لقد وضع أرسطو نظرية الحد للإجابة على السؤال الذي يطرحه الفيلسوف : تي إستن؟ ما هذا ؟
إذ بالحد نعرف طبيعة الشيء وحقيقته ( الماهية).
وبناءً عليه قسم العلم إلى تصور وتصديق، والتصور ينال بالحد، والتصديق ينال بإدراك النسبة بين الموضوع والمحمول.
فزعموا أن الحد يفيد تصور حقيقة الشيء، لا مجرد تمييزه عن غيره. وقد أبطل أبن تيمية زعمهم أن الحد يفيد تصور حقيقة الشيء من عدة وجوه ليس هنا موضع بسطها، وأكد أن « فائدة الحدود التمييز لا التصوير.»
بهذا فغاية كل تفلسف وتمنطق هي الوصول إلى التصور الصحيح للأشياء، الذي ما هو إلا تمييز الشيء عن غيره في النهاية. فهذا منتهى علمهم ونهاية إقدامهم إن هم بلغوه.
وهذا التمييز الذي يظنونه تصورًا لحقيقة الشيء، ليس علمًا إذ «التصور -الذي هو احد نوعى العلم عندهم- هو التصور المجرد عن كل نفي وإثبات، ومعلوم أن مثل هذا لا يكون علما عند أحد من العقلاء، بل إذا خطر ببال الإنسان شيء ما ولم يخطر له ثبوته ولا انتفاءه بوجه من الوجوه لم يكن قد علم شيئا؛ مثل من خطر له بحر زئبق أو جبل ياقوت خاطرا مجردًا عن كون هذا التصور ثابتا في الخارج أو منتفيا، ممكنا أو ممتنعا، فان هذا من جنس الوسواس لا من جنس العلم. »
وتمييزهم الذي يسمونه تصورًا عندنا نحن أهل السنة هو محض جهل، ففي تفسير قوله تعالى « {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}… قال الحسن وقتادة وعطاء والسدي وغيرهم: إنما سموا جهالا لمعاصيهم لا أنهم غير مميزين.»
فلم يسموا جهالا لأنهم غير مميزين، بل هم مميزين، لكنهم جهال مع تمييزهم.
وأما التصور، اي معرفة حقيقة الشيء وماهيته، فلا يوجد تصور تام بهذا المعنى، « فما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه، وأنا نحن لا نتصور شيئا بجميع لوازمه حتى لا يشذ عنا منها شيء وأنه كلما كان التصور لصفات المتصور أكثر كان التصور أتم.» فاليقين ليس واحد، والعلم ليس درجة واحدة، والخبر ليس كالمعاينة. ففوق كل ذي علم عليم، وبعد علم اليقين هناك عين اليقين ثم حق اليقين.
والتصديق عندهم هو إدراك النسبة بين الموضوع والمحمول. وهو من أكمل العلم عندهم، إذ يحصل بعد نظر واستدلال. لأن مركب من تصور حد الموضوع وتصور المحمول ثم إدراك النسبة بينهما.
ومع إمتناع التصورات بحدودهم أو عسرها في أفضل الأحوال، فيعني أن عامة الناس جهال، وليس لهم تصديقات إذ لا سبيل لهم لنيل التصورات.
والتصديق عندنا نحن أهل السنة والجماعة هو الإيمان، وهو ليس محض إدراك النسبة بين التصورات، وانما أجل من ذلك.
فالعقل ليس جوهريًا ومستقلًا – لوغوس- متعاليا عن الجسد وعواطفه وانفعالاته. وانما العقل صفة، والإنسان يميز بذهنه ويعقل بقلبه، فالتعقل عمل القلب، والاعمال القلبية تنعكس على سائر الجوارح… وبهذا فالعلم ينتهي إلى العمل، وعليه يكون الايمان والتصديق : قول وعمل.
قال التابعي الجليل سعيد بن جبير رحمه الله : فالايمان هو التصديق، أن يصدق العبد بالله وملائكته، وما أنزل من كتاب وما ارسل من رسول، وباليوم الآخر.
والتصديق : أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن…»
فالعمل داخل في مسمى الإيمان، فالإنسان لا يؤمن بمجرد التمييز بين الخالق والمخلوق، وأنه يوجد خالق ارسل أنبياء وانزل كتبا…الخ.
وإنما يؤمن عندما يعمل بمقتضى هذا التمييز، بحيث ينتقل العلم من المستوى التمييزي إلى مستوى الاذعاني، والتمييز عمل المخ، والاذعان عمل القلب.
فلهذا لما ميز الكفار بين الرب الخالق والمربوبين لم يجعلهم هذا مؤمنين { وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ} فهم يميزون الخالق عما سواه، لكن لا يذعنون له بالعبادة فليس لهم { قلوب يعقلون بها}.
وما يعقله القلب يتجلى في الجوارح، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، واذا فسدت فسد سائر الجسد}
لهذا فالإيمان لا ينفك عن الجوارح، فهو تصديق بالجنان ( القلب) وعمل بالاركان ( الجوارح) … ولا يتصور أن يصدق القلب ويذعن ولا يظهر ذلك في جوارحه… والا كان هذا تكذيبا لحديث النبي ﷺ السابق ذكره. «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، واذا فسدت فسد سائر الجسد. »
والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فلو كان مجرد التمييز ايمانًا لما زاد أو نقص.
وقولنا نحن في الايمان ومعناه، مخالف لأهل الغرب وفلاسفتهم، إذ يدعون أن ” الايمان هو المعرفة بلا دليل”.
في حين المسلمين الايمان عندهم شيء تجاوز المعرفة بدليل عقلي فهو تصديق وقول وعمل يعني وصل إلى المستوى الإذعاني وظهر كعمل في الواقع.
لهذا الايمان بالله -مثلا- لا يكون حقا حتى يصدقه عمل العبد بعدم عبادته غيره، فمجرد معرفة أن الرب الخالق هو الله ليس إيمانا، حتى لو أقمت عليه مئات الأدلة العقلية على طريقة اهل الكلام والفلسفة. لقوله تعالى عن المشركين: {وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ} فهذا إقرار بالربوبية، لكنهم في نفس الوقت يعبدون غير الله، فهم عندهم تمييز بين الرب الخالق وما دونه من مخلوقات، لكن هذا التمييز هو مجرد جهل في الاسلام، إذ لم يلزم عنه توحيد الله في العبادة.
فمن تصور جيدا -ووصل ذلك التصور إلى القلب- أن الله خالق كل شيء = فلن يعبد سواه. وفي قوله تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء} فالعالم بالله حقا هو من يخشاه ( القلب)، أما من يعرف مجرد المعرفة التمييزية بدون اثر قلبي ( الخشية) فهذا لازال جاهلا.
فالفلاسفة -الذين ادعو أنهم برهنوا على وجود واجب الوجود بالبراهين العقلية اليقينية- هم أجهل الناس حقيقة برب العالمين.
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
«ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا. وذلك لأن تصور المخوف يوجب الهرب منه وتصور المحبوب يوجب طلبه فإذا لم يهرب من هذا ولم يطلب هذا؛ دل على أنه لم يتصوره تصورا تاما؛ولكن قد يتصور الخبر عنه، وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصور المخبر عنه. وكذلك إذا لم يكن المتصور محبوبا له ولا مكروها؛ فإن الإنسان يصدق بما هو مخوف على غيره ومحبوب لغيره ولا يورثه ذلك هربا ولا طلبا. وكذلك إذا أخبر بما هو محبوب له ومكروه ولم يكذب المخبر بل عرف صدقه؛ لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به؛ فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب.»
فالإيمان متناقض مع العقل الجوهري – اللوغوس- المتعالي على الجسد وانفعالاته.
0 4 minutes read