قضايا

لماذا لم نعثر على هياكل عملاقة لبني آدم؟

جواب سؤال حول قولهم: لماذا لم نعثر على هياكل عملاقة لبني آدم؟

الحمد لله رب العالمين. أما بعد، فقد سألني بعض الإخوة وفقه الله هذا السؤال:
اطلعت على منشوركم الأخير حول ردكم على أحد الدراونة،لكن هناك اشكال بخصوص طول آدم عليه السلام (ستون ذراعا) كما جاء في الأحاديث ،صحيح أن شرحكم جاء بشكل مفصل في كون هيئة الأرض من حيث طبائع الأشياء في عصر آدم عليه السلام ليست كما هي عليه الأن،لكن ألا يفترض أن نعثر على عدد كبير من الهياكل العظمية العملاقة لذرية آدم الأولى (ذرية العصر الأول) وكذلك هياكل المرحلة الإنتقالية بين ذرية العصر الأول و ذرية العصور اللاحقة،وهل يصح القول بأن هيئة آدم عليه السلام المذكور في الحديث هي هيئته في الجنة قبل أن ينزل إلى الأرض وتتحول هيئته إلى الحالة العادية المعروفة الآن.
انتهى السؤال.
فأقول مستعينا بالله تعالى، إن جواب هذا السؤال من وجهين. الوجه الأول أنك بارك الله فيك، تؤسس على مقدمة راسخة عندك مفادها أنه لم يعثر أحد أبدا على بقايا عظمية لبشر عظيمي الخلقة، فيما يقال له “العماليق” giants في كثير من الحضارات القديمة، وهذا لا نسلم به ابتداء، ولا يمكن التسليم به أو تصديق من يزعمونه من الجيولوجيين والأنثروبولوجيين، لماذا؟ لأننا نعلم عن البارادايم الأكاديمي السائد في هذه القضية أنه يقوم قياما كليا على تأويل جميع الكشوفات الحفرية أيا ما كانت، بما يلائم فروضه النظرية الأولى. وهذه هي طريقة الطبيعيين في جميع النظريات التي تتخذ من القضايا الغيبية مطلقة التغييب موضوعا لها (كما هو الشأن في قضية النشأة الأولى للبشر وللأنواع الحية ولهذا العالم من حولنا)! فعندما يخرج من حوض ذلك البارادايم الزعم بأننا لم نعثر “أبدا” من قبل على هياكل عظمية عملاقة لبشر عماليق، فلا يكون هذا من أصحابه تقريرا لحقيقة نسلم بها ونصدقها وكأن موضوعها مشاهدة صريحة لا مدخل فيها للتأويل! فأنت إذا بحثت على الإنترنت في بحث سريع عن بقايا البشر العماليق وما كان من كشوفات أحفورية لجماجم عملاقة وهذه الأشياء، فستجد من يزعمون أنهم عثروا على ذلك ولا شك. وهم كثير. صحيح إن منهم من قد تبين فعلا أنهم كاذبون أو أصحاب حيل وألاعيب لا حقيقة لها، ولكن نحن نتكلم عن أكاديمية قد استقر اعتقادها استقرارا مبرما ومنصرما على أن دعوى البشر العماليق هذه خرافة من جملة الخرافات التي توجد عند بعض أمم البشر وفي بعض الثقافات القديمة، ولا محل لها البتة في التصور الدارويني لتطور النوع البشري! فكيف تنتظر ممن هذه طريقتهم (تقرير الاعتقاد أولا ثم الاستدلال له بتأويل المشاهدات)، أن يسلموا لأي كشف من الكشوفات التي قد تقع لأحدهم يوما ما، بأنها تدل على وجود بشر أقدمين بهذه الهيئة العظيمة أو بقريب منها؟ لن يحدث هذا أبدا، وليس بالأمر الذي نتوقعه! بل إن الباحث الأركيولوجي أو الأنثروبولوجي الذي قد يقع على شيء من هذا، سيضطر لأن يتأوله على أيما وجه خلاف ما وجده عليه، وقد يهمل الكشف بالكلية من تلقاء نفسه، حتى لا يعرض نفسه لتسفيه الأقران، ويخسر مسيرته الأكاديمية أو التمويل البحثي الذي يقتات عليه! الداروينية حاكمة على عقول القوم حكما تاما غير مردود، بارك الله فيك. هي نظارة لا يملك أحدهم أن ينظر إلى العالم إلا من خلالها، وإلا اتهم بالجهل والحماقة وترويج الخرافات. الرجل منهم قد يكذب عينيه، ولا يخرج عن الخطة الداروينية قيد أنملة!! وقد رأينا منهم من يزيف ما يزعمه أدلة مصدقة لتلك النظرية تزويرا وكذبا، يريد أن يصنع لنفسه بها محلا في تلك الأكاديمية!! فكيف تنتظر ممن هذا دينهم وهذه أخلاقهم، أن يجرؤوا على مواجهة الأكاديمية بما يزعمونه كشفا مصادما للنظرية، إن وقع لهم؟؟
ونظير ذلك الصرف بالتأويل، يقع أحيانا في جنس من الكشوفات التي اصطلحوا على تسميتها بالكشوفات الصناعية الخارجة عن محلها Out of place artifacts! فأحيانا يقع لأحدهم اكتشاف لآلة أو بقايا لماكينة في طبقة من الطبقات الأرضية، يمتنع، بناء على التصور الدارويني المزعوم لتطور الجنس البشري، أن توجد في تلك الطبقة! لماذا؟ لأن النظرية تفيد بأن الهوموسابيينز في تلك الحقبة التاريخية لم يكونوا قد وجدوا أصلا، بل كانوا بعد في أصلاب قردة تتقافز على الأشجار!! فكيف يتحصل لجماعة من تلك القردة العليا المزعومة أن تخترع آلة كهذه؟؟ غير متصور قطعا! وإذن فلابد من المصير إلى تأويل يلائم البارادايم المعتمد ولا يصادمه، كأن يقال مثلا: لابد وأن هذه الماكينة قد سقطت في حفرة أو صدع أرضي أو ما شاكل ذلك، فهبطت إلى طبقة أدنى من الطبقة التي وجد فيها من صنعوها، ولهذا وجدناها حيث وجدناها!! مع أن تأويلا كهذا، على ما هو عليه من التكلف الظاهر Ad-hoc explanation، قد يرد بنفس قوة الاحتمالية (*) على كثير من الكشوفات التي يزعمونها دليلا على التطور المزعوم للجنس البشري من الأساس، مع ما قد يلائم ذلك التأويل من إعادة نظر في بعض الفروض الجيولوجية ذات الصلة، مما لا يزالون يتكلفونه كل يوم بما يلائم ما يعتقدون، ولا إشكال!! فمن الحفريات ما يدعي مكتشفوه أيضا من وقت لآخر أنهم قد عثروا عليه خارجا عن الإطار الدارويني المتوقع له Out of Order Fossils، فمهما كان صاحب هذه الدعوى صادقا في ذلك، فلن يحظى إلا بالتكذيب والتسفيه غالبا، ما لم يتمكن من اختراع تأويل يلائم البارادايم الدارويني، كهذا الذي ذكرته لك آنفا! لقد بات معروفا عن القائمين على المتحف السميثسوني Smithsonian على سبيل المثل، اشتغالهم بتكذيب وتفنيد كل دعوى يدعيها أحدهم بأنه اكتشف جمجمة أو عظما من بقايا بشر عماليق، إلى حد أن زعم بعض الناس في مواقع على الإنترنت (فيما هو خارج ولا شك عن إطار الأكاديمية المعتمدة) أن هناك “مؤامرة” لإخفاء هذه القضية بالكلية. وحقيقة الأمر ليست “تآمرا” ولا شيء من ذلك كما مر، وإنما هو التزام منهجي صارم بحفظ البارادايم الأكاديمي السائد، في قضية ما كان للقوم أن يتعلقوا فيها باعتقاد نظري أصلا من مبدأ الأمر! لست أدعي أن ممن كذبوهم وأبطلوا دعاواهم من كانوا صادقين، فهذا لا علم لي به ولا أتطلبه أصلا ولا أحتاج لإثباته، وإنما أقول إن من عرف طريقة القوم في سباكة النظريات والدعاوى في هذا الباب، لم يبال هل عثروا حقا على شيء أم لم يعثروا! فمثل هذا لا يؤخذ العلم به إلا من السمع إن ثبت، وإلا فلا علم ولا معرفة! وإنما تلاعب بالتأويل وترويج للخرافة الملبسة بلبوس العلم لا غير! (**)
وهذا هو الوجه الثاني في هذا الجواب، أن نقول: عدم العلم ليس علما بالعدم، بارك الله فيك! فغاية ما يقال إن صح وسلمنا فعلا بأنه لم يقع لأحد أبدا أي كشف لبقايا لتلك الهياكل البشرية العظيمة، في أي مكان في العالم (***)، إننا لم نعثر على ما ينافي ما نعتقده من ذلك! بل ويقال: لا يمكن أن نعثر على ما ينافيه، لأنه عندنا في أعلى درجات الثبوت المعرفي، وتأويل المشاهدات على طريقة هؤلاء لا يفيد معرفة أصلا حتى يبلغ أن يكون ظنا يدعونا للترجيح أو الموازنة بينه وبين ما نعتقد في نفس الأمر!! هذا هو ميزان المسألة عند أهل السنة! فلا نبالي ما الذي عثروا عليه إن عثروا، كل هذا لا يزيحنا بفضل الله عن اعتقادنا طرفة عين، لأنه لا يبلغ أن يؤثر فيه بشيء، ولله الحمد أولا وآخرا.
وأما قولك، بارك الله فيك، هل يصح أن يكون ذلك الطول في الجنة فقط، قبل أن يهبط إلى الأرض، فلا يصح قطعا، ولا قائل به من أهل العلم، لأنه مصادم لصريح النص، إذ قوله عليه السلام لم يزل يتناقص إلى الآن، دليل على أن آدم نزل بطوله، وأنجب من أنجب من ذريته وهو على ذلك الطول الذي نزل به، ثم لم تزل تلك الذرية يولد منها من هم أقصر قامة، وأنقص خلقة، حتى انتهينا إلى ما نحن عليه الآن، والله أعلم.
——————————–
(*) على سبيل التنزل مع الخصم.
(**) ومما قد يقال هنا على سبيل الاستئناس، أن من اكتشافات القوم الأحفورية التي لا تزال مثارا للجدل فيما بينهم، نوع يقال له mega-fauna ونظيره mega-flora، والنوع الأول هو بقايا لهياكل حيوانات عملاقة، من نفس الأنواع التي نعرفها الآن، ولكن نعرفها بأحجام أصغر مما تدل عليه هذه البقايا بكثير. والنوع الثاني نظيره ولكن في النباتات. وأشهر مثال لذلك، فيل الماموث المعروف. والمقارنة بين أحجام الزواحف التي يقال لها الديناصورات وأحجام ما يناظرها في عصرنا هذا من الزواحف المشابهة، يشعرك بأن هذا التناقص والتضاؤل وقع أيضا في بعض تلك الأنواع، وليس أنها انقرضت كلها بالكلية كما يدعى في الرواية الداروينية المعتمدة. لكن كما ذكرت لك، لابد من أن تٌتأول جميع المشاهدات والكشوفات على نسق واحد، يجري وفق الخطة الداروينية، لا بما قد يشكل عليها أو يضع أصحابها في حرج! وعلى أي حال فطريقة أصحاب جيولوجيا الطوفان هذه، والأركيولوجيا الإنجيلية وهذه الأشياء، لا نسلكها ولا نجيزها منهجيا، والله الهادي.
(***) علما بأنا لا ندري ما معدل التناقص هذا بالمناسبة، وفي أي محل منه، تاريخيا، وقع الطوفان الذي أغرق الأرض كلها على الصحيح، فغير من هيئتها الجيولوجية، ومما تخفيه قشرة الأرض العليا من الدفائن ما غير، مما لا يعلمه إلا الله! هل كان أولاد آدم عليه السلام قريبين من طول قامته، أم كانوا أقصر منه بفارق كبير؟ وهل اقترب طول الإنسان في متوسطه الحسابي من الطول الحالي قبيل الطوفان مباشرة أم بعده بقليل أم بكثير، إلى أن انتهى إلى المتوسط المعهود حاليا في عصر النبي عليه السلام؟ كل هذا لا مدخل للنظر فيه، مع كونه ولا شك مما يؤثر على احتمالات وجدان تلك الآثار حيث يحفر القوم غالبا بحثا عن الحفريات البشرية! فالأمر فيه طبقات من التغييب، ومن وقائع تخالف عادة البشر ومعهودهم بالضرورة، تجعل من غير المعقول ولا المقبول أن يستدل لشيء فيها لا إثباتا ولا نفيا، بشيء مما يعثر عليه الناس من تلك الرمم!

منقول من قناة إقناع

قناة إقناع غير مسؤولة عن نقل منشوراتها إلى هذا الموقع ، إنما هو عمل فردي من إدارة موقعنا

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button