فلسفة العلوم

لماذا تحظى الـ Big Bang بالقبول و الشعبية: الجزء الثاني والأخير

علاقة البرادايم بعلم اجتماع العلوم

الروابط المفاهيمية themata بين علم كونيات الانفجار الكبير ومختلف السياقات الثقافية والعلمية والفلسفية، مع تسليط الضوء على التفاعل بين العناصر المواضيعية المختلفة وتأثيرها على قبول وفهم النظريات الكونية.
لا بد الاعتراف بأن القدرة على تعبئة الثيماتا (الموضوعات أو الأطر المفاهيمية) في علم الكون لا ترجع فقط إلى استمرارها ونجاحها التاريخي، على الرغم من وجود موضوعات متعارضة، إلا أن بعض المواضيع تهيمن حاليًا بسبب عوامل تتجاوز قدمها أو استمرارها. وتشمل هذه العوامل التقاطع التاريخي والثقافي، مما يعني وجودها عبر العصور والسياقات الثقافية المختلفة.
مثل الانتواع differentiation والتنميط التنظيري unification، ليس فقط في علم الكونيات ولكن أيضًا في المجالات العلمية والثقافية الأخرى. هذه المواضيع مترابطة وتلعب أدوارًا حاسمة في فهم الظواهر عبر مختلف التخصصات، بما في ذلك الفيزياء والبيولوجيا والفن، و كثيرا ما نجد نزعة لإستخدام كلا القيم معًا لفهم ظاهرة معينة.
في فيزياء الطاقة العالية، تُجبر الجسيمات على الاصطدام ببعضها البعض لتتفكك، ويتم توضيح منطق الانتواع هذا من خلال البحث عن وحدة تكمن وراء التنوع للجسيمات والتفاعلات المرصودة. في علم الأحياء، هذا الحضور التكميلي والمفصل للانتواع والتماثلية واضح أيضًا بشكل خاص.

في الواقع، فإن المنطق الانتواعي، الموجود في التصور الذي يقدمه علم الكونيات في الانفجار الكبير حول تطور الكون، أساسي أيضًا لفهم تطور الحياة، مع ظهور عدة أنواع من سلف مشترك واحد، في نفس الوقت الذي ظهرت فيه الكائنات الحية، يسعى الموضوع المنهجي للتنميط التنظيري والموضوع المفاهيمي للانتواع إلى البحث عن وحدة تكمن وراء كل التنوع البيولوجي – على سبيل المثال، وحدة من وجهة النظر الجينية أو من وجهة نظر الكيمياء الحيوية.

دور موضوع الخلق في علم الكون وعلاقته بالمعتقدات الدينية

على الرغم من أن فكرة الخلق ترتبط تقليديًا بدلالات دينية، إلا أنها حاضرة أيضًا في المناقشات العلمية، وإن كان بتفسيرات مختلفة فالمتدين النصراني يؤمن بالخلق من عدم ex-nihilo والمتدين المسلم يؤمن بقدرة الله على ذلك ولو كان قد خلق العالم بالاستحالة من مادة سابقة و أما الملحد فيؤمن بضرورية الخلق بصورة واحدة فقط وهي أن يكون الكون كأثر من مادة سابقة فقط ex-materia، ويناقش كيف يمكن للنظريات العلمية مثل الانفجار الكبير أن تتماشى مع وجهات النظر الدينية حول الخلق أو تتحداها.

الفرق الجوهري بين العلم الحديث و الخلقويون في تفسير البيغ بانغ، هو أن الأول يعتقد أنها ظاهرة طبعانية، لها بداية فيزيائية يمكن اكتشافها و فهمها من خلال المنهجية العلمية، بعكس الثاني الذي يعتقد أنها معجزة supernatural. و قد ظهر ما يعرف اليوم بعلم لاهوت البيغ بانغ big bang theology.

ولا بد الإشارة هنا إلى تسليم الخلقويين لمسلمة دهرية، طرد القياس، أي امتداد قدراتنا المعرفية على فهم ما حصل قبل مليارات السنين قياسا على عادتنا الحسية، و بهذا ترى علموية بعض الخلقويين حيث أنهم يريدون إثبات حدوث الكون عن طريق العلم الحديث.
مما يشير إلى أن التوافق بين الروايات الكونية والمذاهب الدينية يمكن أن يؤثر على قبول ونشر الأفكار العلمية، مما يساهم في التقارب بين العلم والدين.
و قد تكلمنا سابقا في قيمة دورة الحياة life cycle (بداية ثم تطور ثم نهاية)، هذه أيضا تتماشى مع المنظور الديني في عدم أزلية الكون.
وهكذا على الرغم من أن العلم المعاصر يعتمد على فكرة الطبيعة المكتفية ذاتيا، بينما يدعو الدين إلى العكس، فإن كل منهما يرى نظرية الإنفجار الكبير بطريقته الخاصة التي تؤكد نظرتهم للوجود.
موضوع التطور، الموجود في علم الكونيات وكذلك علم الأحياء والتخصصات العلمية الأخرى، يعزز سرد التطور الكوني والبيولوجي.

يعتبر التطور بمثابة موضوع موحد عبر مختلف المجالات العلمية، مما يساهم في فهم متماسك لتاريخ الكون، هذه السردية التطورية في العالم الحيوي و الكوني يتقدم دائمًا من الوحدة البسيطة والمبدئية نحو زيادة التنوع والتعقيد. وبالتالي فإن موضوع التطور يسمح لعلم الكونيات وعلم الأحياء بتعزيز بعضهما البعض، وبناء سرد عالمي ومتماسك حول الكون. بالإضافة الى أن مفهوم التطور يدخل فيه مفهوم دورة الحياة مما يخلق نظرة متكاملة و كلية للكون اعتمادا على العلم الحديث.
و قد نشأة ديانات جديد تعتمد على هذه التفاسير الحديثة، و هي ديانات طبعانية religious naturalism و تسمى ملحمة التطور epic of evolution.
كما يتبين للقارئ فإن مفهوم التطور حاضر و بقوة في أدبيات العلم الحديث و الدين مما يعزز من بقاء النظرية ضد خصومها.
و لا بد أن ننبه الى أن هذا المفهوم الذي بسطنا الكلام عليه، يخالف سردية الخلق المباشر لإله حكيم يخلق الكائن بصورة مناسبة للغرض الذي خلق لأجله منذ أول يوم دون أي نقص وتطوير لاحق، بل سيكون متكيفًا ومناسبًا للعيش في جميع البئات وأداء كل الوظائف التي خلق لأجلها في العالم وكذلك الكون أيضا. لأننا نؤمن أن الكون تم خلقه في ستة أيام (لا انه تطور في ستة أيام) و أما هم فيعتقدون بوجود بالمتفردة singularity شديدة الكثافة فتمددت، و أن الكون كان يوما جزءً واحدًا عند نشأته ثم تطور وفق ثوابت فيزيائية معينة وجهت سير تلك العملية، أي كعملية فيزيائية متصلة.
موضوع التغيير مهم في الخطاب العلمي المعاصر والسياقات الثقافية، والتطور هو فرع عن مبدأ التغير. يعكس التغير مدى تعقيد الكون والتحولات السريعة التي لوحظت في مختلف مجالات النشاط البشري، التكنولوجيا، و المعلومات big data. نرى توافق مفاهيمي بين الواقع و نظرية الإنفجار الكبير في مفهوم التغير السريع.
علاوة على هذا، فإن مفهوم دورة الحياة life cycle يقول أن في جميع عمليات التحول، لا شيء يضيع، ولا يتم إنشاء أي شيء، من وجهة نظر مادية وحيوية. يتم ملاحظة هذه الخاصية الطبيعية في أي مجال علمي، من الفيزياء إلى الكيمياء، إلى الجيولوجيا، إلى علم الأحياء. ولذلك، فإن افتراض ثبات كل كتلة/طاقة الكون طوال تاريخه، كما دعا إليه علم الكونيات الانفجار الكبير، هو المعادل الكوني لثبات الكتلة/الطاقة الذي يتم ملاحظته في أي علم آخر. مما يجعل النظرية محببة أكثر من خصومها.
و في الختام يوجد مفهوم الفوضى الذي أصبح مركزيا في العصر الحديث وخاصة في الفن وإن نظرية الإنفجار الكبير تدعو إلى نشأة الكون المتفجرة التي تتميز على وجه التحديد بالعنف والفوضى، وهذا يتماشى مع المسلمة الكوبرنيكية ومبدأ الوضاعة الكوني بشكل عام، الذي ينص على أن ليس لوجود الإنسان أو الكائنات الحية غاية خاصة أو مكان وجودي متميز في الكون.

ويوفر هذا المقطع استكشافًا دقيقًا لكيفية تشكيل العناصر المفاهيمية للنظريات العلمية مثل علم الكونيات الخاص بالانفجار الكبير واستقبالها ضمن سياقات ثقافية وفكرية أوسع، ويؤكد على الترابط بين الأفكار العلمية والموضوعات الثقافية والعلاقة الديناميكية بين العلم والمجتمع. و ربما يكون من الأسهل قبول الأفكار التي تشكل موضوعاتها الرئيسية جزءا من مجموعة المواضيع السائدة في السياق التاريخي و الثقافي و الدفاع عنها.

الجوانب الشخصية المختلفة في العلماء التي تساهم في القبول والانبهار بعلم كونيات الانفجار الكبير.
إن مفهوم الانفجار الكبير، بصورته للانفجار الهائل الذي يمثل ولادة الكون، يأسر الخيال كحدث ملحمي، لقد كان البشر منذ فترة طويلة مفتونين بمسائل الأصول، وفكرة أن مثل هذا الكون المعقد والمنظم نشأ من بداية بسيطة وفوضوية هي فكرة مذهلة و جذابة.
إن الوجود لمفهوم الدائرية في علم كونيات الانفجار الكبير، على الرغم من أهميتها المتضائلة في الثقافة المعاصرة، يزيد من سحرها. تثير فكرة الدائرية إحساسًا بالتماثل والاكتمال و الإمتداد نحو جميع الجهات بنسب متطابقة ، وهو ما يتوافق مع الطبيعة المتفجرة لنشأة الكون.
ان الشعبية الواسعة للكتب والصور والرسوم المتحركة والأشكال المختلفة من الوسائط التي تصور الانفجار الكبير تعكس جاذبيتها للثقافة المعاصرة، حتى خارج السياقات العلمية، يُستخدم مصطلح “الانفجار الكبير” لقوته المجازية والمثيرة، مما يزيد من ترسيخه في الخيال الجماعي.
بالنسبة لبعض الأفراد، وخاصة أولئك الذين ابتعدوا عن الروايات الدينية الحرفية مثل سفر التكوين، فإن علم الكونيات الانفجار الكبير يملأ الفراغ المفاهيمي من خلال تقديم سرد علمي للخلق، ويتناول الأسئلة الوجودية حول أصول ومعنى الكون بطريقة موثوقة (على حد زعمهم).
وهذا الإعتماد على العلم التجريبي في الإحابة على أمور غيبية أو “ميتافيزيقية” داخل في ثقافة العلموية المتصدرة في عصرنا، علاوة على هذا إذا كان علم الكونيات الخاص بالانفجار الكبير يقترح إجابات حول متى وكيف بدأ الكون، فإنه يترك أيضًا مساحة لأسئلة حول سبب بدء الكون، وهي أسئلة تحفز الخيال وتسمح بمجموعة متنوعة من الاستجابات التي يمكن أن تكون شخصية للغاية، وتتناسب مع العلم الحديث. و بهذه الطريقة كل شخص يكمل قصة الخلق على طريقته الخاصة. و مثل هذا التفكير جذاب في عصر المابعد حداثي الذي يحث على الفردانية و نسبية الآراء و أن المعتقدات الشخصية “الدينية” و الآراء في الأجوبة على الأسئلة الوجودية، نسبية.
يقدم علم الكونيات الانفجار الكبير سردًا شاملاً ليس فقط عن أصل الكون ولكن أيضًا عن تطوره. ينجذب البشر بشكل طبيعي إلى القصص المتماسكة عن التقدم والتوسع، والتي توفر إحساسًا بالنظام والغرض للوجود. يقول لوميتر “يمكننا (…) أن نطمئن عندما ندرك أن الفضاء لا يزال يتوسع وبالتالي (…) أننا نعيش في زمن أقرب إلى البداية منه إلى نهاية العالم”.
إن فكرة العيش في وقت أقرب إلى البداية من نهاية الكون توفر الطمأنينة والشعور بالارتباط بالكون، أصلنا. إن رواية التطور تؤسس رابطًا عميقًا بين الأفراد والكون، مما يوفر إحساسًا عميقًا بالوحدة والاستمرارية. مما يعطيها جانبا روحانيا يجذب العديد من الذين يسمون أنفسهم روحانيين غير متدينين.
إن دورة حياة الكون، بمولده وشبابه وشيخوخته النهائية، تعكس التجارب البشرية وتثير الشعور بالألفة. إن الالتزام بالقوانين الفيزيائية المألوفة، مثل الحفاظ على الكتلة/الطاقة، يعزز إمكانية الارتباط بعلم كونيات الانفجار الكبير ويساهم في شعبيته.
وبشكل عام، فإن الجوانب الشخصية التي تمت مناقشتها تسلط الضوء على كيفية صدى علم الكونيات للانفجار الكبير مع المشاعر البشرية والمعتقدات والروايات الثقافية، مما يساهم في قبوله على نطاق واسع وسحره.
في الختام يكشف التحليل أن علم الكونيات الخاص بالانفجار الكبير منقوش بقوة في التقاليد الفكرية الناجحة عبر التاريخ. وهو يتماشى مع أنماط الفكر المعاصرة والسياقات التاريخية، مما يجعله ينسجم مع الأطر الفكرية للناس.
تساهم العناصر الموضوعية المحددة في التحليل في الانجذاب النفسي لفكرة الانفجار الكبير، داخل وخارج مجال علم الكونيات. تثير هذه العناصر الانبهار وتتردد مع المشاعر والمعتقدات الإنسانية.
في حين أن دراسة الحالة توفر رؤى قيمة، فإنها تعترف بتعقيد القضية والقيود المفروضة على التحليل المفاهيمي. لا يمكن للتحليل المفاهيمي أن يحدد المدى الدقيق لمساهمة موضوعات محددة في قبول فكرة علمية، خاصة عند النظر في مجموعة واسعة من وجهات النظر.
و لكن على الرغم من محدودياتها، تشير دراسة الحالة إلى أن المصفوفة المفاهيمية المرتبطة بعلم كونيات الانفجار الكبير تساهم في قبولها وشعبيتها على نطاق واسع. تشكل موضوعات مثل الانتواع والتماثلية والخلق والتطور والتدوير مصفوفة مميزة تتوافق مع كل من التقاليد التاريخية والسمات الموضوعية المعاصرة.

Abdulkader Sabsabi

طالب علم، مهتم بالقضايا المعاصرة في فلسفة العلم و الإبستمولوجيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى