أبحاث عقديةنقد الفلاسفة والمتكلمين

إتحاف الأريب بنقض دليل التركيب

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، أما بعد:

فإن مما استدل به نفاة الصفات من أصناف الجهمية والمعتزلة، والفلاسفة والرافضة، بل ومن بعض متأخري الأشعرية والماتريدية على نفي ما ثبت لله تعالى من صفات الكمال: ما سموه بدليل التركيب، وهو من أشهر شبههم وأشيعها، وأكثرها دورانًا في مصنفاتهم، حتى جعلوه أصل الأصول في تقرير التوحيد على زعمهم، مع ما فيه من الفساد في التصور، والاضطراب في المعنى، والتناقض في اللوازم، وسيأتي إن شاء الله كشف فساده بما تقر به أعين الموحدين، ويضمحل به تلبيس الجاحدين.

فصل في معنى التركيب في اللغة الطبيعية

إن لفظ التركيب في اللغة لا يخلو من إجمال، ولا بد فيه من تفصيل. فأقول: إن كلمة «المركب composed – composé الخ» في أصلها اللغوي: ما ركبه غيره، فهو اسم مفعول من “ركب”، كما تقول: فرقته فهو مفرق، وجمعته فهو مجموع، وهكذا.

وما كان كذلك، فلابد أن تكون أبعاضه قابلة للانفصال والتفريق بالضرورة، إذ لم تجتمع إلا بعد تفرق، والانفصال بالقوة دليل الإمكان والحدوث.

وأما المخالفون، فليس مرادهم بهذا النوع من التركيب، بل يسمّون إثبات الصفات لله تركيبًا، ويقولون: “الذات التي لها صفات متعددة هي مركبة، والمركب مفتقر إلى أجزائه، والمفتقر ممكن، والله لا يكون ممكنًا، فإذن لا صفات له”.

أو يقول بعضهم: “إن كانت هذه الصفات داخلة في الماهية، فهي أجزاء مقومة لها، فيلزم التركيب؛ وإن كانت خارجة عنها، فهو افتقار إلى غير، والمفتقر إلى غيره ممكن”.

وهذا الإطلاق باطلٌ من وجهين:

الأول: أن الذات المتصفة بصفات لازمة لها، لا يُقال فيها في لغة العرب، ولا في عرف العقلاء: إنها مركبة. فإن الشيء الذي له حقيقة متمايزة عن غيره، تباين سائر الموجودات، ولا يجوز عليه الانقسام والانفصال، لا يُعد مركبًا. فلو فرضنا أن هذا الموصوف مخلوق، لم يجز لأحد أن يسميه مركبًا بهذا المعنى، فضلًا عن أن يكون واجبًا أزليًا.

فإذا سُمّي هذا مركبًا، كان قائله بين أحد أمرين: إما غلط في العقل والتصور:

  • إذ يظن أن هناك ذاتًا موجودة مستقلة، يمكن أن تُتصور بلا صفات، ثم تلحق بها وتُضاف إليها الصفات؛ وهذا يبنونه على مذهبهم في الكليات وهو غير مسلم.
  • أو ادعاء أن هذا القائم بنفسه مركب من حقيقتين: وجوده، وشيء آخر زائد عليه يسمّى صفات.
  • أو يقول: “هو مركب من جواهر فردة” – وكل هذا باطل، لا يُسلّم، وما بُني على باطل، فهو باطل.

الثاني: أن تسمية مثل هذا تركيبًا ليس من اللغة المعروفة، بل هو اصطلاح خاص مبتدع. فإن الجسم الذي له صفات، كالتفاحة التي لها لون وطعم وريح، لا يُقال في لغة من لغات العالم: إنها مركبة من هذه الأمور، بل هذا تسمية فلسفية حادثة، ناشئة إما عن غلط في المعقولات، أو اصطلاح تفرد به أهل الفلسفة والكلام عن أهل اللغات.

فصل في ذكر الدليل ونقضه

واعلم – وفّقك الله – أن أصل هذا الدليل مأخوذ عن الفلاسفة المشائين، فهم أول من قرره لإنكار الصفات؛ ولهذا أطنب أبو حامد الغزالي -وغيره من الأشاعرة- في إبطال هذا الدليل في التهافت؛ وحاصله:

أن الباري لو كان له صفات وجودية قائمة به، مغايرة لذاته، لكان مركبًا من ذات وصفات.

وكل مركب مفتقر إلى غيره.

والمفتقر لغيره لا يكون واجب الوجود بذاته

والجواب: أن صفات الله تعالى ليست خارجة عن مسمى ذاته. بل صفاته لازمة لذاته، فهي داخلة في حقيقة ما يُسمى “الله” سبحانه، لا يجوز أن يتصور انفكاكها عنه. فإن قيل: “هذا افتقار”، قيل: هذا ليس افتقارًا إلى غير، بل هو استلزام ذاتي واجب، كقولك: النار لا تكون إلا محرقة، فهذا من باب لزوم الذات، لا افتقار الإمكان.

قال شيخ الاسلام ابن تيمية في الصفدية (١/‏١١١):

«وإذا قيل هو مفتقر إلى ما يدخل في نفسه سواء سمي صفة أو جزءا أو غير ذلك، قيل: أتريد به أن ذلك الجزء يكون فاعلا له أو ما يشبه هذا، فهذا ممتنع باطل ولا يقوله عاقل. وإن أردت بذلك أنه لا يكون موجودا إلا بوجود ذلك، وأنه يمتنع وجوده بدونه ونحو ذلك كان ما يقدر في هذا دون ما يقدر في نفسه، وإذا كان لا توجد نفسه إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بما يدخل في نفسه بطريق الضرورة، وإذا كان ذلك أمرا واجبا لا محذور فيه، فهذا بطريق الأولى، وإذا كان تقدير استغناء نفسه عن نفسه يوجب عدمه، فكذلك تقدير وجوده بدون ما هو داخل في مسمى نفسه مما هو لازم له يوجب عدمه بالحقيقة».

ولو سلّمنا اصطلاحهم، فإنّ قولهم: “المركب مفتقر إلى جزئه”، ليس بأعظم من قوله: إنه مفتقر إلى كله؛ فإن الافتقار إلى المجموع أشد الافتقار إلى بعض المجموع، فالمفتقر إلى المجموع مفتقر إلى كل جزء منه، وإذا كان لا محذور فيه فهذا أولى.

وقولهم إن الصفات “غير الذات” مجمل. فإن الفلاسفة قد اصطلحوا على التمييز بين نوعين من التغاير:

  • تغاير ذهني Conceptual Distinction: وهو أن يُتصور فرق بين شيئين في الذهن، لا في الخارج.
  • تغاير حقيقي Real Distinction: وهو ما يصح فيه الافتراق في الوجود، بحيث يمكن وجود أحدهما دون الآخر.

وتعدد الواجبين والقدماء يلزم لو سلمنا بالتغاير الثاني، وهو غير مسلم؛ بل نقول: ما لا يُتصور وجود أحده دون الآخر، لا يصح أن يقال بينهما تغاير حقيقي، بل هو تغاير اعتباري ذهني فقط.

ولنا في إثبات أنه إذا ثبت التمايز الحقيقي، وجب إمكان الافتراق، بالعكس المستوي contrapositive: إذا انتفى إمكان الافتراق، انتفى التمايز الحقيقي. وبيانه: أن التمييز في الوجود فرع استقلال الذات، فما لم تكن الذات مستقلة عن غيرها في الوجود، لم يصح أن تُعد مباينة لها. فإذا كانت الصفات لا تنفك عن الذات بحال، علم أن التمييز بينها وبين الذات ذهني لا واقعي.

فالإنسان – مثلًا – لا يُتصور إلا ناطقًا، ولا ذات له مجردة عن صفات الإنسانية. فإذا قيل: “هو مركب من ذات وصفات”، لزم أن تكون الذات متصورة بدون الصفات، وهذا باطل في الخارج، لأنه لا توجد حقيقة “الإنسان” بلا نطق. فكذلك الخالق – سبحانه – لا يُتصور إلا حيًا، عليمًا، قادرًا، فليس له ذات تُفارق هذه الصفات أصلًا، بل تقدير ذلك تركيب وهمي في العقل، وليس له تحقق في الخارج.

ولا نسلم أن هذا النوع من العلاقة يسمّى افتقارًا في اللغة أو العقل. فإنّ افتقار الشيء إلى غيره لا يُطلق إلا إذا كان الغير مؤثرًا فيه. وأما إذا كان أحدهما لا يوجد إلا بوجود الآخر، من غير أن يكون أحدهما علة للثاني، فهذا تلازم لا افتقار. فصفات الله لازمة له، لا توجد ذاته بدونها، ولا توجد هي إلا به، وهذا التلازم لا ينافي الوجوب، بل هو من لوازمه. وكل الطوائف – حتى الفلاسفة – يثبتون تلازمًا بين الواجب ومعلولاته، ولا يعدون ذلك افتقارًا.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

آدم بن محمد المالكي

مهتم بالذب عن الآراء السنية السلفية، وبتحرير أقوال أهل السنة في الطبيعيات والانسانيات و العقليات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى