مقدمة
الحمد لله العليم الحكيم، العدل الرحيم، الذي قامت السماوات والأرض بعدله، وانتظمت مقادير الخلائق بحكمته، وجعل لكل شيء قدَرًا، ولكل حقٍّ سلطانًا، ولكل جناية جزاءً وعدلاً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلّه، صلّى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنّ من أكثر الشُّبَه التي راجت على عقول قومٍ انسلخوا من نور الوحي، وغرّهم زخرف الحضارة الغربية، ما يوردونه من الاعتراضات على العقوبات الشرعية، زاعمين أنها تنافي الرحمة، وتُخالف حقوق الإنسان، أو تَجهل تطورات المجتمعات وتبدّل أحوال الزمان. والحق أنّ تلك العقوبات إنما هي فصولٌ من فصول العدل الإلهي، وسُطورٌ من كتاب الرحمة الربانية، قُدّرت بموازين دقيقة، وعلّقت على حِكَمٍ جليلة، فكانت زواجرَ وقواصم، ورحمةً وعدلاً، لا سَرفَ فيها ولا تقصير.
وهذا المقال أصلٌ وضعناه لدفع تلك الاعتراضات الأخلاقية على العقوبات الشرعية، نُقرِّر فيه أنواعَ العقوبةِ، ومقاصدَها، ومناط حسنها من قبحها؛ راجيا الله التوفيق والسداد.
فصل في جنس العقوبات
ونحنُ نقدِّمُ بين يدي هذا البحثِ فصلًا نافعًا في جنسِ العُقوبات، نُجلي فيه حقائقَها بما تجود به القرائح، فنقول:
أن من حكمة الرب جل ثناؤه أن شرَع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض؛ لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما أتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه.
وليس يخفى على العاقل أن في العقوبة إيقاع ألم ومفسدة على المُعاقب، والألم منافر للطبع قبيح في نفسه؛ والعقلاء مطبقون أن العقوبة حق وحسنة في موضعها، فافترق الناس في تبرير هذا الحسن إلى طائفتين: فذهب مذهب الاستحقاق Retributivism إلى أن عقوبة مستحق العقاب على قدر جرمه مقصودة لذاتها، وقالوا: عقوبة من أتى جرما، عالما به مختارا له بعقوبة على قدر جرمه (أي بينهم مناسبة) هو مقتضى العدل وهو حسن في العقول، فهو مراد بالذات، ملائم للطبع، وجنس العدل ملائم حتى لطبع المُعاقب وإن لم يلائمه العقوبة.
وقالت طائفة العواقبية Consequentialism: بل ليست العقوبة مرادة في نفسها، ولكنها مرادة لغيرها، أي أنها شر لا بد منه، فهي مفسدة لازمة لمصالح أرجح، ووجود الملزوم من غير لازمه ممتنع. ومن تلك المصالح: الزجر والردع عن هذه الجنابات، وإصلاح المُعاقب والأمن من المعودة، والحفاظ على مصلحة العالم، واستيفاء المظلوم حقه بشفاء غليله، إلى غير ذلك من المصالح. وقالوا: لو لا هذه المصالح لم تكن العقوبة حسنة، ومتى قدرنا انتفائها كانت العقوبة قبيحة.
والحق الذي عليه صريح المعقول وسط بينهم: فإن ما قاله الأولون من كون عقوبة المستحق عدلا حسن في نفسه، حق لا ريب فيه؛ وما ذكرت الطائفة الثانية من مصالح العقوبات حق أيضا، إلا أنها ليست هي مناط الحسن والقبح في العقوبات، فالقول بأن خلو العقوبة عن تلك المصالح موجب لقبحها ممنوع؛ بل الصحيح أن مناط حسن أو قبح العقوبة على ما قرر الأولون، وهو استحقاق المُعاقب، فترجع إلى كونها إما عدلا حسنا أو ظلما قبيحا.
واعلم أن استحقاق العقوبة يتفاضل بحسب تفاوُت الذنوب، وتفاوت ما يقتضيه الطبع إليها، وشدة الباعث عليها؛ فكلما قلَّ باعث النفس إلى الجريمة، واشتد داعي الفطرة إلى اجتنابها، كان فاعلها أحق بالعقوبة وأشد استحقاقًا لها؛ ولهذا كان قتلُ الإنسان ولدَه الطفلَ الصغيرَ الذي لا ذنب له، وقد جبل الله سبحانه القلوبَ على رحمته، وعَطَفَها عليه، فقتله خشيةَ أن يشاركه في مطعمه ومشربه وماله = من أقبح الظلم وأشدّه.
ولهذا تركَ الشارعُ الحدَّ فيما تنفِرُ منه الفِطرُ وتنقطعُ عنه الطباعُ بطبعِها، إذ يكفي فيه الوازعُ الطبيعيُّ، وشدّدَ العقوبةَ فيما تنازعهُ الطباعُ بشدّة، فسَدَّ الذرائعَ إليه من قريبٍ وبعيد.
واعلم أن التعويل على العقل في تقدير العقوبة المناسبة لكل جرم لا يمكن إثباته بطريق البرهان القطعي، لا على مذهب من اشترط المناسبة بين الجناية والجزاء، ولا على مذهب من جعل مناط الحكم تحقق المصلحة، وبيانه:
أنه لو قيل بمذهب المناسبة، فإننا وإن سلّمنا بأن العقول تدرك قبح بعض التفاوتات بين الجريمة والعقوبة – كأن يُعاقَب آكل الحلوى بالسجن المؤبد –، فإنها تقفُ حائرةً إذا طُلِبَ منها تعيينُ مقدارِ العقوبةِ الملائمةِ لكلِّ جنايةٍ بعينها. فلا تدرك الحد الفاصل الذي ينتهي إليه الاعتدال، ولا مقدار التفاوت الذي يفسد التناسب. فإنك ترى العقل يقضي بقبح المبالغة الفاحشة، لكنه يتوقف حين يسأل: أيهما أولى بسرقة المال العام؟ هل يُقتل الجاني أم يُسجن؟ وإن سُجن، أفثلاثون سنة أم أربعون؟ وإن ضُرب، أفبمئة جلدة أم خمسين؟ فليس له مِعيارٌ محرر، ولا ضابطٌ محرَّر، وإنما يرجع في النهاية إلى التخمّين والتقدير الظني، الذي يضطرب باختلاف الأهواء والأزمان والأعراف، فتتعذر به الهداية إلى حكم قاطع.
وأما على المذهب الثاني: فلو قيل بأن حسن العقوبة منوطة بالمصلحة التي تعقبها، فهذا موقوف على دليلٍ تجريبيٍّ تامٍّ يُظهرُ أَنَّ عقوبةً بعينِها هي الأوفى بتحقيقِ تلك الغاية؛ وهذا الدليل غايته استقراء ناقص مهما عظم، إذ لا يمكن حصر جميع الحالات ولا عزل جميع المتغيرات المؤثرة. ولا سبيل إلى التفضيل عن طريقه بين العقوبات؛ فلو أفادنا الواقعُ بأنّ عقوبةَ (أ) قد حدّ من وقوعِ الجرمِ، لم يمتنع أن تُحدِثَ عقوبةُ (ب) أو (ج) الأثرَ عينَه أو أبلغ منه؛ بل إن محاولة التثبت من كون العقوبة بعينها هي السبب في حصول الردع دونه مشكلات تجريبية ومنهجية، إذ لا يمكن ضبط جميع الشروط والقيود التي تجعل النتيجة متوقفة على هذه العقوبة وحدها دون غيرها، ولا يمكن استبعاد الاحتمال بأن أثر الردع إنما حصل بعوامل أخرى غير ملحوظة.
ومحصَّل الأمر أن العقل محدود المدارك في هذا الباب، لأن المفاسد المترتبة على الجنايات لا تُدرك جملةً إلا مع الإحاطة التامة بعواقبها، وهذه الإحاطة ممتنعة في العادة، لما بينا من قصور الوسائل البشرية عن ضبط المتغيرات الكلية والجزئية.
وكذلك الأمر في تقدير آثار العقوبات: فإن إرجاع أثر الردع إلى عقوبة معينة دون سواها يستلزم فرز العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية جميعًا، وهو أمر لا تستقل به العقول ولا تكفي فيه المناهج الاستقرائية ولا النماذج الإحصائية.
فليتأمل الناظر هذه الفصول النافعة، فإنه يتفرع عليها دقائق تخلّص المتأمل من المزالق.
فصل في العقوبات المعينة
وإذا تقرر ما تقدم من القواعد، تبين لك أن ما يورده بعض المخالفين على حدود الشريعة من الاعتراضات، ليس من جنس البرهان العقلي، بل هو أقرب إلى استقباحٍ نفسي، واستشناعٍ وجداني، منشؤه الاعتياد بالمألوف، والنفرة من غير المعهود.
فليس للعلماني، مثلًا، أن يدّعي أن سجن السارق أتمُّ وأكمل من قطع يده، إذ لا مرجِّح عقليٌّ يقتضي ذلك الترجيح، إلا أن يثبت الممانع أن قطع اليد لا يناسب جرم السرقة في ذاته، وهذا أمرٌ متعذر، بل مستحيل. بل قد يُقال: إن حدَّ القطع أبلغُ في الزجر، وأردعُ في النفوس، إذ لا شيء على الإنسان أعزُّ من أعضائه، ولا سيما يده التي بها يبطش ويكتسب. وأما السجن، فربما تهاون الناس به، لاسيما مع شيوع ما يُسمى بـ”نظرية السجن الفندقي” في بعض البلاد الأوروبية، حتى صار السجن ملاذًا لبعض المجرمين، ومهربًا من ضيق المعيشة إلى نعيم الرعاية!
وإذا تقرر أن المعقول لا يدل على وجهٍ قاطعٍ بين العقوبتين، ولا يرجح إحداهما من حيث هي على الأخرى، علم أن المدار في هذا الباب على الوحي، وأن المرجع إلى أمر الله الذي يعلم مصالح عباده، ويشرّع لهم ما تزكو به النفوس، وتستقيم به المجتمعات.
وكذا يُقال في حد الردة: فإن المرتد – إذا ثبتت ردته بعد إقامة الحجة عليه – قد أخلّ بأعظم الحقوق، وهو حق الرب جل جلاله، إذ كفره بالله بعد أن عرفه وآمن به، يقتضي أنه كذّب أصدق الصادقين، وأنكر أظهر البراهين، وجحد أعظم المعروف. ومعلوم أن أعظم العقوبات إنما تُناسب أعظم الجرائم، فكان جزاؤه القتل حسنًا في العقل، إذ هو في مقابلة أعظم عدوان على الحقيقة، وأكبر استخفاف بحق الله جل وعلا.
واعلم أن القتل – من حيث هو إزهاق نفس – ليس في العقل مجردًا قبيحًا ولا حسنًا، فمتى ترتب على قتل امرئٍ مفسدة أعظم، أو تفويت مصلحة عظيمة من بقائه = كان قبيحًا في العقل، ولهذا كان أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة من قتل نبيًّا، ويليه من قتل إمامًا، أو عالمًا يأمر الناس بالقسط، ويدعوهم إلى الله، وينصحهم في دينهم.
وقال ابن القيم (ت ٧٥١) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة – ط عطاءات العلم (٢/١١٠٩):
«ليس في حكمة الله وحُسْن شرعِه أن يجعل دمَ وليِّه، وعبده، وأحبِّ خلقه إليه، وخير بريَّته، ومن خَلَقَه لنفسِه، واختصَّه بكرامته، وأهَّله لجواره في جنَّته، والنَّظر إلى وجهه، وسماع كلامه في دار كرامته= كَدَم عدوِّه، وأمقَتِ خلقِه إليه، وشرِّ بريَّته، والعادِل به، العادِل عن عبادته إلى عبادة الشيطان، الذي خَلَقه للنَّار، وللطَّرد عن بابه، والإبعاد عن رحمته».
والعدل يقتضي -مثلا- أن يُقتل القاتل، جزاءً وفاقًا، إذ لا عقوبة تكافئ القتل إلا القتل، ولا مصلحة في الردع والشفاء وإقامة المهابة أعظم منه. ولا يُقال: إنه إتلاف في مقابل إتلاف، لأن الفرق بين القتل ظلما والقتل عدلا كالفارق بين العدوان والدفاع، فالعقل لا يسوي بينهما، بل يميز بين التعدي المشروع والتعدي المحرّم، ويقضي للحق حيث كان.
وأما من كان في بقائه مفسدة راجحة، وكان في إزهاق روحه حفظٌ للدين أو للنفوس أو للعقول، فإن قتله حسن عقلا ولا ريب. وقد أشار الله تعالى إلى هذا في دعاء نبيّه نوح عليه السلام:﴿وَقَالَ نُوحࣱ رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ دَیَّارًا ٢٦ إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ یُضِلُّوا۟ عِبَادَكَ وَلَا یَلِدُوۤا۟ إِلَّا فَاجِرࣰا كَفَّارࣰا ٢٧﴾ [نوح ٢٥-٢٧]، فأشار إلى أن بقاءهم يفضي إلى إضلال العباد وتكثير الفجور، فكان فَناؤُهم أهون من بقائهم، وهذا أصل في دفع المفسدة الراجحة.
ومن هذا الباب: قتل الكفار في الجهاد، فإنه لتحقيق مصلحة نشر التوحيد، وقمع الطغيان، وتمكين دين الله في الأرض. ومع ذلك لم يشرع قتلهم ابتداء إلا بعد بلوغ الحجة، وإقامة العدل في دعوتهم، فإن استجابوا، وإلا فإن بقائهم مع الالتزام بالجزية والذل والانقياد لحكم الله ورسوله أولى من قتالهم، ما داموا كافين عن الإفساد، حابسين لأذاهم.
وأما الجلد، فقد جعله الشارع عقوبةً لما قصر عن القتل من جنايات، كالزنا من غير إحصان، وشرب الخمر، والقذف، وسائر ما يتعلق بالأعراض والعقول والأبضاع، فإن هذه المفاسد لم تبلغ مبلغ سفك الدماء، ولكنها دونها في الفساد، فناسبها ما دون القتل في العقوبة. ولما كان جلد الزاني البكر قد لا يكفي وحده في الردع، غُلِّظ عليه بالنفي والتغريب، ليتذوق مرارة الغربة، ويفارق مألفه وأهله، فيكون ذلك أوقع في النفس، وأتم في الزجر.
وهذا طرفٌ من أسرار هذا الباب، ولو وُفِّي حقَّه لأفرد بالمصنفات،وحسبُ اللبيب منه إشارةٌ تهديه، واللهُ هو الهادي إلى سواء السبيل، لا ربَّ سواه ولا حكمَ إلا حكمه.