مقدمة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب هدى للناس، وجعله بيِّناً شافياً، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وبيَّن للناس ما نُزل إليهم، فما ترك خيرًا إلا دلّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه. أما بعد:
فهذا مقال في نقض أصول الباطنية، ومن شايعهم من طوائفٍ عطَّلت دلالة النصوص الشرعية، وعزلتها عن إفادة العلم واليقين، وربطت حجيتها باعتبارات خارجة عنها؛ كالعقل المجرد، أو تفسير إمامٍ معصوم، أو غير ذلك من الضلالات. وفي هذا المقال بيان فساد هذه الأصول، وكشف عوارها، والله الهادي للسواء السبيل.
حكاية مذهبهم
قالت الباطنية – وهم أتباع القرامطة ومن تأثر بهم من الإمامية –: إن للقرآن ظاهرًا لا يُقصد، وباطنًا لا يُدرك إلا ببيان الإمام المعصوم، وأن الكلام الإلهي لا تحصل دلالته إلا بواسطة هذا الإمام، إذ هو وحده الذي يعلم مراد الله تعالى، ومن عداه فقولُه مظنون، غير مقطوع به، بل غير معتبر.
وقالت طائفة من المتكلمين: إن الدليل اللفظي لا يفيد العلم، لأنه متوقف على دلالة الألفاظ، ودلالة الألفاظ مظنونة، فلا يكون الموقوف عليها مقطوعًا به، فوجب العدول إلى الدليل العقلي، وتقديمه على النقل عند التعارض.
وهذان القولان – وإن اختلفا في المسلك – فإنهما متلاقيان في المآل، إذ جعلوا الكلام الإلهي غير وافٍ في البيان، ولا كافٍ في الهداية، وقد نبه الإمام ابن القيم رحمه الله على تلاقي هذه المسالك، فقال في الصواعق المرسلة: «وقول القائل: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين دهليز إلى مذهب هؤلاء -يعني الباطنية-، ومرقاة إليه، لكن الفرق بينهما أنه يقول: لا أعلم مراد المتكلم بها، وهم يقولون مراده هذه التأويلات الباطنة».
ولا يخفاك أن هذه الدعاوى وما كان من جنسها قادحة في تحكيم الوحي المنزل، والتحاكم إليه، والاهتداء بكلامه، موجبة لعزله عن ذلك والإعراض عنه؛ فإن التحاكم إلى من لا يُفيدُك كلامُه عِلْمًا ولا يقينا لا يحصل به المقصود. فإذا انضم إلى هذه المقدمة أن النقل إذا عارض العقل وجب تقديم العقل كمل عزل الوحي، واستحكم الإعراض عنه في باب معرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله.
الجواب التأصيلي
اعلم – أيَّدك الله – أنَّ المتكلِّم إذا صَدَقَ قصدُه، وتحرَّى إفهامَ مُخاطَبِه، فقصد كشف المعنى وإحضاره في ذهن السامع، ولم يكن في طويته ميل إلى الإلغاز، ولا نية في التعمية؛ ثم وافق من السامع معرفةً بلسانه، وإلفًا بكلامه، وعلمًا بجريان خطابه = فإن المعنى لا يشتبه، والمراد لا يلتبس، بل يقع المقصود من اللفظ في القلب موقع اليقين الذي لا يخالطه شكّ. فإن وقع التردد، وتطرّق الاحتمال، فالآفةُ إما في عجزٍ يحول بين المتكلِّم وبين إحكام العبارة، أو قصدٍ فاسدٍ يَبعَثه على التعمية؛ والتقديران ممتنعان في حق الوحي المنزل من الحكيم الخبير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في كتاب الإيمان:
«ليس لأحدٍ أن يحمل كلامَ أحدٍ من الناس إلا على ما عُرف أنَّه أراده، لا على ما يحتمله اللفظُ في كلام كلِّ أحد».
قلت: فليس المعول في فهم الخطاب على مجرد ما يحتمله اللفظ من جهة اللغة، بل على ما دل عليه السياق، ووافق قرائن حال المتكلم وعُرفه في استعمال كلامه، الموجبة للعلم اليقيني بمقصوده. ومن كان بلسان المتكلم أعلم، كان بمقاصده أوقف، وبمراده أبصر؛ إذ كانت دلالة اللفظ على المعنى منوطة بقصد المتكلم، وقائمة على إرادته، لا على ما تسعه اللغة من وجوه التأويل. فإذا كان للمتكلم عرف مطّرد في إسناد لفظ إلى معنى، فقد تعين حمل كلامه على ما اعتاده، لا على ما تفرضه اللغة في عمومها. ولهذا، فإن أهل العناية بحديث رسول الله ﷺ، ممن طال تردادهم في ألفاظه، وتكرّرت أنفاسهم على مروياته، أدركوا من مراميه ما خفي على غيرهم، وفهموا من إشاراته ما عجز عن دركه المتكلفون. إذ ليست الألفاظ هي الغاية، بل هي الأداة، والمعنى هو المقصود الذي تتواطأ عليه الأفئدة، وتشتدّ إليه الحاجة.
ومعرفةُ المراد تُنال كما يُنال العلمُ بثبوت اللفظ، كلٌّ بالتواتر الموجبِ للقطع. فلئن علمنا بالاضطرار أن اللهَ أنزل قولَه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ﴾، فإنّا نعلم كذلك، وبذات الدرجة من اليقين، أن المرادَ بالله ربُّ العالمين، وبالناسِ ولدُ آدم، وبالبيتِ الكعبةُ المُعظَّمة. وكذا الشأنُ في قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، إذ لا يشكّ أحدٌ في أن «رمضان» هو الشهرُ المحصورُ بين شعبان وشوّال، وأن «القرآن» هو هذا الكتابُ المتلوّ بين الدفّتين.
ومعاني القرآن – في الجملة – معلومة، كما أن ألفاظه معلومة. بل إن العلم بمراد الله تعالى من كلامه، أوضح وأرسخ من العلم بمراد كل متكلم سواه؛ لأن المتكلم هو العليم الحكيم، والبيان منه أكمل، والهداية مراده، والتيسير سبيله. فما بلّغه الرسول ﷺ من الألفاظ، بلّغه من المعاني، بل كان أحرص على بيان المعاني منه على مجرد تبليغ الألفاظ؛ إذ هو المقصودُ في الأصل، واللفظُ خادمٌ له.
وقد عُلم بالحسّ والعادة أن الناس يَضبطون المعاني أضعافَ ما يَضبطون الألفاظ، لتيسُّر حفظ المعنى، وكونِه موضعَ الحاجة، ولذلك كان نقلُ معاني الوحي أوسعَ انتشارًا، وأعمَّ تواترًا، وأثبتَ في الصدور من مجرّد حِفظ حروفه؛ فمن أثبت تواتر لفظ القرآن من غير إثبات تواتر لمعانيه كان من أعظم الناس تناقضا.
ثم إن الذين تلقوا الخطاب النبوي – من صحابة رسول الله ﷺ – كانوا أفهم الناس لمراده، وأصدقهم طلبًا للحق، وأقواهم عناية بتلقي الدين، فإذا كان الخطاب قد ورد عليهم، وقد اجتمعت شروط الفهم: من فصاحة المتكلم، وتمام قدرته على البيان، وذكاء السامعين، وقوة دافعهم إلى الفهم – فقد استحال أن يُظن أنهم لم يفهموا المراد.
فمن رام بعد هذا التشكيك في دلالة ألفاظ الشريعة، أو زعم أن معانيها قد خفيت، أو أنها تقبل كل محتمَل – فقد جحد ما هو في حكم الضروريات، وطعن في أعظم مواضع العلم واليقين. بل كان جُرمه أعظم من الطاعن في تواتر ألفاظها، إذ المعنى هو المقصود، واللفظ خادم له، والحجة إنما تقوم به، لا بمجرده.
فالحاصل أن العلم بمراد الله تعالى ومراد رسوله ﷺ، في معظم ألفاظ الشريعة، حاصل بالتواتر، جار مجرى الضرورة، معلوم لدى من خوطب به أولًا، ومعلوم عند من نُقل إليه ثانيًا، وأنَّى يُتوهَّم خفاءٌ مع اجتماع مقتضيات البيان، وانعدام الموانع، وقيام الضرورات، واحتدام الحاجات؟!
فصل في نقض دعوى انفراد الإمام المعصوم بالفهم الصحيح للقرآن!
الوجهُ الأوّلُ: نسألُهم: أأثبَتُّم عصمةَ أئمّتكم بالعقلِ أم بالشرع؟ أما العقل فلا سبيل إليه، وإن قلتم الشرعَ: فدلالتُه إمّا مفتقرةٌ إلى تفسيرِ الأئمّةِ أو غيرُ مفتقرةٍ. فإن افتقرتْ لزمَ الدَّورُ؛ إذ لا يَثبُتُ حجّيتُهم إلا بتفسيرهم. وإن لم تفتقرْ ثبت استغناءُ بعضِ القرآنِ عن تفسيرهم، فانتقضَ أصلُكم.
الوجهُ الثاني: يقال لكم: كلامُ أئمّتكم: إمّا أن يكونَ بيِّنًا لا يفتقرُ إلى بيانٍ، أو مُجملاً يَلزَمُه تفسيرٌ: فإن كان بيِّناً لزم أن يكونَ بيانُ المخلوقِ أكمَلَ من بيانِ الخالقِ، وهذا باطلٌ بالضرورة. وإن كان مُجمَلاً احتاجَ إلى مفسِّرٍ آخَرَ، فإن تسلسلَ التفسيرُ استحالَ الفهمُ، وإن وقَفْتم عُدتُم إلى الأول.
الوجهُ الثالث: يقال: عدمُ إمكانِ فهمِ القرآنِ إمّا أن يكونَ باختيارِ الله أو بعجزِه: فإن كان باختيارِه كان قد كلَّف العبادَ ما لا يطيقون، فتَلزَمُه إرادةُ العنتِ والشرِّ، وهو منقَصَةٌ تُنزَّهُ عنها أفعاله. وإن كان عجزًا، فقد نُسِب إليه النقصُ في القدرةِ، وحاشاه.
الوجهُ الرابع: الكلام اللفظي إنما يفهمه المخاطب بالفطرة على ما تقتضيه اللغة، فقولُهم إنّ للقرآنِ ظاهرًا يفهمه العامّةُ، وباطنًا لا يدركه إلا الخواصُّ، يستلزمُ أن اللهَ أظهرَ خلافَ المقصودِ، مع القدرة على خلافه = وهو سفه وخداع للمخلوقين يتنزه عنه الباري جل شأنه، كما لو: أجرى الله المعجزة على يد كاذب مدع للنبوة، فيكون الظاهر للبشر الأسوياء أن الخالق ينصره ويصدق قوله، فإن كان كاذبا في نفس الأمر لزم نسبة الرب للنقص.
الوجهُ الخامس: يقال لكم: فهم الأئمة إما أنه بنظر في ألفاظ القرآن أو لا، فإن كان بنظر فالمقدِّماتُ في متناول غيرهم، فيبطل اختصاصُهم. وإن بوحي مستقل، صار الوحيُ الثاني هو الحُجّة، والاستدلالُ بالقرآن لغوٌ لا ثمرةَ فيه. ولو كان كذلك لكان أيسرَ أن يُبلَّغ الوحي الثاني مباشرةً.
الوجهُ السادس: يلزم من مذهبهم: أن القرآن ليس بهدى ولا نور ولا هداية، فمن قرأ القرآن طالبا للحق مريدا له – بزعمهم- دون معرفة تفاسير الأئمة، ضل عن سواء السبيل؛ فيمتنع تحصيل الهدى على قولهم من نفس القرآن، وإنما يفتقر ذلك إلى غيره بالضرورة، بل وفي كلام غيره زيادة هدى، فصار كلام رب العالمين عديم الأثر في العلم وجودًا وعدمًا!
الوجهُ السابع: الحاجةُ إلى المفسِّرِ المعصومِ إمّا دائمةٌ أو لا:
- فإن كانت دائمةً، فأين المعصومُ اليومَ، وأين آيةُ عصمتِه، وأين الدليلُ على تعيينِه؟
- وإن كانت منقطعةً، فلمَ كان اشتراطُها فيما مضى تطويلاً لا ثمرةَ تحته؟ وإذا جاز فهمُ نصوصِ الأئمّةِ بعد وفاتِهم من كتبِهم، ففهمُ كلامِ الله – وهو أفصحُ الكلامِ وأبلغُه – أجدرُ وأولى.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.