يشبهون ربهم بالمحسوسات.