الإلحادالعلم التجريبي وفلسفته

معايير التطوريين في قبول التفسير واختيار النظريات

في العلوم الطبيعية التاريخية historical natural science، مثل نظرية التطور، يوجد ما يُعرف بالشرح السردي. هذا النوع من الشرح يعتمد على بناء قصص سببية متناسقة ومستمرّة، حيث تتعاقب سلسلة من الأحداث بطريقة متماسكة ومنطقية لتفسير الظواهر.
لكن المشكلة الرئيسية في هذه الطريقة هي أنها تركّز على تكوين قصة متناسقة، مع التقليل من أهمية التحقق التجريبي من صحتها. غالبًا ما تُبتكر الأحداث في هذا النوع من التفسيرات لتكوين سرد متماسك، مما يقلل من الحاجة إلى تبريرها تجريبيًا.
هذه التفسيرات تُعدّ مجرد إمكانيات ذهنية تُستخدم لتفسير ظواهر من الماضي البعيد. وبالنظر إلى أن الأحداث في هذا النوع من السلاسل الزمنية تفصل بينها فترات طويلة، فإن الروابط السببية تصبح هشّة للغاية. فكل رابط في السلسلة يمثل نقطة محتملة للتدخل السببي، ومع طول الفترة الزمنية، تزداد احتمالية وجود عوامل غير معروفة أو غير مأخوذة في الحسبان قد أثرت في تطور الظاهرة.
وبما أن هذه التفسيرات تعتمد فقط على التفكير الذهني، يمكن دائمًا افتراض وجود عوامل لم تُأخذ بعين الاعتبار في الماضي أو اختراع أسباب غير مشاهدة تجعل القصة تبدو متماسكة.
هناك أيضًا تفسير يُعرف بـالتفسير بالسبب المشترك common cause explanation، والذي يهدف إلى تطوير طرق استنتاجية موثوقة يتكون العظم النخاعي من طبقة مميزة غنية بالكالسيوم تتطور في العظام الطويلة لأنثى الطيور المعاصرة أثناء عملية وضع البيض، حيث تُوفر مصدرًا سهل الوصول إليه من الكالسيوم لبناء قشر البيض. اكتشفت Shweitzer وطالبها المتخرج طبقة مماثلة في عظمة ساق التَيْرَانُوْصُور  T. Rex، مما دفعهما إلى استنتاج أن هذه العظمة تعود لأنثى.
هنا، بما أن الخاصية موجودة في كلا الحالتين، تم استنتاج أن لهما نفس السبب؛ أي أن الشكل المميز للعظمة يعود لكونها عظمة أنثى.
في هذه الحالة، اعتمد الاستنتاج على المعتقدات السابقة background beliefs تتعلق بـالعلاقات الفيلوجينية phylogenetic relationship بين الطيور الحديثة والديناصورات. وبالتالي، لم يكن الهدف صياغة قصة سببية عن سلسلة التطور التي أدت إلى هذه الظاهرة، بل التحقق من صحة الاستدلال بناءً على الأسباب المشتركة. ينص مبدأ السبب المشترك على أنه من الأفضل تفسير المصادفات غير المحتملة (مثل التشابهات أو الارتباطات بين الأحداث أو الحالات) من خلال وجود سبب مشترك. هذا النوع من التفسير يُعد شكلاً من الاستنتاجات الاستقرائية.
وفقًا لهذا المبدأ، فإن احتمال أن يكون شيئين متشابهين قد نشآ من أسباب مختلفة وبمحض الصدفة هو احتمال ضئيل جدًا، مما يجعل الارتباط السببي بين الآثار هو الأصل.
يقوم مبدأ السبب المشترك على ادعاء ميتافيزيقي ظاهري حول البنية الزمنية للعلاقات السببية في كوننا، حيث يُعتقد أن معظم الأحداث لها تأثيرات متعددة تُشكل شوكات سببية تمتد من الماضي إلى المستقبل. ومع ذلك، هذا الادعاء ليس مطلقًا، بل يعتمد على المعتقدات الخلفية background beliefs. إن احتمال أن تكون الآثار ناتجة عن أسباب منفصلة يعتمد على مدى قبولنا لمعتقداتنا الخلفية. هذه المعتقدات ليست بالضرورة صحيحة دائمًا، حيث يمكن أن تتغير مع تطور العلم أو مع تغير عاداتنا الحسية.
بناءً على ذلك، قد نخطئ في اعتقادنا بأن ارتباطًا معينًا بين الآثار أمر بعيد الاحتمال للغاية، مما قد يؤدي إلى استنتاج خاطئ بأن هذا الارتباط ناتج عن سبب مشترك، في حين أنه قد يكون مجرد spurious correlation (ارتباط وهمي).
التحدي الرئيسي هنا هو تحديد متى يكون الارتباط الذي يبدو غير محتمل حقًا غير محتمل. بمعنى آخر، مدى احتمالية صحة افتراضنا للسبب المشترك وصحة تفسيرنا، أو أن النتيجة التي حصلنا عليها كانت مجرد مصادفة. تُعزى قوة مبدأ السبب المشترك إلى كونه يجعل الارتباطات المحيرة تبدو أكثر معقولية وذات مصداقية. لكن هذه القوة تظل ذهنية ومعرفية فقط وليست دليلًا وجوديًا.
بمعنى آخر، التفسير المشترك يُستخدم لترجيح أحد التفسيرين الممكنين ذهنيًا بناءً على معارفنا الحسية. ولكن هذا الترجيح يعتمد على معتقداتنا المحدودة التي نشأت من خبراتنا الحسية السابقة.
عندما لاحظنا أن العظام النخاعية الغنية بالكالسيوم موجودة لدى إناث الطيور، استنتجنا أن هذه الخاصية ترتبط بإناث الطيور. باستخدام نظرية التطور التي تقول بأن الطيور تنحدر من الديناصورات، ربطنا هذه المعلومة بتفسير أن عظمة T. Rex المكتشفة تعود لأنثى.
هذا التفسير مبني على تصورات ذهنية مستمدة من عاداتنا الحسية. لو كانت لدينا تصورات مختلفة، فقد نقترح تفسيرًا مختلفًا. هنا يأتي دور مبدأ السبب المشترك لترجيح تفسير على آخر.
لإثبات أن التفسير المشترك أفضل من التفسير الصدفي، يجب إثبات أن احتمال ضعف التفسير المشترك ضئيل جدًا. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التجربة العملية. الاعتماد فقط على المعتقدات الخلفية أو الشروط الذهنية السابقة قد يؤدي إلى استنتاجات غير مؤكدة. كما يشير Elliot Sober، هناك أحيانًا أسباب منفصلة separate causes تُنتج نفس الآثار، مثل حالة تطور الأجنحة لدى الخفافيش، الطيور، والحشرات. هذه الكائنات تمتلك أجنحة لكنها لم ترثها من سلف مشترك، بل طورتها بشكل مستقل.
بدون تجارب داعمة، تعتمد التفسيرات في العلوم الطبيعية التاريخية على background beliefs والتصورات الذهنية. الافتراضات المسبقة بشأن السببية المشتركة أو المنفصلة تُبنى على هذه المعتقدات. لذلك، ترجيح تفسير على آخر هو عملية معرفية وأداتية وليست دليلاً قاطعًا على صحة التفسير في الواقع.
يعني كما ترى، هذا المبدأ هو فقط مبدأ تفسيري معرفي وأداتي لا أكثر، وليس مبدأ أنطولوجي يمكن من خلاله تحديد صحة التفسير واقعياً.
إن عزو أوجه التشابه والارتباطات المحيرة بين الظواهر إلى سبب مشترك يمتلك قوة تفسيرية كبيرة، لأنه يجعل حدوثها المشترك أمرًا ذا مصداقية. لكن هذه القوة تفسيرية فقط من الناحية الذهنية وليست الوجودية. أي أن هذا المبدأ يتيح ترجيحًا بين تفسيرين كلاهما ممكن ذهنيًا، وليس وجوديًا. نعني بالترجيح الذهني المعرفي أنه، بناءً على معارفنا التي تم تصورها ذهنيًا من خلال عاداتنا الحسية، يعطي التفسير المشترك أولوية على التفسير الآخر الذي هو بدوره ممكن ذهنيًا فقط.
ومع ذلك، فإن هذا كله يعتمد على تصوراتنا، التي تم تكوينها استنادًا إلى معارفنا الحسية المحدودة، والتي من خلالها تصورنا الاحتمالات الممكنة ذهنيًا لعدة تفسيرات.
حسب عاداتنا الحسية، نجد أن العظام النخاعية الغنية بالكالسيوم في العظام الطويلة تُلاحظ فقط في إناث الطيور. إذن، وفقًا لتصورنا المستخلص من عاداتنا الحسية، فقط إناث الطيور تمتلك هذه الخاصية.
عندما نضيف إلى ذلك نظرية التطور، التي تفترض أن الطيور تنحدر من الديناصورات، ينتج لدينا تفسير ذهني يقول إن هذه الخاصية المكتشفة في عظمة T. Rex تشير إلى أنها تعود لأنثى. لكن هذا يبقى تفسيرًا ذهنيًا فقط. تخيل وجود تفسير آخر يعتمد على تصورات مختلفة. في هذه الحالة، يأتي دور مبدأ السبب المشترك لترجيح تفسير على الآخر. لكن هذا الترجيح معرفي وأداتي فقط، لأن هذا المبدأ (التفسير المشترك) ليس صحيحًا بذاته، بل مشروط بعوامل معينة كما نبهنا سابقًا. إذا أردت أن تثبت أن التفسير المشترك أفضل من التفسير الصدفي، عليك أن تُظهر أن احتمال ضعف التفسير المشترك ضئيل جدًا. وهذا لا يمكن إثباته إلا عبر التجربة. أما إذا أردت أن تبرهن على ذلك ذهنيًا، فهذا يعني أنك ستعتمد على شروط سابقة غير يقينية.
يشير Eliot Sober إلى وجود تفسيرات أخرى غير التفسير المشترك أو التفسير الصدفي، مثل السببية المنفصلة (separate causes). أي أن أسبابًا غير مشتركة قد تُنتج نفس الآثار. التطور يقدم أمثلة جيدة على ذلك:
الخفافيش، الطيور، والحشرات كلها تمتلك أجنحة. لكنها لم ترثها من سلف مشترك بأجنحة، بل طورت الأجنحة بشكل منفصل.
في غياب التجارب، تكون الترجيحات معتمدة على مسلمات سابقة وتلاعبات ذهنية لدعم النظرية المرغوبة. وبالتالي، لا توجد طريقة للتأكد من صحة هذه التفسيرات تجريبيًا.

الاستنتاج:

السببية المشتركة تُفتَرض مسبقًا، ويتم البناء عليها باستخدام معتقدات خلفية، السببية المنفصلة أيضًا تعتمد على معتقدات خلفية، إذا أثبتت الأولى نظريتك، ستقول إنها صحيحة، لأن ذلك يعد تأكيدًا للفرضية. لكن هذا يعني أنك تثبت المعتقدات السابقة باستخدام هذه الاستنتاجات الذهنية، مما يوضح كيف يدور هذا النوع من الإثبات في حلقة مغلقة.

عبد القادر سبسبي

طالب علم، مهتم بالقضايا المعاصرة في فلسفة العلم و الإبستمولوجيا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى