يقول شيخ الإسلام إبن تيمية: ”لا يمكن إثبات الفلسفة أو نفيها إذ ليس للفلاسفة مذهب معين ينصرونه ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات ولا في الطبيعيات والرياضيات بل ولا في كثير من المنطق“.
[منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، ج١، ص١٧٥.]
هذا أحد أهم النصوص التي يُستشهد بها على ” عدم رفض ابن تيمية للفلسفة ” ومن ثَمَّ تصحيحه لأصل النظر الفلسفي.
وهذا النص منتزع السياق، وتم توجيهه لغير مراد إبن تيمية رحمه الله منه.
فلقد كان إبن تيمية قبل قوله هذا يتحدث عن مسألة قدم العالم عند الفلاسفة واختلافهم فيما يتعلق بها من مسائل كتسلسل الحوادث وقيام الصفات بذات الاله، وكذا ردهم على المتكلمين وغير ذلك.
ثم قال : « والمقصود هنا: أن كلتا الطائفتين التي قالت بقدم الأفلاك ملحدة، سواء قالت بقيام الصفات والأفعال بالرب أو لم تقل ذلك، فهؤلاء الفلاسفة مع كونهم متفاضلين في الخطأ والصواب في العلوم الإلاهية، إنما ردهم المتوجه لهم على البدع التي أحدثها من أحدثها من أهل الكلام. »
وفيه تفاضل الفلاسفة في الخطأ والصواب، فهم ليس على مذهب واحد أو على قول واحد. وهذا يمهد به إلى الحديث عن رد ابن رشد على الغزالي .
فقال: «وإن كان في كل من هؤلاء ( الفلاسفة) من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة، ولهم من الصواب والحكمة بحسب ما وافقوا فيه ذلك. »
فالمعيار في ما نثبته من اقوال الفلاسفة هو ” الكتاب والسنة ” لا الجدل معهم على أصلهم الفلسفي السفسطائي في النظر العقلي بدون شرط ولا قيد، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه المتكلمين.
ثم قال : « ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف ومسوغا للقولين، وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل. وقد رد على أبي حامد في ” تهافت التهافت ” ردا أخطأ في كثير منه، والصواب مع أبي حامد، وبعضه جعله من كلام ابن سينا لا من كلام سلفه، وجعل الخطأ فيه من ابن سينا، وبعضه استطال فيه على أبي حامد ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف؛ لكونه بناه على أصول كلامية فاسدة، مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة، وكون القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام.
وقد تكلمت على ذلك، وبينت تحقيق ما قاله أبوحامد في ذلك من الصواب الموافق لأصول الإسلام، وخطأ ما خالفه من كلام ابن رشد وغيره من الفلاسفة، وأن ما قالوه من الحق الموافق للكتاب والسنة لا يرد بل يقبل، وما قصر فيه أبو حامد من إفساد أقوالهم الفاسدة فيمكن رده بطريق أخرى يعان بها أبو حامد على قصده الصحيح، وإن كان هذا وأمثاله إنما استطالوا عليه بما وافقهم عليه من أصول فاسدة، وبما يوجد في كتبه من الكلام الموافق لأصولهم، وجعل هذا وأمثاله ينشدون فيه.»
ففي هذا النص مزيد تأكيد بأن الفلسفة ليس قول واحد أو مذهب واحد، وهذه كانت من اقوى مآخذ ابن رشد على الغزالي، لظنه أن كلام ابن سينا والفرابي هو عين كلام الفلاسفة ومذهبهم الوحيد. إذ ظن أن لهم قول واحد متفقين عليه في تلك المقالات الالهية التي كفرهم في بعضها وبدعهم في البعض الآخر.
والكلام هنا في المقالات لا في طريقة النظر. فلبعضهم اقوال صحيحة « ما قالوه من الحق الموافق للكتاب والسنة لا يرد بل يقبل.» ولهم اقوال فاسدة ترد عليهم.
لهذا قال في النهاية « لا يمكن إثبات الفلسفة أو نفيها إذ ليس للفلاسفة مذهب معين ينصرونه ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات ولا في الطبيعيات والرياضيات بل ولا في كثير من المنطق»
فمحل النفي والاثبات هو مقالاتهم في الالهيات والطبيعيات وغيرها، لا طريقة نظرهم وتأسيسهم للمعرفة !
وهذه الطريقة يستخدمها ابن تيمية حتى مع اهل الكلام، فيفرق بين مقالات أهل الكلام التي فيها صواب وخطأ ( صواب موافق للقرآن والسنة، وخطأ مخالف لهما. )
ولا يقول قائل يعرف ابن تيمية جيدا أن ابن تيمية صحح أصل الكلام وطريقة أهله في النظر !
ولا يقول هذا إلا من يريد انتزاع ابن تيمية من السلفية ونسبة أقواله للسلف. كما فعل عبد الحكيم أجهر لما وصفه بأنه « متكلم أكثر من المتكلمين، وفيلسوف أكثر من الفلاسفة.»
لهذا قال ابن تيمية بعد كلامه هذا حول الفلاسفة واختلاف مقالاتهم واختلاف الحكم عليها بالنفي والاثبات، قال : «وأما الكلام الذي يستدل به المتكلمون في الرد على هؤلاء وغيرهم فمنه صواب ومنه خطأ، ومنه ما يوافق الشرع والعقل ومنه ما يخالف ذلك. وبكل حال فهم أحذق في النظر والمناظرة والعلوم الكلية الصادقة وأعلم بالمعقولات المتعلقة بالإلهيات ، وأكثر صوابا وأسد قولا من هؤلاء المتفلسفة، والمتفلسفة في الطبيعيات والرياضيات أحذق ممن لم يعرفها كمعرفتهم، مع ما فيها من الخطأ.»
فمن قال أن ابن تيمية يصحح أصل التفلسف في النص السابق، يلزمه أن يقول أن ابن تيمية يصحح طريقة اهل الكلام في النظر، لا بل يفضل طريقة اهل الكلام في النظر بالالهيات على الفلاسفة إذ قال عنهم « فهم أحذق في النظر والمناظرة والعلوم الكلية الصادقة وأعلم بالمعقولات المتعلقة بالإلهيات ، وأكثر صوابا وأسد قولا من هؤلاء المتفلسفة»
واذا فُرق بين الكلام والفلسفة، بأن أصحاب الكلام أهل جدل وليس عندهم اتساق أو نسق يشد بعضه بعضًا، على عكس الفلسفة.
قلنا هذا يرده ابن تيمية عليكم.
إذ رد ابن تيمية على وصف الفلاسفة لأهل الكلام بأنهم أهل جدل فقال : « وهؤلاء المتكلمون من أهل الملل الذين بدعهم أهل السنة من أهل الملل كالجهمية والمعتزلة وما يفرع على هؤلاء من جميع طوائف الكلام، فان الفلاسفة تقول أن هؤلاء أهل جدل ليسوا أصحاب برهان، ويجعلون نفوسهم هم أصحاب البرهان ويسمون هؤلاء أهل الجدل ويجعلون أدلتهم من المقاييس الجدلية … ولهذا تجد ابن سينا وابن رشد وغيرهما من المتفلسفة يجعل هؤلاء “أهل الجدل” وأن مقدماتهم التي يحتجون بها جدلية ليست برهانية ويجعلون أنفسهم أصحاب البرهان.
ونحن لا ننازعهم أن كثيرا مما يتكلمه المتكلمون باطل، لكن إذا تكلم بالإنصاف والعدل، ونظر في كلام معلمهم الأول أرسطو وأمثاله في الإلهيات، وفي كلام من هم عند المسلمين من شر طوائف المتكلمين كالجهمية والمعتزلة مثلا، وجد بين ما يقوله هؤلاء المتفلسفة وبين ما يقوله هؤلاء من العلوم التي يقوم عليها البرهان العقلي من الفروق التي تبين فرط جهل أولئك بالنسبة إلى هؤلاء ما لا يمكن ضبطه، وهذا كلام أرسطو موجود وكلام هؤلاء موجود، فإن هؤلاء المتكلمين يتكلمون بالمقدمات البرهانية اليقينية أكثر من أولئك بكثير كثير وأرسطو أكثر ما يبني الأمور الإلهية على مقدمات سوفسطائية في غاية الفساد.» [ الرد على المنطقيين]
بل ونؤكد مرة أخرى، أن كثير من أساطين فلاسفة ما بعد الحداثة غير نسقيين اصلا، وينتقدون النسقية.. فهل فلاسفة ما بعد الحداثة ليسوا ” فلاسفة” ام هم من ” الأهل الكلام ” وأصحاب جدل “؟!
ومحل الشاهد، أن معنى الفلسفة لا يتضمن النسقية، كما لا يتمضن الالتزام بالمعقولات المحضة، بل هي إطلاق النظر بلا شرط ولا قيد ابتداءً وهذا ما يشترك فيه عامة الفلاسفة، بينما لا يتشركون في النسقية أو الالتزام بالمعقولات المحضة.
فليس استدلالنا بإتفاق الفلاسفة، وإنما الاستدلال بوجود مثال مضاد للعكس، فإذا قيل من خواص التفلسف النسقية، قلنا يوجد فلاسفة غير نسقيين.
بينما ما أعطي من أمثلة يُظن أنها تخالف ما خصصنا به النظر الفلسفي، نقول : هؤلاء أمثال ديكارت أو غيره حتى لو تقيدوا بأن يجعلوا فلسفتهم لنصرة مذهب أو دين معين، إلا أنه لا يمكن أن يحسب نفسه يتفلسف إلا إذا شك في كل شيء وأطلق النظر في كل شيء، وأسس لنفسهم ما يعتبره ضرورات للمعرفة، وزعم أنه بعد هذا تبين له أن الحق مع هذا المذهب أو ذاك.
وفي هذا يختلفون عن أهل الكلام، إذ أهل الكلام يضعون شرطًا لنظرهم وهو ” النظر على شرط الشرع” والنظر من أجل نصرة العقائد بالعقل ابتداءً.
أو كما قال الفرابي « صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء و التعبير المحدودة التي ((صرّح بها واضع الملة)) و تزييف ما خالفها بالأقاويل.»
فلا يكون المتكلم متكلما حتى يقصد ابتداءً بنظره العقلي نصرة مقالات معينة لمذهب أو ملة.
أما الفيلسوف فلا يشترط هذا على نفسه، وانما يقول أنني اسعى بالنظر إلى معرفة الحقائق كما هي، فيأسس لنفسه طريقة سفسطائية يحصر بها معنى الحقائق وكيفيتها ( كأن تكون كليات ثابتة لا تتغير) وكيفية العلم بها ( كوضعهم لعلم المنطق ) وحصر المبادئ الاولى التي يأسس عليها معرفته، وهو حصر بمحض التحكم ( كما فعل ديكارت في الكوجيطو).
لهذا فضل ابن تيمية طريقة اهل الكلام في النظر على طريقة الفلاسفة، لأنها حتى لو كان طريقة مبتدعة، إلا أنها تتقوى بالوحي بعكس طريقة الفلاسفة التي تستغني عنه ابتداءً، فيكون الوحي تابعًا لا متبوعًا.
ولهذا أيضا يعتبر ابن تيمية أن الفلاسفة في الاسلام اذكى وأحدق وأدق نظرًا من سلفهم الوثنيين. كقوله « وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبويات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم فإنه استفادها من المسلمين.» [ الرد على المنطقيين]
فإذا اتضح لك هذا، علمت أن مراد إبن تيمية بقوله لا يمكن نفي أو إثبات الفلسفة مطلقا، بأن المقصد مقالات الفلاسفة لا طريقتهم السفسطائية في النظر.
…
الصورة : غار حراء الذي أنزل فيه الوحي على نبينا ﷺ، والعبارة لإبن تيمية من الرد على المنطقيين، ويقصد بكلامه الفلاسفة.