قضايا

الانسان بين فلسفة اليونان وفطرة الاسلام

الجزء الاول : تصور الإنسان في الفلسفة الغربية وتأثيرها في الفلسفة العربية.

مقدمة:

شكلت الفلسفة اليونانية مجموعة من المعاني والمفاهيم المستمدة من لغة القوم – الإغريق- . هذه المفاهيم هي التي تفلسفوا بها وقاموا ببناء الانساق والتصورات عليها، ومن جاء بعدهم وأخذ من إرثهم لم يستطع أن يتجاوز هذه المفاهيم الأولية، فحتى لو خالفوهم الا انهم تفلسفوا معهم بنفس المفاهيم، وعليها تأسست ولازالت تتأسس فلسفات الى الآن.
ولقد واجه الفلاسفة العرب والمتحدثين بالعربية هذه العقبة، اذ كانوا معنيين بنقل معاني عند القوم لا تتحملها اللغة العربية ولا يوجد لها لفظ يعبر عنها، وهكذا أفسد “تراجمة الفلسفة” اللغة العربية بإدخالهم اصطلاحات وتراكيب جديدة واستعمال للألفاظ في غير ما تستعمل فيه على عادة العرب في الكلام، فأتوا بالكلام الركيك والفكر البليد.
ومثل هذا يقال في كلمة “logos-λόγος” اليونانية وهي من الأصل ‘log” الذي يظهر في الفعل “legw” بمعنى “يضع – يختار او يميز- يقول او يتكلم”
أما كلمة لوغوس فتضم عدة معاني في آن وهي : الكلمة (اللغة)، الوجود، العقل ( النظام)، الإله. مما عسر على تراجمة العرب نقل هذا المعنى المتشعب الدلالة الى بنية اللغة العربية.
وهذا التداخل في المعاني في اللغة اليونانية سينتج لنا مجموعة من التصورات الفلسفية تخلط ما في الاذهان بما في الاعيان، او تجعل اللغة بيت الوجود. والتي هي بدورها وعاء العقل، الذي هو بدوره جوهر الوجود وسببه والإنسان يملك عقلًا، والعقل وظيفته الكشف عن عالم المعقولات التي تظهر على ألسنتنا على هيئة اللغة، ثم يكتمل النسق في ما قاله بارمينيدس وهو أن الوجود ما يمكن أن يقال، فيصبح الوجود ليس انعكاسًا لما في الخارج “الحس” إنما لما في الداخل “يقال – يفكر به = معاني وكليات” والعقل وظيفته ان يكشف عالم المعقولات هذا كاداة تمثل نافذة على العقل الكلي أو عالم المعقولات “المثل” الذي تتمثل فيه كل المعاني بالتالي كل الوجود.

1- الانسان ” حي عاقل”

لقد إرتبط مفهوم اللوغوس بالإنسان بوجه من الوجوه في الثقافة اليونانية، يقول نيتشه « لقد كان الانسان في نظرهم -الإغريق القدامى- هو حقيقة الاشياء وجوهرها، وماعداه فهو مجرد مظهر ولعبة خداعة »¹
ويعتبر هيراقليطس أول من جعل هذا المفهوم ركيزة لفلسفته، حيث جعله مبدأ كليًا يدبر العالم المادي، اي العقل الكلي λόγος الذي يصنع التغير في العالم، فهو بهذا جعل « الاشياء حولنا هي بين معقول ومحسوس». ويقول في إحدى شذراته ² « العقل هو الذي يختص بالفصل في أمر الحق، لكن ليس أي نوع من العقل، إنما “العقل المشترك والإلهي-logos ” ».
فهو اذن يرى ان جوهر العقل الانساني من حقيقة الجوهر الالهي فالانسان يعرف الحقيقه بان يتحد بها اتحادا ً كليا.
فأكد أن في الإنسان طبيعة عقلية إلهية هي خاصية جوهرية فيه وهي التي تدمجه في الوجود، في حين الحس لا ينقل لنا الا الوهم.
وجاء برامينديس من بعده ليرد القول بالصيرورة والتغير التي يصنعها العقل الإلهي في العالم، لكن تفلسف داخل نفس البنية المفاهيمية التي وضعها هيراقليطس، فجعل الوجود المحسوس مجرد وهم -وليس فقط ما تنقله الحواس-، وجعل الوجود الحقيقي معقولا ثابتا لا يتحرك، وقال بوحدة الوجود « كل شيء واحد» ³« ما يلفظ به ويفكر فيه يجب ان يكون موجودا »⁴
أفلاطون لن يبتعد كثيرًا عن هذه المعاني فلقد كانت فكرة برامينديس، ان ما نفكر فيه ونقوله يجب ان يوجد؛ هي القاعدة التي بنى عليها افلاطون تصوره لعالم المثل -عالم اللكليات والمعقولات الثابت الذي لا يدرك بالحس بل بالعقل فقط، والكليات هي ما نقوله، والمعقولات ما نفكر فيه، فجعلها شيء واحد موجودا في الخارج-
والأمر الجوهري في فلسفة أفلاطون هو الوضع الأنطولوجي للنفس العاقلة الإنسانية، فقد حدث أن كانت النفس تعيش في عالم المعقولات الخالدة، لكنها سقطت في المادة وسجنت في الجسد، فحجبت كثافة المادة ذاكرتها. لكن في مستطاع العقل شق حجب الجسد وتمكين النفس من تذكر اصلها، او نمط وجودها الذي يلائمها هو الارتقاء في التفكير والمعرفة الى عالم المعقولات الإلهية، للخروج من وضعية السقوط، وهكذا يكون حد الفلسفة عنده هو « التشبه بالإله على قدر الطاقة » ⁵
فهذه البنية المفاهيمية -السابقة في الذهنية اليونانية- هي التي ستدبج لنا ذلك التعريف الشهير للإنسان الذي قاله أرسطو في -كتابه الأخلاق الى نيقاماخوس- ” حيوان ناطق- λόγον ἔχον”. فهو جعل جوهر “الوجود” الإنساني هو ” العقل- النطق- ” logic, logos, λόγος, λόγον -ونلاحظ تشابك الكلمات، وارتباط المنطق بلغة القوم، فهو ليس قانون عام للفكر كما زعم أرسطو وأتباعه، وإنما هي لغتهم، لهذا لما ترجم المنطق للعربية أول من تصدى له هم أهل النحو لإفساده للسان العربي. – هذا التعريف سيكون له تأثير كبير في التصورات الفلسفية، فهم أولا جعلوا في الوجود ( العالم، الطبيعة، ما يقال) عقلا ( قانون، نظام، عقل فعال، اله). ثم الانسان بما أنه عاقل وهي خاصية جوهرية فيه، فهو على هذا الاساس قادر على “تعقل وتمثل” الوجود وذلك بأن يصل إلى ” العقل الفعال- الإله” … او بتعبيرات أخرى هو جزء من هذا العقل الفعال وما عليه سوى أن يسعى للارتقاء الى هذه المكانة الرفيعة.
من هنا كانت الفلسفة عندهم هي ” التشبه بالإله على قدر الطاقة”. ان الفلسفة هي محاولة الوصول الى العقل المشترك الإلهي، « فالفيلسوف – بتعبير نيتشه- يسعى لأن يتردد فيه صدى انسجام العالم كله ولاخراجه على شكل مفاهيم»⁶
وهذا يعني ان عبر التفلسف الإنسان يسعى الى تحقيق إنسانيته الكاملة، فيكون هو حقيقة الاشياء وجوهرها.

2- من “عاقل “… الى “ولي”.

يبدأ الامر من عند تلميذ اول من اتشغل بالفلسفة اليونانية من العرب- جابر بن حيان- وتلميذه هو ذو النون المصري اول واضع لتعريفات التصوف… اول من عرف التوحيد بمعناه الصوفي
وكذا وضع تعريفات للوجد والحب المطلق والسماع والمقامات والاحوال…. « وتظهر في آراءه تأثرات افلاطونية محدثة وثيوصوفية»⁷
ينقل عنه القشيري أنه قال: « معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى يحتملك ويحلم عنك، تخلقا بأخلاق الله »⁸
وهنا تظهر لنا مقالة التشبه بالإله، ومن الواضح ان المقالة أخذها عن استاذه جابر بن حيان، وهذا الأخير من كتب فلسفة اليونان، وقد عمل على تقريب اصطلاحات الفلاسفة ضمن رسالته في الحدود.
يقول جابر بن حيان «حد العلم العقلي : انه علم ما غاب عن الحواس وتحلى به العقل الجزئي من احوال العلة الاولى، وأحوال نفسه وأحوال العقل الكلي، والنفس الكلية والجزئية، فيما يتعجل به الفضيلة في عالم الكون ويتوصل به الى عالم البقاء »⁹
فيرى انه يمكن للعقل ان يتصف بصفات العلة الأولى « الاله» وان الفضيلة ستوصله الى عالم البقاء، وهذا ما قاله هيراقليطس وافلاطون وغيرهم.
وتلميذه ذو النون المصري يرى ان العارف-الولي الصوفي مثل الله، وأنه متخلق بأخلاق الله ، ومرد الأمر كله الى افلاطون بأن الحكمة او الفلسفة هي التشبه بالإله!
إنقلب العاقل في النسق اليوناني الى العارف- الولي في النسق الصوفي، والمعنى المقصود واحد.
وقد اتهم ذي نون بالزندقة لأنه احدث علما في الدين لم يكن في عهد الصحابة.
ويظهر التأثير في ابعد الفرق عن السنة، كالاسماعلية، فنجد اخوان الصفا يقولون «واعلم يا أخي بأن الحذق في كل صنعة هو التشبه بالصانع الحكيم… ومن أجل هذا قيل في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان» ¹⁰ فالذي يريد ان يصبح نجارًا يتشبه بالصانع النجار، اذن المتشبه بالاله ماذا يريد ان يصبح ؟
ونجد أيضا الكندي وافق قول افلاطون في النفس قائلا: « النفس على رأي أفلاطون وجل الفلاسفة باقية بعد الموت وجوهرها كجوهر الباري عز وجل في قوتها إذا تجردت » ثم قال « ولعمري لقد وصف أفلاطون وأوجز وجمع في هذا الاختصار معاني كثيرة» فإن النفس عند الكندي جوهر «بسيط ذات شرف وكمال، عظيمة الشأن جوهرها كجوهر الباري، مقياس الشمس من الضياء»¹¹ ونفس الأمر عند الفرابي وابن سينا وغيرهم.
الروح التي اعتبرها الكندي الأفلاطوني جوهرا كجوهر الباري حسب تصوره؛ معقولة وغاية في التجريد، كانت تعبد في اليونان عند مفارقة الجسد، مثل قول أفلوطين « كثيرًا من الأنفس التي كانت في هذه الأبدان وخرجت منها ومضت إلى عالمها: لا تزال مُغِيثَةً لمن استَغاثَ بها، والدليل على ذلك: الهياكل التي بُنِيَت وسُمِّيَت بأسمائها، فإذا أتاها المُضطَرُّ أغاثُوهُ ولم يُرجِعُوه خائبًا» ¹²
وبدرجة أقل سيتأثر من يحسبون نفسهم على مذهب السنة والسلف، فنجد القشيري احد شيوخ الصوفية في عصره [ 200 سنة بعد ترجمة مقالات افلوطين] يقول الصوفية « جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه… صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم الى حال المشاهدات مما تجلى لهم من حقائق الاحدية، ووفقهم للقيام بآداب العبودية، واشهدهم مجاري احكام الربوبية. »¹³
وتجد الصوفية في عصره ممن قالوا بالحلول اذ هو نتيجة منطقية للإتساق مع مقالة التشبه بالإله المعقول، والاتصال به. فكانت النتيجة ان « رفضوا التمييز بين الحلال والحرام، دانوا بترك الاحترام،وطرح الاحتشام،واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا الى اتباع الشهوات….وادعوا أنهم تحرروا عن رق الاغلال، وتحققوا بحقائق الوصال وأنهم قائمون بالحق، تجري عليهم أحكامه….»¹⁴
وعلة ذلك ان التشبه بالاله والاتصال به، اي تحقيق وحدة الوجود، سينفي ذلك ثنائية الرب والعبد، فلا يبقى آمر ولامأمور، فتسقط الشريعة امام الحقيقة الصوفية، ويصبح الولي ( الانسان العاقل/الكامل) هو المشرع ( الرازق والواهب وغيرها من صفات الألوهية) فتنبى الأضرحة لأجل ذلك.
أما بن عربي فقد «أتم التفكير الخاص بالانسان الاول مما كان في اصله ايرانيا غنوصيا، ثم عدل عن طريق ميتافيزيقا العقل والكلمة ( اللوغوس) اليونانية، وربط بينها وبين نظرية الولي» ¹⁵
يقول بن عربي : « أعطتنا الحقائق ان الانسان الكامل لا يبقى له في الحضرة الإلهية اسم [ من اسماء الله] الا هو حامل له »¹⁶ فيتحقق مقصود الفيلسوف ” التشبه بالاله ” العقل الإلهي” على قدر الطاقة”
يقول القونوي – تلميذ بن عربي- واصفا الانسان الكامل « هو الحق، وهو الذات، وهو الصفات، وهو العرش، وهو الكرسي، وهو اللوح… وهو الوجود وما حواه ….»¹⁷ اي هو حقيقة الاشياء وجوهرها ( λόγος)
ويقول الصوفي بن قضيب البان : « أوقفني الحق على بساط القطبية، وقال لي: الانسان الكامل قطب الشأن الإلهي؛ وغوث الان الزماني، اول ما أسلِم له: التصريف في قطر نفسه حتى يبلغ الاشد، ثم أسلم له ما وافقه من اقطار الأقاليم. ثم أسلم له الارض، ثم يسلم له الملك، ثم يجمع له الملك والملكوت. وهذا هو النائب الرحماني. …. الكون كله صورة القطب »¹⁸ . الانسان الكامل = صورة الكون والنائب عن الرحمن في التشريع والحكم.
فالاتحادية المتصوفة، سلموا بالبنية المفاهيمية اليونانية بأن « ما يلفظ به ويفكر فيه يجب ان يكون موجودا» كما عند ابن العربي في الفصوص ومن تابعه من المتصوفة مثل ابن سبعين والقينوي وامثالهم، اذ يقولون ان الوجود واحد، «الاله المطلق لا يسعه شيء فهو عين الاشياء وعين نفسه»¹⁹. و يقولون: «الحقائق تتبع العقائد»²⁰ اي ان ما تفكر فيه وتعتقده هو الحقيقي الموجود «فجعلوا الحقائق الثابتة تتبع الكشف والاعتقاد والقول»²¹ فخلطوا ما في الاذهان بما في الاعيان مقتدين في ذلك بفلاسفة اليونان.
وعلى أي حال، فإنطلاقا من هذه الأرضية سيتشكل لنا مفهوم جديد للولي الصالح، مخالف لمفهومه في القرآن والسنة الذي يعني المؤمن التقي ولا شيء غير هذا. أما المفهوم الجديد للولي فهو الانسان الكامل المتشبه بالإله. فهكذا تتحقق إنسانية الإنسان الكاملة، بالاندماج مع العقل الإلهي والتوحد معه، حتى يصبح الانسان العاقل هو المشرع الفاعل في الوجود، فتبنى له الأضرحة ويستغاث به.
3- من “عاقل” … الى ” إله “
أما في عصر الحداثة نجد أن ديكارت حاول أن يبرهن على وجوده، وهذا هو الهذيان والله المستعان، فبرهن على ذلك بالعقل؛ في قولته الشهيرة «انا افكر اذن انا موجود» ²²
لماذا قال هذا ؟
لأن ال” logos ” اليوناني فيه هذه الثنائية ملتصقة تتضمن بعضها بعضا، فهذه البنية المفاهيمية الفوقية كان لها سطو على عقول الفلاسفة وطريقة تفكيرهم حتى ولو لم يستخدموا نفس المصطلحات الا انهم يطوفون حول نفس المعاني. فهو عاد مرة أخرى ليثبت تعريف أرسطو بشكل اخر، ان مقوم الوجود الانساني هو العقل/الفكر. وسيشك في وجود الجسد والمادة؛ « إن الأكثر يقينًا هو شكنا في وجود أي جسم، في حين أننا ندرك بالفعل أننا نفكر.»²³
ولما كانت المادة/ الجسد مشكوك فيه، سيقول ديكارت أن العقل ” اعدل قسمة بين الناس”.²⁴
هنا ستبدأ تظهر ملامح المساواة والإنسانوية… لكن الأمر لازال يحتاج الى دفعة أخرى. يحتاج دفعة من كانط.
إيمانيول كانط منطلقًا من نفس الذهنية اليونانية، سيحاول هذه المرة تأسيس استقلالية الإنسان عن الإله. هذه المرة، وبوقاحة كبيرة، كانط سيقلب الموضوع، سيقول للسابقين ليس الإله هو المركز الذي نسعى للوصول إليه. وانما الانسان هو المركز، لأنه كائن عاقل له إرادة، وهو الذي يصنع العالم في تمثله، لأنه إلهي من جهة المعقولية -في ذاته-، فهو الذي يصنع الوجود ولا يسعى لتعقله او التوحد معه، ومن هنا ستظهر أهم خاصية للفكر الحداثي، وهي إخضاع العالم للذات.
وهكذا سيؤسس كانط الأخلاق على العقل، اي يفصلها عن الدين والإله. ولما كان العقل هو الخاصية الجوهرية والمشتركة عند الانسان؛ سيحول كانط الأمر المطلق (( الواجب)) الى قانون عالمي للإنسانية : «افعل على نحو تعامل معه الإنسانية في شخصك كما في شخص غيرك، كغاية دائما وفي نفس الوقت، لا كمجرد وسيلة البتة. » ²⁵
وهكذا أسس كانط للإنسانية المشتركة وللعالمانية، بحيث تصبح إرادة الإنسانية العاقلة هي المشرعة للقوانين الأخلاقية. « ينبغي للكائن العاقل ان يعتبر نفسه على الدوام كمشرع. »²⁶
الان لن نبني اضرحة للأولياء، بل سنبني الدولة الحديثة.
هذه النظرية الأخلاقية هي الأساس الفلسفي للقانون الدولي الحديث, حيث أصبح الانسان « غير مطيع الا للقوانين التي يقيمها بذاته» ²⁷
لكن هذه الإرادة الأنسانوية تحتاج الى خاصية جوهرية لا بد من توفرها في الذات الانسان حتى لا تتصادم مع قانون الطبيعة الحتمي الظاهر، هذه الخاصية؛ هي الحرية التي أسس لها كانط في نقد العقل المحض²⁸ بفصله بين العالم الظاهر الذي يجري فيه القانون الطبيعي الحتمي، وبين العالم المعقول الذي لا يخضع للقانون الطبيعي، فالانسان في ذاته جزء من العالم المعقول وهو حر من هذا الجزء، وهذه الحرية تجعله يفعل في العالم المحسوس بإرادة غير خاضعة للقانون الطبيعي ( حتى لو كانت متوافقة معه في الظاهر).
يقول كانط « الانسان من حيث هو عاقل يشكل جزءا من العالم المعقول فليس في مستطاعه ان يتصور علية ارادته الخاصة الا في ظل فكرة الحرية، ذلك لأن الإستقلال عن العلل المحددة للعالم المحسوس هو الحرية.»²⁹
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، لقد فتح كانط أبواب الشر على العالم بنتائج فلسفته؛ الانسان هو المشرع، فكره وعقله هو الذي يحكم على الواقع المادي ويصنعه ويخضعه له.
وقد جاء فيشته من بعد كانط « وقضى على وجود الاشياء في ذاتها، وقال إن الوجود هو من وضع الأنا» ³⁰
لقد كان الصوفية يحاولون التخلص من الجسد ليكن الروح والعقل حرًا طليقًا، لكن في الحداثة يريدون إعادة تشكيل الجسد بما يوافق أفكارهم وعقولهم الفاسدة. فمنذ كانط بدأت تأخذ هذه الافكار محمل الجد، حيث سنرصد « تأليها للإنسان بطيئًا ومحتوما»³¹ ، يصل إلى الذروة مع نيتشه في مفهوم إرادة القوة، الذي تنبأ بالإنسان المستقبلي « محرر الإرادة الذي سيعيد للعالم غايته وللانسان أمله، هذا المسيح الدجال الذي يقف ضد العدمية، هازم الرب والعدم. »³²
هذا التنظير الفلسفي سيكون أساس متين لمجموعة من إديولوجيات ما بعد الحداثة « عصر الانسان_ الإله» بتعبير لوك فيري ³³، ونخص بالذكر أحط هذه الاديواوجيات وهي اللواطية، فقد إنطلقت من الاساس الفلسفي الكانطي -العقل هو المشرع للأخلاق والإرادة هي التي تصنع الظاهر المحسوس- فقالوا أن جسدنا وجنسنا البيولوجي الواقعي تابع لذهننا وفكرنا وما نتصوره حول النوع أو ” الجنوسة gender”
ولسان حالهم : أنا المشرع لجسدي، انا الانسان العاقل دائما على حق، فاذا قلت انا إمرأة فلا تعترض بأنا جسدي جسد رجل، فالواقع المادي يخضع للذات وليس العكس.
ونفسه الأمر ينطبق على غيرها من زبالات أفكار ما بعد الحداثة.
خاتمة:
لم يعد الانسان الحديث يشرك بالله، بل جعل نفسه هو الإله. وهذه هي ميتافيزيقا ما بعد الحداثة، وكل ما أفرزته من إديولوجيات -كالنسوية، والانسانوية، واللواطية، والغلمانية …- لها مسوغ فلسفي ضارب في القدم.
وهكذا سقط الانسان الحديث في العدمية، وما يسمى بالإغتراب، اذ يجد نفسه غريبا في هذا الوجود بدون غاية، فكره منفصل عن جسده، لا شيء يجري وفق هواه، وهو يحسب نفسه إلهًا!
هذه الطوام كلها جرها علينا فلاسفة اليونان، وكبيرهم أرسطو الذي عرف الإنسان بأنه “حيوان عاقل”.


¹- الفلسفة في العصر التراجيدي عند الاغريق ويليه مستقبل مؤسستنا التعليمية، فريدريك نيتشه، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق-المغرب، ص 24
²-Fragments, Heraclite, traduction, introdution, notes et bibliographie par Jean-François Pradeau, GF Flammarion. P 148
³- قصيدة براميند ضمن: مدخل الى الميتافيزيقا، ا.د. امام عبد الفتاح امام،نهضة مصر للطباعة والنشر، ط1، ص 96
⁴-المصدر السابق.
⁵- تاسوعات أفلوطين، نقله إلى العربية عن الأصل اليوناني: فريد جبر، مراجعة: جيرار جهامي، سميح دغيم، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، ج1، ص59
⁶-الفلسفة في العصر التراجيدي عند الاغريق ويليه مستقبل مؤسستنا التعليمية، فريدريك نيتشه، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق-المغرب، ص 26
⁷- معجم الفلاسفة، جروح طرابشي، ص 314
⁸- الرسالة القشيرية، للإمام ابو القاسم القشيري، النيسابوري الشافعي المتوفى سنة ٤٦٥ هجرية، تحقيق العارف بالله الامام عبد الحليم محمود، والدكتور محمود بن الشريف، مطابع مؤسسة دار الشعب- للصحافة والطباعة والنشر، ص 512
⁹-الحدود لجابر بن حيان، ضمن كتاب: المصطلح الفلسفي عند العرب، عبد الامير الاعسم، ص 171.
¹⁰-رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، القسم الرياضي، مركز النشر: مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى،ج1، ص290
¹¹- رسائل الكندي الفلسفية، حققها وأخرجها مع مقدمة تحليلية لكل منها وتصدير واف عن الكندي وفلسفته: محمد أبو ريدة، مطبعة الاعتماد بمصر ١٣٦٩ه‍، ج١، ص٢٧٤
¹²- افلوطين عند العرب- نصوص حققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، دراسات اسلامية -20-، مكتبة النهضة المصرية، ص 21
¹³- الرسالة القشيرية، ص 18
¹⁴- الرسالة القشيرية، ص 20
¹⁵-نظرية الانسان الكامل عند المسلمين، تأليف: هانز هينريش شيدر، *ضمن الانسان الكامل في الاسلام، دراسات ونصوص غير منشورة، ألف بينها وترجمها وحققها: الدكتور عبد الرحمن بدوي، الطبعة الثانية، الناشر : وكالة المطبوعات. ص 68
¹⁶- حلية الابدال، بن عربي، ص 9
¹⁷- كتاب مراتب الوجود، ابو المعالي محمد بن إسحق بن محمد القونوي، المتوفي سنة ٦٧١ه‍، ضمن: الانسان الكامل في الاسلام، الدكتور عبد الرحمن بدوي، ص147
¹⁸-المواقف الإلهية، ابن قضيب البان، ضمن: المصدر السابق، ص 189

¹⁹- فصوص الحكم، محي الدين ابن العربي، شرح : الشيخ عبد الرزاق القاشاني، آفاق للنشر والتوزيع، ط1، ص 226 .
²⁰- مجموع الفتاوى، ابن تيمية، اعتنى بها وخرج احاديثها: عامر الجزار- انور الباز، الجزء الثاني، ص 65 .
²¹- المصدر السابق، ص66 .
²²- مبادئ الفلسفة، رينيه ديكارت، ترجمة : د. نداء عادل، إبداع، الطبعة الاولى، سبتمبر 2019، ص 53.
²³- المصدر السابق، ص 54.
²⁴- مقال عن المنهج، رينيه ديكارت، ترجمة محمود الخضيرى، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص 69.
²⁵- أسس ميتافيزيقا الأخلاق ضمن : مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة متبوع بأسس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانيول كانط، ترجمة : نازلي إسماعيل حسين و محمد فتحي الشنيطي، تقديم : عمر مهيبل، موفم للنشر، ص 281.
²⁶- المصدر نفسه، ص 288
²⁷- المصدر نفسه، ص 291
²⁸- نقد العقل المحض، كانط، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، ص 274
²⁹-أسس ميتافيزيقا الأخلاق، السابق، ص321
³⁰- موسوعة الفلسفة، الدكتور عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984، الجزء الثاني، ص 627
³¹- الانسان المؤله أو معنى الحياة، لوك فيري، ترجمة : محمد هشام، أفريقيا الشرق، ص 44
³²- جينالوجيا الأخلاق، فريدريك نيتشه، ترجمة وتقديم: محمد الناجي، أفريقيا الشرق، ص 83
³³- الانسان المؤله أو معنى الحياة، لوك فيري، ترجمة : محمد هشام، أفريقيا الشرق، ص 44

محسن بوعكاز

طالب فلسفة وعلم شرعي، مهتم بالعقيدة والقضايا الفلسفية والفكرية المعاصرة.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button