أبحاث شرعية

الدرة الثمينة في عمل أهل المدينة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد خاض في مسألة “عمل أهل المدينة” بعض من ليس له قدم في العلم، فاجترأوا على الإنكار على مالك وأصحابه لتمسكهم به، حتى رموهم بموافقة طريقة أهل الرأي، وهم من ذلك براء!  وما زاد الأمر التباسًا أن وقع شيء من ذلك في مصنفات أعلام من أهل الأصول، فصار يُروى عن مالك أنه لا يعتدّ إلا بإجماع أهل المدينة، أو أنه لا يقبل من الأخبار إلا ما وافق عملهم، كما وقع في كلام غير واحد من الشافعية والحنفية، وقد اشتكى من ذلك القاضي عياض قائلا:

«وكثر تحريف المخالف فيما نقل عن مالك من ذلك سوى ما قدمناه، فحكى أبو بكر الصيرفي وأبو حامد الغزالي: أن مالكًا يقول لا يعتبر إلا بإجماع أهل المدينة دون غيره!! وهذا ما لا يقوله هو ولا أحد من أصحابه. وحكى بعض الأصوليين: أن مالكًا يرى إجماع الفقهاء السبعة بالمدينة إجماعًا، ووجه قوله بأنه لعله كانوا عنده أهل الاجتهاد في ذلك الوقت دون غيرهم!! وهذا ما لم يقله مالك ولا روي عنه، وحكى بعضهم عنا إنا لا نقبل من الأخبار إلا ما صححه عمل أهل المدينة، وهذا جهل أو كذب».

اهـ ترتيب المدارك وتقريب المسالك (١/‏٥٣). وفي هذا المقال نوجز القول في وجه حجية هذا الأصل عند مالك وأصحابه، على ضوء ما رُوي من نصوصهم، وما قرره المحققون من علمائهم، رجاء أن ينكشف به الغلط، ويُعرف به الحق، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

فصل في خصوصية المدينة

اعلم وفقك الله أن لمدينة رسول الله ﷺ خصوصية عن سائر بقاع الأرض، فإن معظم الأحكام إنما نزلت في المدينة، وكانت مجمع الصحابة رضي الله عنهم وموطن المهاجرين والأنصار، بل كان الخليفة عمر رضي الله عنه يمنعهم من الخروج عنها إلا بإذنه، ولهذا كان فيها من من العلماء والمفتين ما لم يوجد في غيرها. وأشهر هؤلاء: الراشدون الأربعة، وزيد بن ثابت، وعائشة، وابن عمر رضي الله عنهم. قال الفسوي في المعرفة والتاريخ (١/‏٤٨٦) حدثنا حميد بن الأسود عن مالك بن أنس قال: «كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت، وكان إمام الناس عندنا بعد زيد عبد الله بن عمر».

غير أن عليا انتقل للكوفة في مدة خلافته، وكان لقفهه أثر هناك؛ ولكن أثره في فقه أهل المدينة أعمق، ولهذا قال مسروق: «انتهى العلم إلى ثلاثة عالم بالمدينة وعالم بالشام وعالم بالعراق: فعالم المدينة علي بن أبي طالب وعالم الكوفة: عبد الله بن مسعود، وعالم الشام: أبو الدرداء». اهـ المعرفة والتاريخ – ت العمري – ط العراق (١/‏٤٤٤)

ومن بعدهم في طبقة كبار التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسليمان بن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وغيرهم؛ وهؤلاء جميعا من أبناء أو أحفاد الصحابة. ومن صغار التابعين: ابن شهاب الزهري، وقيل فيه: أنه أعلم رجل في طبقته. وصالح بن كيسان، ونافع، والقاضي أبو بكر بن حزم، ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم.

ثم ورث علوم هؤلاء من بعدهم أتباع التابعين، وأشهر أعلام هذه الطبقة: ابن أبي ذئب، والماجشون، وأجلهم: إمام دار الهجرة مالك بن أنس؛ ذكر علي بن المديني في العلل (ص‏٤٥) أعلام هذه الطبقات التي تقدم ذكرها، ثم ختم بقوله: «ثم لم يكن أحد أعلم بهؤلاء بمذهبهم من مالك بن أنس».
قال شيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (٢٠/‏٣٠٠):

«فأما الأعصار المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين، كما خرج من سائر الأمصار فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله ﷺ وخرج منها العلم والإيمان خمسة: البحران، والعراقان، والشامان، منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام.

وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية، فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها. والشام كان بها النصب والقدر. وأما التجهُّم فإنما ظهر من ناحية خراسان، وهو شر البدع، ولأن ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، وتقدم بعقوبتها الشيعة من الأصناف الثلاثة الغالية حيث حرّقهم عليُّ بالنار، والمفضّلة حيث تقدم جلدهم ثمانين، والسبائية حيث طلب أن يعاقب ابن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه، ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية في آخر عصر ابن عمر وابن عباس وجابر وأمثالهم من الصحابة وحدثت المرجئة قريبًا من ذلك.

وأما الجهمية؛ فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز، وقد روي أنه أنذر بهم، وكان ظهور جهم بخراسان في خلافة هشام بن عبد الملك، وقد قتل المسلمون شيخهم الجعد بن درهم قبل ذلك، ضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: يا أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلًا، ولم يكلّمْ موسى تكليمًا، تعالى عما يقول الجعد بن درهم علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه. وقد روى أن ذلك بلغ الحسن البصري وأمثاله من التابعين فشكروا ذلك.

وأما المدينة النبوية؛ فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك كان عندهم مهانًا مذمومًا، إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم، لكن كانوا مذمومين مقهورين، بخلاف التشيع والإرجاء بالكوفة، والاعتزال وبدع النُسَّاك بالبصرة، والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهرًا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن الدجال لا يدخلها».

فصل في احتجاج الناس بعمل أهل المدينة

واعلم أن الامام مالكا لم يكن بدعا من العلماء في الاحتجاج بعمل أهل المدينة، بل كان يحتج به من قبله غير واحد من الأئمة الجبال، وقد نقل مالك طرفا منه في الموطأ، ومن ذلك:

قال وكيع بن الجراح في أخبار القضاة (١/‏١٤٣) أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن منصور الرمادي؛ قال: حَدَّثَنَا حرملة بْن يحيى؛ قال: حَدَّثَنَا ابن وهب؛ قال: حَدَّثَنِي مالك بْن أنس، قال: «كان أَبُو بكر بْن حزم على قضاء المدينة؛ قال: وولي المدينة أميرًا، فَقَالَ لَهُ قائل: ما أدري كيف أصنع بالاختلاف؛ فَقَالَ: أَبُو بكر: يا ابن أخي إِذَا وجدت أهل المدينة على أمر مستجمعين عليه، فلا تشك أنه الحق».

قال الفسوي في المعرفة والتاريخ (١/‏٤٤٣) حدثني عبد العزيز بن عمران وزيد بن حريش قالا: أخبرنا ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: «أن عمر بن عبد العزيز كان يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى أهل المدينة يسألهم عما مضى ويعملون بما عندهم، ويكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع له السنن ويكتب إليه بها فتوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إليه».

قال يحيى بن سعيد الأنصاري في الرجل مَلَّكَ امرأته قبل أن تحدث إليه سيئا، فأمرها إلى زوجها: «إن من أمر الناس القديم عندنا، الذي لم أر أحداً يختلف فيه». اهـ المدونة (٢/‏٢٨٥)، وقال: «من الأمر القديم أن تعقل العاقلة الثلث فصاعدا».

قال مالك في الموطأ – رواية يحيى (١٦٥٨) عن أبي الزناد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: «كان الناس يعطون النفل من الخمس».

قال مالك في الموطأ – رواية يحيى (٢٧٩٨) عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم: «أنه سمع مكحولا الدمشقي، يسأل القاسم بن محمد، عن العمرى وما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم بن محمد: ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم. وفيما أعطوا».

قال مالك في الموطأ – رواية يحيى (١٧٤٦) عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار أنه قال: «أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر ورأوا ذلك مجزئا عنهم».

قال مالك في الموطأ – رواية يحيى (٢٤١٦) قال أبو الزناد: «وكل من أدركت من الناس، ينهون عن بيع الحيوان، باللحم».

وفي المدونة (٢/‏٥٠٦): عن ابن أبي الزناد، قال: «يكون ولد المكاتب من سريته، وسريته جميعا بمنزلة المكاتب يقتضون ماله ويؤدون عنهم وعنه نجومه سنة بسنة قد مضت بهذا السنة في بلدنا قديما».

والغرض ضرب المثل وليس استقصاء كلامهم. وقد سار إمام دار الهجرة على نهجهم، كما كثير مستفيض في حججه، بل وفي تأصيله كما في رسالته النفيسة للإمام الليث بن سعد، حيث قال:

«واعلم- رحمك الله- أنه بلغني أنك تفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في أمانتك وفضلك، ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله عز وجل يقول في كتابه: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وقال الله عز وجل: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). وإنما الناس تبع لأهل المدينة: إليها كانت الهجرة، وبها تنزل القرآن، وأحل الحلال وحرم الحرام، إذ رسول الله ﷺ بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويبين لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده، صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك، في اجتهادهم، وحداثة عهدهم، فإن خالفهم مخالف، أو قال امرؤ غيره ما هو أقوى منه وأولى، ترك قوله، وعمل بغيره. ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون ذلك السبيل ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه، للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب كل أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهو الذي مضى عليه من مضى منا لم يكونوا فيه من ذلك على ثقة، ولم يجز لهم من ذلك مثل الذي جاز لهم».
اهـ المعرفة والتاريخ – ت العمري – ط العراق (١/‏٦٨٨)

وقال أبو مُصعب الزّهري -صاحب مالك- رحمه الله في مختصره:

«وقد زعم زاعم أن أهل المدينة ضَيَّعوا وقالوا على غير أصل، وذهبوا إلى غير معنى في أحكامهم وأقاويلهم، ومن كان قوله على آية من كتاب الله محكمة، أو سنة عن رسول الله ﷺ متبعة، أو من منقول عن أئمة المسلمين، أو حكاية عن صحابة رسول الله عليه السلام الذين اصطفاهم الله بعلمه واختارهم لنبيه، وجعلهم له أعوانا، وقال له: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرُ، وجعل لهم به خاصةً ليست لغيرهم، وجعل لهم به من العلم ما ليس لسواهم، وفي منازلهم كان التنزيل ومن قبلهم كان التأويل، ومنهم الأئمة المهتدون، وهم حجة الله على خلقه يوم الدين، لا يوجد للحق رسم إلا عندهم وعنهم، والمدينة دار هجرتهم ومنتهى جماعتهم، فيها كانت آثارهم، وبها كانت أحكامهم».

فصل في المقصود بعمل أهل المدينة

قال ابن أبي أويس [ترتيب المدارك وتقريب المسالك (٢/‏٧٤)]:

«قيل لمالك: قولك في الكتاب: الأمر المجتمع عليه والأمر عندنا أو ببلدنا وأدركت أهل العلم سمعت بعض أهل العلم؟

فقال: أما أكثر ما في الكتاب برأيي، فلعمري ما هو برأيي ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المهتدى بهم الذين أخذت عنهم، وهم الذين كانوا يتقون الله تعالى.

فكثر علي فقلت: رأيي وذلك رأيي، إذ كان رأيهم رأي الصحابة الذين أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك فهذا وراثة توارثوها قرنًا عن قرن إلى زماننا.

وما كان أرى فهو رأي جماعة ممن تقدم من الأئمة.

وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه.

وما قلت الأمر عندنا فهو ما عمل به الناس عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم.

وكذلك ما قلت فيه ببلدنا وما قلت فيه بعض أهل العلم فهو شيء استحسنته من قول العلماء. وأما ما لم أسمع منهم فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبًا منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم وإن لم أسمع ذاك بعينه فنسبت الرأي إلي بعد الاجتهاد مع الستة وما مضى عليه عمل أهل العلم المقتدى بهم والأمر المعمول به عندنا منذ لدن رسول الله ﷺ والأئمة الراشدين مع من لقيت. فذلك رأيهم ما خرجت إلى غيره».

وهذه أعدل الروايات المروية عن مالك في ذلك، واختارها عياض والباجي وجمع من المالكية؛ وسيأتي مزيد شرح في الفصل القادم.

والمستفاد من الرواية أن مالكا رحمه الله كان لا يخرج عن أقوال أهل المدينة، سواء فيما أجمعوا عليه أو اختلفوا فيه، فإن اتفقوا على الشيء اعتبر اتفاقهم حجة شرعية، وإن اختلفوا تخير من أقوالهم ما يراه أصح وأقوى مدركاً، وإن لم يجد لهم في المسألة قولاً اجتهد على وفق أصولهم بحيث لا يخرج عنها، وقد روي عنه أنه لم يفتي بمحض رأيه إلا في ثلاث مسائل.

فصل في مراتب عمل أهل المدينة

اعلم وفقك الله أن المحققين من العلماء قد ذكروا أن عمل أهل المدينة على مراتب، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: «إذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة، علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيًا، وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة يكون حجة قوية، وتارة مرجحًا للدليل؛ إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين». اهـ مجموع الفتاوى (٢٠/‏٣١١)

– إحداها: ما يجري مجرى النقل عن النبي ﷺ فيما تعم به البلوى من الأحكام، كنقلهم لمقدار الصاع والمد، والإقامة وترك الجهر بسم الله الرحمن الرحيم ونحوه، فهذا حجة بالاتفاق. ولهذا رجع أبو يوسف إلى مالك فيه، وقال: لو رأى صاحبي كما رأيت لرجع كما رجعت، ورجع إليه في الخضراوات. فقال: هذه بقائل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد النبي ﷺ، ولا أبي بكر ولا عمر، وسأل عن الأحباس. فقال: هذا حبيس فلان، وهذا حبيس فلان، فذكر أعيان الصحابة. فقال له: أبو يوسف: وكل هذا قد رجعت إليك.

قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي في كتاب الملخص [نقله عياض في: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (١/‏٤٩)]:

«ولا خلاف بين أصحابنا في هذا، ووافق عليه الصيرفي وغيره من أصحاب الشافعي، كما حكاه الآمدي. وقد خالف بعض الشافعية عنادًا، ولا راحة للمخالف في قوله. إن ما هذا سبيله فهم وغيرهم من أهل الآفاق، من البصرة والكوفة ومكة، سواء؛ إذ قد نزل هذه البلاد، وكان بها جماعة من الصحابة، ونقلت السنن عنهم. والخبر المتواتر، من أي وجه ورد، لزم المصير إليه، ووقع العلم به. فصارت الحجة في النقل، فلم تختص المدينة بذلك، وسقطت المسألة في حق غيرهم. 

لكن لا يوجد مثل هذا النقل كذلك عند غيرهم، فإن شرط نقل التواتر تساوي طرفيه ووسطه، وهذا موجود في أهل المدينة ونقلهم: الجماعة عن الجماعة عن النبي ﷺ، أو العمل في عصره. وإنما ينقل أهل البلاد غيرها عن جماعتهم حتى يرجعوا إلى الواحد أو الاثنين من الصحابة، فرجعت المسألة إلى خبر الآحاد. وبالحري أن تفرض المسألة في عمل أهل مكة في الأذان، ونقلهم المتواتر عن الأذان بين يدي النبي ﷺ بها. 

لكن يعارض هذا آخر من رسول الله ﷺ، والذي مات عليه بالمدينة. ولهذا قال مالك لمن ناظره في المسألة: ما أدري أذان يوم ولا ليلة. هذا مسجد رسول الله ﷺ يؤذن فيه من عهده، ولم يحفظ عن أحد إنكاره على مؤذن فيه».

ومثاله ما ذكر ابن عبد البر لما تعرض لاختلاف العلماء في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود، فذكر أن مالكاً يقول: الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، واستدل له بقوله: «ومن حجة مالك أن العمل عندهم بالمدينة لا يخفى لأن الحدود تقام أبداً، وليس مثل ذلك يجهل، وبنحو ذلك من العمل يسوغ الاحتجاج لكل فرقة، لأنه شيء لا ينفك عنه». اهـ التمهيد – ط المغربية (٥/‏٣٣٥)

وأيضا ما ذكر الأبهري المالكي [شرح المختصر الكبير (159/1)]: «ومما يدلُّ على أن لا زكاة في البقول والفواكه، أنَّهُ لم ينقل عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ أنَّهُ أخذ الزَّكاة منها، ولو كان فيها الزَّكاة، لأخذ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ الزَّكاة منها، ولو أخذ منها، لنُقل إلينا، ومعلومٌ أنَّهُ قد كان في وقته بقولٌ وفاكهةٌ. وهذا هو مما يحتج به مالك من عمل أهل المدينة؛ من قِبَل أنَّهُ لم يَنْقُل أحدٌ منهم عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ أنَّهُ أخذ الزَّكاة منها، وجرى عملهم من وقته صَلَّى الله عَلَيْهِ بتركِ أخذِ الزَّكاة منها، ويستحيل أن يجمعوا كلهم على ترك أصلٍ من أصول الدِّينِ أو ينسوه، ولو جاز ذلك عليهم، لجاز على غيرهم من أهل التواتر، ومن أجاز ذلك أدَّى قوله إلى نقض شرائع الإسلام المنقولة بالتواتر، وخرج عن حدِّ أهل العلم».

– الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان، فهذا كله هو حجة عند مالك، ونص عليه الشافعي، قال ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه (ص١٥٠) ثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: سمعت الشافعي، يقول: «ما أريد إلا نصحك، ما وجدت عليه متقدمي أهل المدينة، فلا يدخل قلبك شك، أنه الحق». وكذا هو ظاهر مذهب أحمد، فإن عنده أن ما سنه الخلفاء الراشدون حجة يجب اتباعها، وقال أحمد: كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة، ومعلوم أن بيعة الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي كانت بالمدينة، وبعد ذلك لم يعقد بها بيعة، ويحكى عن أبي حنيفة أن قول الخلفاء عنده حجة.

– الثالثة: عمل أهل المدينة الاجتهادي المروي عن الصحابة والتابعين، واتفقوا أنه ليس حجة ملزمة يحرم مخالفتها، ثم اختلفوا: هل إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين فهل يرجح أحدهما به أم لا؟ ذهب المالكية إلى اعتباره مرجحا معتبرا، فإطباق أهل المدينة على العمل بموجب أحد الخبرين، فيكون أولى من خبر من يخالف عمل أهل المدينة؛ لأنها موضع الرسالة ومجتمع الصحابة، فلا يتصل العمل فيها إِلَّا بأصح الروايات. ووافق المالكية على اعتباره الشافعية مثل أبي إسحاق الاسفراييني وغيره، وذهب أهل الرأي إلى المنع، وعند الحنابلة قولان: أحدهما: المنع، وبه قال القاضي أبو يعلى، وابن عقيل. والثاني: مرجح، وبه قال أبو الخطاب، وقيل هو المنصوص عن أحمد، ويُحكى عنه: إذا روى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية.

قال القاضي عبد الوهاب المالكي في المعونة (٣/‏١٧٤٥): «إذا ثبت أنه ليس بحجة ولا تحرم مخالفته، وهو أولى من اجتهاد غيرهم إذا اقترن بأحد الخبرين المعارضين رجح به على ما عرى عنه، ودليلنا أن الترجيح مطلوب به قوة بحيث يكون القول الذي يقارنه أقرب إلى الحق وأولى بالصواب، وذلك لأن أهل المدينة بما ذكرناه من مزية المعاينة والرجحان بالمشاهدة والمعرفة بمخارج الكلام وسبب الأحكام ما ليس لغيرهم من راجع إلى نقل فكان اجتهادهم أولى لأن سببه الذي بني عليه».

 قال أبو مُصعب الزّهري -صاحب مالك- رحمه الله في مختصره: «وقد جاء عن رسول الله الخبران المختلفان والثلاثة في المعنى الواحد الذي لا يمكن فعله في الحال الواحدة، فعمل أهل المدينة بالخبر الواحد من الثلاثة، واحتجوا في ذلك بأن العمل من أئمة المسلمين تَبِعَةُ، وعَمِل به عوامهم، وصار عملاً مستفاضاً فيهم. قال أهل المدينة على هذا أدركنا العمل ببلدنا، وأخذنا من قولهم هذا، أو من حكاية واحد عن واحد، لأن نقل […] مجتمع عليه أصح».

فالامام مالك لم يكن يرى عمل أهل المدينة الاجتهادي حجة ملزمة يحرم مخالفتها، وإنما يراها حجة معتبرة يصار إليها ما لم يعارضها ما هو أقوى؛ ولهذا فإن الامام خالف عمل أهل المدينة في أمور كثيرة، أذكر من ذلك: * في المفقود تتزوج امرأته ثم يقدم والغائب يطلق امرأته ثم يراجعها ولا تعلم برجعته. قال مالك في الموطأ: «وإن تزوجت بعد انقضاء عدتها فدخل بها زوجها أو لم يدخل بها، فلا سبيل لزوجها الأول إليها. وقال: وذلك الأمر عندنا، وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوج فهو أحق بها». ثم تراجع مالك عن قوله هذا قبل وفاته بسنة كما حكى ذلك ابن القاسم في المدونة، حيث قال: «وأما امرأة المفقود والتي طلقت ولم تعلم بالرجعة، فإنه قد كان مالك يقول مرة إذا تزوجت ولم يدخل بها زوجاها فلا سبيل إليهما، ثم إن مالكاً وقف قبل موته بعام أو نحوه في امرأة المطلق إذا أتى زوجها، فقال مالك : زوجها الأول أحق بها».

* وفي حكم البيع بشرط البراءة: نقل مالك في الموطأ إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرىء من العيوب شيئاً إلا في بيع الرقيق والحيوان، سواء علم العيب أو جهله. قال مالك في الموطأ – رواية يحيى (٤/‏٨٨٧): «الأمر المجتمع عليه عندنا فيمن باع عبداً أو وليدة أو حيواناً بالبراءة من أهل الميراث أو غيرهم، فقد برىء من كل عيب فيما باع، إلا أن يكون علم في ذلك عيباً فكتمه، فإن كان علم عيباً فكتمه لم تنفعه تبرئته، وكان ما باع مردوداً عليه». ثم خالفهم في ذلك، فروى عنه ابن القاسم في المدونة أن البراءة لا تفيد إلا في بيع الرقيق فقط، وهذا هو القول المشهور في مذهبه.

فصل في معارضة خبر الواحد بعمل أهل المدينة

فإذا صح ما ذكرنا، عُلم أن الامام مالك رحمه الله كان يرى عمل أهل المدينة على قسمين:

* عمل توقيفي: سواء نقل عن النبي ﷺ أو نقل عن الصحابة والتابعين فيما لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وهذا القسم من العمل هو الذي كان يقدمه على خبر الواحد (وفرق بينه وبين الآحاد)، ولم يرو عنه قط أنه خالفه وقال بغيره.

يقول ابن عبدالبر رحمه الله: «وإجماعهم حجة فيما أجمعوا عليه، ومثل هذا يصح فيه العمل، لأنه مما يقع متواتراً ولا يقع نادراً فيجهل، فإذا أجمع أهل المدينة على ترك العمل به وراثة بعضهم عن بعض، فمعلوم أن هذا توقيف أقوى من خبر الواحد والأقوى أولى أن يتبع». اهـ التمهيد – ط المغربية (١٤/‏٩)

* عمل اجتهادي من الصحابة أو التابعين اعتمدوا فيه على القياس أو الاستحسان أو مراعاة المصلحة أو سد الذريعة، وهذا القسم من العمل لا يرد به الخبر، وهو الذي روي عن مالك مخالفته في بعض المسائل.
ولكن هذا العمل الاجتهادي يُحتج به عندهم لفهم الحديث، كأن يخصص عاما ونحوه؛ وعدم النظر في عمل أهل العلم في فهم الحديث إنما هو سبيل أهل الرأي لا أهل الحديث، ولهذا تجد الترمذي -مثلا- يحكي عمل أهل العلم بعد روايته للحديث وإن كان ضعيفا، وقد يحكي ترك العمل بالحديث وإن كان صحيحا. وعلى هذا المعنى يُحمل قول الامام عبد الرحمن بن مهدي وغيره: «السُّنَّةُ المتقدِّمةُ مِن سُنَّةِ أهلِ المدينةِ خيرٌ مِن الحديثِ». اهـ الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ (١/‏١١٨)، فالمقصود: تقديم فهمهم على فهم غيرهم.

قال أبو مُصعب الزّهري -صاحب مالك- رحمه الله في مختصره:

«نقل الخبر الواحد نقله الثّقات عن رسول الله ﷺ، وعمل أهل المدينة بخلافه، واحتجوا بأن العمل من أئمة المسلمين جاء بخلافه. فاحتج أهل المدينة بأن قالوا هذا منهم على أحد معنيين:

أنهم عَلِمُوا أنه شيء خصّ الله به نبيه عليه السّلام ليس لغيره أن يعمل به، أو شيء خصّ رسول الله به رجلًا بعينه لأحد أن يعمل به.

والمعنىٰ الثاني: أن يكونوا علموا […]. نصاً في نسخ الخبر عن رسول الله ﷺ لخاصتهم به […] بما جاء عنه وأنهم علموا كافيا من حكاية نسخ الخبر، وكان عملهم به أظهر عند عوامهم من حكايته نسخ الخبر.

وليس بعد هذا معنىٰ إلا أن يقول قائل: ادفعوا ما جاء به الرسول ﷺ وضادُّوه في حُكْمه، وهذا ما لا يمكن أن يكون مقبولا في العقول؛ أن يكون الأمر الذي به رُفِعوا وبه شُرِّفوا مدفوعاً عندهم، مردوداً قولاً إلا بخروج من الملَّة التي بها قُدِّموا، والدّين الذي به فُضِّلوا، ومَن نسب ذلك إليهم فقد افترىٰ إثماً مبيناً، وأتى أمراً عظيماً».

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

آدم بن محمد المالكي

مهتم بالذب عن المواقف السنية، وتحرير أقوال أهل السنة في الطبيعيات والانسانيات و العقليات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى