الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإنه يخفى على كثيرٍ من الباحثين عِظَمُ المفارقة بين الأصول التي أسّس عليها ابنُ تيمية مذهبه وبين مباني المشّائين، حتى حتى جازف بعضُهم بزعم تأثر الشيخ بأصولهم.
وهذا مما يقال فيه: «رمتني بدائها وانسلت»، فإن المتكلمين وإن راموا النقض على الفلاسفة، لم يَبرَحوا يدورون في فلك البرادايم المشّائي، مسلمّين بجملةٍ من مسلّماته الأولى، ثم شادوا ردودهم عليها من داخلِ حدوده لا من خارجه؛ فكأنّهم – في مسعاهم ذاك – كالفيلسوف النصراني اليوم إذ يُقرّ للطبيعانيّ بأصوله في تعميم طبائع الأشياء في الشاهد والغائب، ثم يطلب إثبات وجود الإله تأسيسًا على تلك الأصول، على نحو ما يُرى في نظريّات «التصميم الذكي».
هذا والتصوُّر المشّائي، ولا سيّما السّينوي، للإمكان والوجوب والامتناع Avicennian modality قد بسطَ أثرَه في الدائرة الكلاميّة، كما تجد آثاره في دليل التخصيص وما ماثله؛ فلهذا رأيتُ أن أُفرد هذا المقال لبيان وَهْن تلك المسلّمات الأبستميّة والأنطولوجيّة التي إن نحن نقضناها خرجنا من البرادايم بأسره، مقتفيًا في ذلك أثر الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية فيما قرّره في غير موضعٍ من مصنّفاته. وإلى الله نتوجّه بالسؤال أن يوفّق ويسدّد، فهو وليّ الهداية والتوفيق.
محل الإمكان وتقرير مناطه Grounding of Modality
◼️ ابن سينا Metaphysical Essentialism
ذهب أبو علي بن سينا إلى أن بين الماهية (ماهيّة الشيء، أو ما هو به هو) والوجود (تحقق الشيء في الخارج) فرقًا حقيقيًّا في نفس الأمر، لا مجرد فرقٍ في الذهن أو اللفظ. وذلك أن أصلهم في التمايز الخارجي The principle of individuation = أنه إذا كان المفهوم من (أ) غير المفهوم من (ب)، فهم متغايران في نفس الأمر.
ثم بناء على هذا الأصل، قرر تقسيم الموجودات من جهة نسبة الوجود إلى ماهياتها:
- ما كان ممكنًا لذاته (ممكن الوجود بالذات)، فهو ما لا يقتضي في ذاته وجودًا ولا عدمًا، كـ”فرسِيَّة” مثلًا، فإن تصور مفهوم “الفرسيّة” لا يستلزم تحققًا واقعيًّا.
- فإن حصل له وجود، فلابد أن يكون قد أوجده غيره، فهو واجب بالغير لا بنفسه.
- وما كان واجبًا لذاته، فهو الذي لا يتصور في حقيقته إمكان العدم، بل يستلزم الوجود بالضرورة.
فالوجود عنده لاحق للماهية من جهة الترتيب العقلي، والإمكان والوجوب ونحوها من الصفات تُستفاد من تحليل الماهية المجردة، دون اعتبار وجودها الخارجي.
ونظير هذا في اللاهوت المسيحي العقلي: توما الأكويني، فقد قرر أن “الوجود” يُضاف إلى الماهية. وهذا التمييز بين “ماهيّة” و”وجود” أصل في الميتافيزيقا التوماوية.
ولهذا فعند ابن سينا، يجوز الحكم على الأشياء بالإمكان أو الوجوب أو الاستحالة من قبل وجودها، بتحليل ماهيتها (=حدها التام):
- ما لا يقتضي وجودًا ولا عدمًا = ممكن لذاته.
- ما يقتضي تناقضًا في التصور = مستحيل لذاته.
- ما تقتضي ماهيته الوجود = واجب لذاته (وهو الله وحده).
فمناط الإمكان والوجوب عند ابن سينا: هو الماهية المتقررة في نفس الأمر.
◼️ ابن تيمية: إنكار التمييز بين الماهية والوجود
أمّا شيخ الإسلام ابن تيمية، فله موقف على خلاف أصل الفلاسفة، إذ أنكر أن تكون الماهية شيئًا مغايرًا للوجود، وقرر أن ما يُسمى “ماهية” ليس إلا عين الموجود نفسه في الخارج. وأما الماهية النوعية والمطلقة المشتركة فلا تحقق لها في الخارج؛ لامتناع أن يكون الخارج محلا للاشتراك، وإنما الاشتراك محله الذهن.
قال الشيخ في الدرء: «فما به الاشتراك إنما يكون في الذهن لا في الخارج، بل ما في الخارج ما به الامتياز فقط. وكل ما يجعل مشتركًا في الذهن، كوجوب أو تعين أو ماهية، يمكن فرضه كليًا ومعينًا، وهو في الخارج ذاته وصفاته التي تخصه، لا يحتاج إلى مميز».
فالشيء الموجود لا يحتاج إلى علّتين: علة لنوعه (مثل أن يكون إنسانًا). وعلة لشخصه (مثل أن يكون زيدًا بعينه). بل يكتفى بعلة واحدة لشخصه، لأن هذه العلة تتضمن النوع أيضًا. وهذا كمن يقول: “زيد موجود”، وهذه الكلمة تعني كل شيء عنه: نوعه، وصفاته، وشخصه.
ولهذا فلا يوجد في الخارج مشترك حقيقي بين زيد وعمرو، الموجودات الخارجية متعينة بالكامل، لا تحتاج إلى شيء خارجي لتمييزها. التعيّن جزء من ذاتها وليس صفة مضافة عليها.
فليس ثمّ ماهيّات لها مرتبة تحقق قبل الموجود المعين، ولكن الأشياء الخارجية عند الشيخ إنما تتألف من موصوف وصفته، فالإنسان الخارجي مثلا ليس مركبا من أجزاء كالجنس الطبيعي والفصل الطبيعي، أو من جوهرين أحدهما المادة وهي الجنس بشرط لا، والآخر هو الصورة وهي الفصل بشرط لا، وأما الماهية النوعية عند الشيخ: فإنما هي أمر متعقل يقال عنه ماهية، ووجودها إنما يكون في الأذهان، وأما ما في الخارج ليس إلا الموصوف وصفته.
وحتى الصفة ليست غير الموصوف عند الشيخ، إذ لا يسلم الشيخ أن التمايز الخارجي كما هو مذهب سينا حاصل بمجرد كون المفهوم من الأول غير الثاني، بل يشترط الشيخ قدرا زائدا وهو الانفصال أو قابليته (أو إمكان استقلال أحدهما بالوجود)، وإلا فلو قدرنا (أ) و(ب) متلازمين في الخارج، فإنهما ليسا غيران على مبانيه، وهو الحق الذي لا ريب فيه عند التدبر.
فإذا كان ذلك كذلك = فالإمكان والوجوب لا تُضاف إلى مفاهيم ذهنية، بل إلى أعيان واقعية موجودة، فكل ما ثبت له الوجود ثبت له حقيقته، ولا معنى لتقسيم الإمكان والوجوب قبل تحقق العين. فهذه التقسيمات لا معنى لها خارج الوجود، فالممكن هو ما وُجد، والمستحيل ما لم يُوجد ولا يمكن وجوده، والواجب ما لا يقبل الزوال من جهة وجوده الواقعي، لا من تحليل ماهيته الذهنية.
ابستمولوجيا الإمكان والوجوب The epistemology of modality
مشكلة الكليات Universals
◼️ ابن سينا: القول بالكلّي الطبيعي والمذهب الواقعي المعتدل
قرر ابن سينا أن الكلّي (كـ”الإنسانية”) له ثلاث مراتب في الوجود:
- في الأعيان: بأن يكون حالًا instantiated في الأفراد، كإنسانية زيد وعمرو.
- في الذهن: بأن يتصوره العقل بعد التجريد من الخصوصيات.
- في نفسه: بوصفه ماهية قابلة للتصور بدون تحقق خارجي.
ومن هنا، فـ”الإنسانية” عنده أمرٌ حقيقي مشترك، وإن لم تكن موجودة وجودًا مفارقًا (كما في مذهب أفلاطون). وهذا ما يسمّى الواقعية المعتدلة moderate realism.
فالتعريف كـ”الإنسان حيوان ناطق” ليس مجرد اصطلاح، بل كاشف عن حقيقة عقلية.
◼️ ابن تيمية: المذهب المفهومي التصوري
خالف ابن تيمية هذا الأصل، وصرح بأن الكلّي لا هو شيء موجود خارج الذهن كما هو مذهبهم، ولا هو مجرد لفظ بلا دلالة كما هو مذهب الاسمية، بل هو مفهوم ذهني ولفظ يدل على كثيرين، ودلالته ناشئة من انطباق المعنى على الأفراد، لا من جهة أن في الخارج شيئًا كليًا مشتركًا.
فالعقل لاحظ التشابه بين الأفراد بجرده على نحو اختزالي تبسيطي فيما نسميه كليات، فهي صور ذهنية تعكس وجوه الشبه القائمة في الخارج، انتزعها العقل بالتجريد مما أدركه بالحس، فهي تلخيصات عقلية لما في الواقع من التماثل، لا محض اصطلاحات موضوعة بلا أصل محسوس.
فـ”سقراط” و”أفلاطون” يشتركان في كونهما إنسانين، لا لأنّ فيهما جوهرًا واحدًا مشتركًا، بل لأنّ الذهن يحكم عليهما بحالة واحدة لوقوع التشابه المعنوي بين صفتيهما، وهذا يكفي كمصحح لإطلاق اللفظ.
فالكلّي عنده: لا وجود له إلا في العقل، وهو وسيلة لتيسير الخطاب فقط، لا بيان الحقيقة.
فقول ابن سينا بأن الكلي الطبيعي جزء من الأفراد عند الشيخ تناقض، إذ لو كان جزئا لكان متميزا عن غيره، موصوفا بما يمنع الشركة وهو غير حاصل في الكلي. قال الشيخ تقي الدين في الدرء: «وليس في المعين المشخص ما هو مطلق، ولا في الجزئي ما هو كلي، فإن كون الكلي ينحصر في الجزئي، والمطلق في المعين = ممتنع».
أثر هذا على المبحث الدلالي Metasementics
◼️ ابن سينا: المعنى ثابت بالحقيقة، والتعريف يكشف عنه
تذكر ما تقدم شرحه من مذهب ابن سينا الأنطولوجي في الماهية، ثم مذهبه الابستمي في الكليات، تعلم وجه تفريعه كشف الإمكان بالنظر إلى التعريف؛ فإنهم يقولون أن:
- التعيين الدلالي للفظ = بالتعريف الحقيقي (جنس + فصل)
- الدلالة = انعكاس للماهية الواقعية (التي هي محل الإمكان)
- المرجع = مفهوم كلي حال في الجزئيات، ويتشخص بزيادة العوارض عليه مكونا الهوية.
فإذا فهمت هذا، علمت لِم يقولون أن كل ما ليس في حده الوجود، فهو ممكن مفتقر في وجوده إلى غيره.
◼️ ابن تيمية: المعنى تابع للاستعمال، لا للماهية
وإذا فهمت ما تقدم شرحه من قول الشيخ في الكليات، علمت مخالفته للمشائين في كون التعريف كاشفا عن تمام ماهية المحدود، فإن التعريف على قوله يكون بالضرورة أداة اختزالية تبسيطية، وهذا لازم من نظرة الشيخ للتجريد (خلافا لنظرية الانتزاع)، فيكون غايتة التعريف حصول تميز الشيء عن غيره في الذهن.
وهذا يرجع أيضا لخلاف بين الداخلية الدلالية والخارجية الدلالية Semantic Internalism vs Externalism؟ أي هل تكتسب الألفاظ معانيها من داخل الذهن أو خارجه؟ والشيخ يختار الثاني، فالألفاظ تكتسب معانيها بالاستعمال، وتنشأ في الذهن عن طريق الحس؛ فالباب مسدود إلى نظر قبلي في الماهيات، فتدبر!
فالمُعرف يتميز في الذهن عن غيره، بذكر ما به الاشتراك مع ما نعرف في عادتنا الحسية -حتى يكون جامعا- وما به الامتياز عن ما في عادتنا -حتى يكون مانعا-؛ وهذا بالتنسيب إلى ما في عادتنا كما هو ظاهر، فما كان حدا جامعا مانعا في عادة الشخص (أ)، قد لا يكون كذلك في عادة الشخص (ب). مثاله: تعريف النحلة بأنها حشرة تنتج العسل. فهذا تعريف صحيح جامع مانع يميز المعرف في ذهن إنسان عامي (أ)، ولكنه ليس كذلك عند متخصص في الحشرات (ب)، يعلم أن نملة العسل أيضا تنتج العسل. فالتعريف صحيح عند الشخص الأول بما يناسب عادته دون الثاني.
فكما ترى: التعريفات تنشأ من اختيار بعض الصفات المميزة دون غيرها، مع وجود صفات أخرى مشتركة. فلا معيار موضوعي قطعي يوجب تقديم بعض الصفات في التعريف دون غيرها. ومن ثم فالتعريف مبني على الاصطلاح وليس الانتزاع الواقعي للماهية المجردة.
وعلى القول أن الألفاظ تكتسب معانيها بالاستعمال، وأن التعريف وسيلة أداتية لتميز المعرف في الذهن، وما به يحصل التميز الذهني غير ما به يكون الشيء هو هو = يبطل المسلك السينوي في معرفة الإمكان والوجوب بالتحليل الذهني. فثمة فرق بين ما يجعل الشيء هو وليس غيره، وبين ما يكسب الشيء مسماه في لغاتنا.
ونظير هذا تفريق جون لوك بين الجوهر الاسمي Nominal Essence، أي مجموع الصفات الظاهرة التي يلاحظها العقل ويجردها، ثم يبني عليها الألفاظ والتصنيفات. والجوهر الحقيقي Real Essence، وهو المستقل عن إدراكنا؛ وكذلك هو مذهب طوائف من الغربيين ليس هذا موضع شرح مذاهبهم.
ملحق: تفريع تفاصيل تيمية في الإمكان
فإذا فهمت ما تقدم ذكره، فهمت تفريق الشيخ بين: الإمكان ذهني، والإمكان الخارجي؛ فالإمكان الذهني أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه، بل يقول يمكن هذا لا لعلمه بإمكانه = بل لعدم علمه بامتناعه، مع أن ذاك الشيء قد يكون ممتنعا في الخارج.
وأما الإمكان الخارجي فأن يعلم إمكان الشيء في الخارج، وهذا وجودي فلا بد له مقتضي وجودي، وهو إما قوة الفاعل وقدرته Active potency، أو قابلية محل Passive potency؛ فلا معنى للقول بإمكان شيء إن لم يكن ثمة في الخارج سبب قادر على إيجاده.
وهذا يحصل العلم به معرفيا: بأن يعلم وجوده في الخارج أو وجود نظيره أو وجود ما هو أبعد عن الوجود منه، فإذا كان الأبعد عن قبول الوجود موجودا ممكن الوجود فالأقرب إلى الوجود منه أولى.
فـ«الممكن» الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجودًا بنفسه، بل إن حصل له ما يُوجده؛ وإلا كان معدوما، فالأصل في الممكن العدم، فعدم المرجح يستلزم عدم الممكن، لا أنه الموجب لعدمه.
فما ثم إلا موجود واجب إما بنفسه وإما بغيره، أو معدوم إما لنفسه وإما لغيره، والممكن أن حصل مقتضيه التام: وجب بغيره، وإلا كان ممتنعًا لغيره، والممكن بنفسه: إما واجب لغيره، وإما ممتنع لغيره.
وكلُّ ما أمكن وجوده بدلا عن عدمه، وعدمه بدلا عن وجوده فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له؛ وهذا بين.
فما كان موجودًا، فإما أن يكون مفتقرا في وجوده إلى غيره، وإما ألا يكون: فإن كان مفتقرًا في وجوده إلى غيره؛ لم يكن وجوده بنفسه، بل: بذلك الغير الذي هو مفتقر إليه. وإن لم يكن مفتقرا في وجوده إلى غيره؛ كان موجودًا بنفسه.
الموجود بنفسه لا يكون مفتقرًا إلى غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون موجودًا بنفسه؛ فالموجود بنفسه الذي لا يفتقر إلى غيره واجب بنفسه؛ إذ نفسه كافية في وجوده، فهوِيَّتُه ثابتةٌ بهويته، فحيث قُدرت هويته؛ لم يمكن عدمها.
فعلى هذا التقدير: يكون سبيل العلم بإمكان الممكنات عند الشيخ بالنظر إلى لوازمه، فإن كان الإمكان ملازما للحدوث والنقص، كان الثانين دالين على الأول؛ هذا والشيخ يفضل إضمار مقدمة الإمكان لظهورها، ويرى دلالة الحادث على المحدث، والنقص والكمال أقرب للبداهة من تجريد الإمكان والوجوب.
وأقرب الفلاسفة ممن وقفت عليهم إلى هذا التقرير التيمي في الإمكان، هو الفيلسوف المسيحي دون سكوتوس (1266–1308)، وفرانسيسكو سواريز (1548–1617)؛ ونحن في هذه المقال نذكر لمحات تفيد اللبيب، وحق هذا البحث إفراد مصنف.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.