قضايا

جواب شبهة امتناع أن يكون أصل كل نوع حي زوج من ذكر وأنثى

جواب شبهة الدراونة في امتناع أن يكون الأصل في الأنواع الحية هو زوج واحد من ذكر وأنثى

الحمد لله وحده، أما بعد،
فقد أرسل إلي أحد الإخوة سؤالا، رأيت أن أعمم الفائدة بنشر جوابه على الصفحة، أسأل الله أن ينفع به.
قال السائل: السلام عليكم شيخنا. رأيت هذا الكلام وأتمنى ردكم عليه بارك الله فيكم.
يقول : لو حدَث , ووقعت كارثة طبيعية قامت بإفناء الجنس البشري الحالي ( الهوموسابيانز ) , إلا رجلاً واحداً , وامرأةً واحدة , كم تبلغ فرصتهما في التزاوج و التناسل من أجل استبقاء نوع ( الهوماسابيانز ) ثانيةً ؟
ج : صفر في المائة …. أي أنه سيكون محكوماً عليهما بالانقراض وانقراض الجنس البشري ” الهوموسابيانز “
وهذا يعود إلى مبدأ في علم البيولوجيا والإيكولوجيا يسمي :
MVP ” Minimum viable population “
أو ( الحد الأدنى للسكان القابلين للحياة ) …
—————————-
فالحوض الجيني , المؤلف من محصلة جينات ذكر واحد , وأنثى واحدة , لا يكفي لاستحداث التنوع الجيني المطلوب للتكيف مع الظروف المتغيرة للبيئة , مما يعني – بالتالي – انقراض هذا النوع …
ولهذا السبب , حين تنخفض أعداد أفراد أحد أنواع الكائنات , إلى أقل من هذا الحد الأدنى , يتم الاحتفاظ بالأفراد المتبقية في ( محميات طبيعية ) في محاولةٍ لحفظها من الانقراض ….
——————————
وهذا واحدٌ من أهم الأسباب التي تجعل من الاستحالة العلمية قبول فكرة الخلق المستقل القائمة على نشأة كل نوع من الكائنات ابتداءً من ذكر واحد وأنثى واحدة …. – ” أتحدث هنا عن الرؤية العلمية ( البيولوجية ) وليس عن السرديات الدينية بكل تأكيد ” ….
انتهى نص السؤال
فأقول في الجواب بحول الله وقوته:
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كل هذا الكلام يا أخي الحبيب، جار فيه صاحبه على طريقة الطبيعيين الدهرية فيما يقال له الطبيعية المنهجية، أنه يبدأ أولا بالجزم الاعتقادي الصارم بأن حوادث النشأة الأولى هي بالضرورة حوادث “طبيعية”، بمعنى أنها جارية على ما يعرفه الفيزيائيون من القوانين الطبيعية، على أساس أن ما هو اليوم خصيصة أو طبع مركب في نوع من أنواع المادة القائمة في العالم المشاهد من حولنا، أو سنة سببية متعلقة بذلك الطبع، فلابد أنه كان كذلك من الأزل بلا ابتداء، في نفس نوع المادة القائمة في الوجود من الأزل بلا ابتداء، ما لم يقم له من المعادلات التي استعملها في نمذجة الواقع محل النظر، أو من جملة الفروض التي تحصلت لديه في بنائه النظري، ما يلزمه بتقييد شيء مما أطلق، أو تخصيص شيء مما عمم. ومثال ذلك التقييد كما أضربه كثيرا في الكلام في هذه القضايا، ما مالت إليه الأكاديمية في القرن الماضي من صياغة معادلة النسبية العامة بحيث يكون لانطباقها على الموجودات في الأعيان حد زماني في الماضي لا يتجاوزه. فهم وإن كانوا قد جعلوها بحيث لا تنطبق على ماضي العالم من الأزل، فلم يسلكوا المسلك نفسه مع معادلات ميكانيكا الكم، فبقوا في تصورهم لما يقال له المجال الكمومي الكوني، قائلين بجريان القوانين الكمومية من الأزل بلا ابتداء، على مجال هو عندهم قائم في الأعيان أيضا من الأزل بلا ابتداء. فعامة الفيزيائيين كما ذكرنا قائلون بقدم مادة العالم، وإن مال الأكثرون منهم إلى القول بحدوث هيئته المعروفة حاليا! والذين قالوا منهم إن مادة العالم لابد وأنها كلها حادثة وليست قديمة، هؤلاء إنما قالوه جريا على نفس المنهج الدهري (الطبيعية المنهجية) في التعامل مع الوجود في الأعيان، من حيث هو وجود في الأعيان! فغاية الأمر عندهم أنهم استحسنوا قالبا رياضيا معينا في توصيف اللحظة الأولى في تاريخ الزمكان النسباني المزعوم، صيرها بحيث لا تكون نقطة محددة أصلا، فلا يمكن القول بأن شيئا ما قد وجد قبلها أو أن حادثا ما قد حدث قبلها، فيكون العالم إذن حادثا وغير حادث معا، قديما وغير قديم معا، ويكون العبث الرياضي الذي تصوروه في أنموذجهم ابتداء لكل ما في الأعيان، ولا يكون ابتداء لشيء أصلا في نفس الوقت! والقصد أن المنهج الصارم الذي يلتزمونه جميعا، إنما هو الطرد المطلق لفروضهم وأقيستهم في جميع جهات الزمان والمكان بلا حد ولا قيد، إلا ما قد يستحسنه أحدهم عند جمعه ما تحصل من فروض وتصورات ملائمة وذات تعلق بمسألته، عند أقرانه في الأكاديمية! يجب، بطبيعة الحال، أن يكون الأنموذج النظري متناسقا داخليا، سالما من التناقض أو الاضطراب الرياضي، ومن مصادمة التأويلات المستساغة عندهم لمخرجات الرصد والتجريب ذات الصلة، أيا ما كان موضوع ذلك الأنموذج ومادة النظر فيه! كل ما في الأعيان في كل زمان ومكان، هو عندهم خاضع للنظر الطبيعي مبدئيا. وهذا هو أول ما نخالفهم فيه، ويجب أن يكون موقفنا المنهجي فيه موقفا صارما حازما لا يلين.
فلأنهم يعتنقون ذلك المنهج الدهري الصارم، فلا يجيزون الكلام في حوادث نشأة الأنواع الحية (النشأة الأولى على غير مثال سابق)، إلا بجهة من جهات القياس على ما هو معتاد من طبائع الأنواع الحية كما يرونها الآن، وعلاقتها بطبائع الجمادات في العالم! فنحن في الحقيقة لا ندري كيف خلق الله الأزواج الأولى من كل نوع، ولا كيف كانت خصائصها الوراثية والجينية (خلافا لما يفرضونه فرضا بناء على نفس الطرد الأعمى لمعدلات التغير الجيني المرصودة حاليا في الأنواع التي يبحثونها)، ولا كيف كانت حال البيئة التي نشرها الله فيها حين نشرها سبحانه، إلى غير ذلك من أمور هم يعتقدون أن مجراها في العالم على أمرين: القانون الطبيعي الأعمى المطرد البتة، والعشواء الوجودية المحضة stochasticity! فإذا برئت من هذا الاعتقاد، سقط هذا الكلام الذي تفضلت بنقله، وجميع ما يدور في فلكه وما يناظره! وهذا مما يجب أن يعتني طالب العلم بفهمه ودركه، أن يعلم أين يضع يده عند رد شبهة المخالف وبيان بطلانها! يتعلم كيف يضرب على رأس الأفعى فيدمغها، ولا يلتفت إلى ذيلها! كيف يضرب على قاعدة البنيان فيهدمه على رؤوس أصحابه، ولا ينشغل ببنيات الطريق. ومن تابع السلاسل ذات الصلة بالنظر التجريبي وأبحاث الطبيعيين التي نحن ماضون في نشرها هنا على هذه القناة المباركة، فإنه يكتسب هذه الملكة بفضل الله وتوفيقه، نسأل الله السداد والتوفيق.
يقول صاحب النص المنقول: ” لو حدَث , ووقعت كارثة طبيعية قامت بإفناء الجنس البشري الحالي ( الهوموسابيانز ) , إلا رجلاً واحداً , وامرأةً واحدة , كم تبلغ فرصتهما في التزاوج و التناسل من أجل استبقاء نوع ( الهوماسابيانز ) ثانيةً ؟
ج : صفر في المائة …. أي أنه سيكون محكوماً عليهما بالانقراض وانقراض الجنس البشري ” الهوموسابيانز “
قلت: هنا مغالطات وليس مغالطة واحدة. فأما المغالطة الأولى، فتعرف عند أصحاب علم الإحصاء بمغالطة المعدل الأساسي Base Rate Fallacy. فهنا هو يريد أن يقدر احتمالية أن يتمكن أولاد آدم وحواء من التناسل والتكاثر في الأرض من رجل واحد وامرأة واحدة، فيقدر ذلك بماذا؟ بافتراض أن حصل الآن، في عصرنا هذا، أن انقرض جميع بني آدم إلا رجلا واحدا وامرأة واحدة، ثم اجتمع هذا الرجل وتلك المرأة ليتناسلا، فهل يتصور لهما أن ينتشر نسلهما ويتكيف مع الأحوال البيئية المختلفة في أنحاء الأرض على ما هي عليه الآن أم لا؟ فهو يقيس حال آدم وحواء وذريتهما الأولى، على ما يتصور أنه سيكون عليه حال هذا الرجل الواحد وهذه المرأة الواحدة في ذلك الفرض الذي تخيله، ثم ينقل الاحتمالية التي يقدرها في الحالة المذكورة، بالقياس، ليجعلها هي نفس الاحتمالية! فما وجه المغالطة؟ أنا لا نسلم أبدا بأن حال آدم عليه السلام وخلقته (الذي جاء في السنة الصحيحة أنه كان طوله ستون ذراعا، وكان أعظم خلقة من جميع ذريته، ولا يزال الخلق يتناقص من بعده إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم)، مماثلة لحال الذكر الذي يفترض صاحب هذا الفرض بقاءه من أهل هذا العالم من بني آدم، ولا نسوي كذلك بين حواء وبين غيرها من النساء. ثم إنا لا ندري عن حال العالم ونظمه الطبيعية وفيزيائه التي كان عليها في ذلك الوقت ما به نحكم بمماثلته لما عليه حال العالم الآن! بل لابد أنها كانت حالا مغايرة بالضرورة، ملائمة لإنسان طوله كآدم وبنيته كبنيته، مما جميعه غيب مطلق، الله أعلم به! فلا أساس لهذا القياس الإحصائي ولا يقبل.
وأما المغالطة الثانية، فهي في مجال علم الإحصاء ودائرة النظر فيه من أصل الأمر. فمجال علم الإحصاء وموضوعه هو تتبع ما هو مشاهد محسوس معتاد، من مجريات الحوادث في العالم. فهل نشأة نوع البشر، في أصلها الأول، أو نشأة غيره من الأنواع الحية على غير مثال سابق، هي من جنس الحوادث المحسوسة المعتادة لنا؟؟ أبدا! ونظير ذلك يقال في نشأة جرم الأرض بكليته، ونشأة السماوات وما بينهما، كل ذلك لم نشهده ولم نشهد له نظيرا، نعلم بسبب معقول أنه يناظره ولابد!! نحن من أين يقع لنا الحكم بالمناظرة بين الحوادث المعتادة التي نجمع بعضها إلى بعض في كل استقراء صحيح؟ يقع لنا ذلك من تكرار المزاولة والملاحظة وجمع النظير إلى نظيره، ننظر فنرى هذا يشبه ذاك، وهذا يناظر ذاك، فإذا تكررت الظروف المتشابهة، وتكرر الحادث محل النظر والتتبع مقارنا لها، فبهذا يحصل الاستقراء! لكن حوادث النشأة الأولى خارجة من مبدأ الطرح، وبالنظر إلى موضوعها نفسه، من أن تكون مادة للتكرار، ومن ثم موضوعا للاستقراء!
ثم إن نفس الصورة التي يفرضها الرجل، لا نسلم له بأن علم الإحصاء يصح تطبيقه عليها! فإن مثل هذا لم يقع أبدا في عادة البشر حتى يمكننا الحكم باحتمالية تكراره كما تكررت نظائره من قبل! وهذا ينقلنا إلى المغالطة الثالثة، وهي التحكم باختيار الحالة التي يقاس عليها Arbitrary choice of analogy! فهو يفرض صورة فيها رجل واحد وامرأة واحدة قد بقيا من بني آدم، ويتصور غالبا أن كل واحد منهما قد بقي بحيث تتضاءل جدا احتمالية أن يلتقيا مهما تحرك كل واحد منهما في جهات الأرض وأنحائها من حوله! والاحتمالية هنا هي في رجل يتحرك على قدميه حركة عشوائية، يهيم على وجهه لا يقصد وجهة معينة، يبحث عن غيره من الأحياء، كما تتكرر تلك القصة في بعض روايات الخيال العلمي، فيما يقال له post-apocalyptic fiction، فهو سيضطر غالبا إلى تفصيل هذه الصورة التي يفرضها على أنه لم يبق في الأرض بشر يقومون على المطارات والسفن وآلات النقل الجوي والبري والبحري وعلى وسائل الاتصال اللاسلكي .. إلخ. الحضارة البشرية كلها سقطت وتعطلت! ونحن البشر في هذا العصر لا نتصور لأنفسنا اتصالا ولا انتقالا بدون تلك الحضارة! فلماذا يفترض أن آدم وحواء الذين يؤمن بهما المسلمون وأهل الكتاب، كان أول وجودهما على هذه الأرض بحيث لا ييسر الله لهما أسباب اللقاء، كما في هذه القصة البائسة التي تخيلها، واختار تحكما أن يقيس عليها؟؟ هذا التحكم التعسفي في اختيار ما يقاس عليه في بناء النظريات، هو من تراث الفلاسفة الأقدمين ومن طريقتهم اليونانية في وضع النظريات الميتافيزيقية المفسرة للوجود والموجود! كل ما في الوجود، سبب كونه على ما هو عليه لا على خلافه، هو هذه الكيفية التفصيلية المعينة التي اختار الفيلسوف وهو متكئ على أريكته، أن يطلقها بالقياس لتكون هي صفة كل موجود قائم في الأعيان! لابد أن يكون كل شيء مركبا من عنصرين وجوديين تجريديين، يوجدان في الأعيان على كليتهما (فيما هو في نفسه مغالطة كبرى) على الكيفية التي يدعي الفيلسوف لنفسه علما بها، مع أنها ليست إلا قياسا أو تشبيها تنجيزيا على أحسن الأحوال! وأقول تنجيزي لأنه يعين المتفلسف أحيانا على بناء النماذج الرياضية التي يحاكي بها هذا الجانب محل البحث من الواقع المشاهد، ومن ثم يتمكن من التنبؤ بمجريات الظاهرة محل الدراسة بإعمال ذلك النموذج وطرده رياضيا. وإلا ففي كثير من الأحيان لا يكون مفيدا لا في تنبؤ ولا في تطبيق، كما هو الشأن في النماذج الكوزمولوجية وما شاكلها. وللقوم سفسطة في مسألة التنبؤ prediction وجريانها في الكوزمولوجيا لا يتسع هذا المقام لبسط الكلام عليها. فلماذا يتحتم علينا أن نقيس، إن كنا فاعلين، على صورة يكون فيها الرجل والمرأة بحيث لا يتصور لهما لقاء أصلا، أو بحيث أنهما إن التقيا، فلن يكون لهما من الذرية ما تعينه أحوال البيئة التي يعيش فيها على التكاثر والتناسل، وبحيث لا تقع فيهم من “الطفرات العشوائية” التي يؤمنون هم بها، ما يفترضون هم أنفسهم أنه وقع لأول كائن حي أحادي الخلية تكاثر ولو بالانشطار في زعمهم؟ القوم تقوم نظريتهم بالكلية على افتراض أن الحوادث الطبيعية العشوائية التي شهدتها الأرض عبر بلايين السنين في زعمهم، لم تبلغ أبدا أن تتسبب في محق الحياة كلها على الأرض محقا تاما، بل ظلت الطفرات دائما تأتي، ليس فقط بما يبقي الأنواع الأولى (التي يصح فيها نفس هذا الفرض التخيلي من ضيق الحوض الجيني وقلة التنوع فيه) منتشرة على الأرض حيث هي، وقابلة للتناسل والتكاثر ولمزيد من الانتشار، بل لم تزل تأتي بما يتسبب في أن تبلغ الأنواع الحية أن تعد بالملايين، برا وبحرا وجوا، مما جميعه في اتزان بيولوجي وإيكولوجي تام مع بعضه البعض، على ما عليه الحشوة الحية الآن!! وهذه هي مغالطة ريتشارد دوكينز في مفهومه لما سماه في بعض كتبه بجبل الاحتمالية الضئيلة Mount Improbable! قال إنه لا شك أن احتمالية أن يصبح عندنا مخلوق حي بعلو الإنسان من حيث التعقد الجيني والتركب العضوي وكذا، ينشأ نشأة عشوائية محضة من المواد الأولية التي يتركب منها جسمه، هي احتمالية تبلغ من الضآلة ما يجعلها من جملة المحالات! لكن النظرية لا تقول بهذا، وإنما تقول بحوادث عشوائية ضئيلة للغاية وتغيرات وراثية ضئيلة للغاية، لم تزل تتابع عبر ملايين السنين، وهو ما يشبه الترقي البطيء للغاية على سفح جبل! فهذا عنده معقول احتماليا، ولا إشكال فيه، أن يكون العالم غارقا في حوض العشوائية الوجودية المحضة، واللاغائية الصرفة، وأن يبقى كذلك لملايين السنين، ومن ثم تعلو احتمالية أن تنشأ الحياة من مادة ميتة، ثم تترقى تلك الحياة على خطوات ضئيلة عبر بلايين السنين!! بلايين السنين من ماذا؟ من نظام معد سلفا لتعريف الوظائف اللائقة بالبيئة الطبيعية القائمة، وفيه تعريف سببي للقفل ومفتاحه (كما عبر دوكينز في بعض كلامه)؟؟ أبدا! وإنما هو نظام مادي عشوائي محض، عالم أعمى ليس فيه شيء يقع لغاية ما، أو حادث يحدث بترجيح ما، البتة! هذا الواقع الموهوم الممتنع أصلا، المصادم بداهة لمعنى كلمة “نظام” من أصل الإطلاق ومن مبدأ الأمر، هو يدعي أنه سيظل قائما جاريا على نسقه المطرد لملايين السنين، حتى تتدرج فيه الحوادث العشوائية المحضة بلا نظام ولا نسق أيضا، ولا شيء يحفظ له توازنه الإيكولوجي Equilibrium بجملته وتفصيله، مهما وقع من الحوادث الطبيعية، حتى يصبح الأمر على ما نراه الآن! فهذا محض تناقض ولا شك، وفساد في تطبيق المنطق الاحتمالي، قد بسطنا الكلام عليه في مواضعه.
فالمغالطة المنهجية الكلية في ذلك المسلك، أخي الكريم، هي أن الرجل صاحب هذا النص المنقول، يسلم سلفا بأن الوجود ليس فيه إلا المادة العمياء، وطبائعها التي اتفق لها اتفاقا أن قامت بها ولازمتها، مع ما يكون من حركة عشوائية صرفة لا حاكم لها ولا مريد ولا مرجح من ورائها! فهو يفرض، لهذا، أن يفني البشر كلهم في يوم من الأيام، بسبب “حادث طبيعي” ما، حتى لا يبقى إلا رجل واحد وامرأة واحدة، ثم يقدر احتمالية لقائهما تحت ظروف عشوائية stochastic conditions ليس فيها اعتبار لرب بالغيب لديه تقدير سابق لمصير النوع البشري، ولمبلغ ما يقع في المخلوقات الحية من موت وهلاك وانقراض تحت تأثير الحوادث “الطبيعية” على اختلاف أنواعها، دع عنك أن يكون هذا الرب نفسه بحيث قد خلق الزوج الأول من البشر على الأرض وما نشأ عنه من النسل البشري بحيث لا يتعرض لتلك المهلكات الاستئصالية الكلية التي يتصورها صاحب هذا الكلام! لابد أن تكون الحوادث كلها في ذلك “طبيعية” صرفة، بحيث يستطيع عقله المستكبر الفاسد أن يتصورها بوجوه القياس على الطبائع المعتادة له! وكأنه يشترط في حوادث النشأة الأولى أن تكون بحيث يمكنه هو نفسه لو أراد أن ينشئ نوعا حيا على الأرض في يوم من الأيام، أن يجريها بفعله وتدبيره! وقد بينا في غير موضع أن الفلاسفة مضطرون لتشبيه الأفعال الإلهية ولقياس الباري على أنفسهم لا محالة، لأنهم من الأصل لا يتصورون في الأعيان موجودا بحيث لا يكون خاضعا في سبب وجوده وفي سبب اتصافه بالصفات، للتكييف النظري الميتافيزيقي الذي يبدؤون به كل نظر، ويؤسسون عليه كل شيء! هم يشترطون على الوجود في الأعيان أن يكون بحيث يمكنهم تصوره بعقولهم، بوجه من وجوه التشبيه والتمثيل، وهذا من كبرهم واستعلائهم بعقولهم، على ما ورثوه من تصور أفلاطون لعلاقة العقل الفلسفي بالوجود المثالي أو التجريدي الكلي، الذي يكون الفيلسوف منه بمنزلة النبي الذي يأتيه الوحي بما لا ينكشف لكل أحد!
الرجل يقول إنه بسبب الظروف التي يمكن أن تفني النوع الحي قليل العدد، وتودي به إلى الانقراض، فإنه يضطر الباحثون إلى التحفظ عليه في محميات طبيعية حتى يتمكن من التكاثر بعيدا عن تلك الظروف! فلماذا لا يرد على عقله الألمعي، احتمال أن يكون الله تعالى قد هيأ كذلك للزوج الأول من كل نوع ما يحميه من تلك العشوائية الطبيعية العمياء التي يقول أصحاب المبدأ المذكور أنها تتسبب في الانقراض لا محالة؟؟ لأن الأصل عنده أنه لا غائية أصلا، ولا علم ولا حكمة ولا خلق ولا رب بالغيب البتة؟!! من كان هذا اعتقاده، فليس له أن يبحث لا في نشأة ولا في انقراض ولا أي علم أصلا، بل واجبه أن يلتزم لوازم نحلته الفاسدة، ويقول: الدنيا محض عشواء، وليس في الوجود قانون ولا نظام، وإنما يتفق لنا اتفاقا أن ننهض من فرشنا كل صباح لنرى العالم “يبدو” وكأن فيه قانون مطرد، وكأن الأفلاك فيه ثابتة على مسار رتيب لا يتغير!! وهذا ما قاله أستاذهم هيوم فعلا، بعد أن عجز، لإلحاده، عن أن يستخرج أساسا استنباطيا ضروريا لاطراد النظام السببي في العالم ولبقائه على ما نراه عليه! فإن بقاء واطراد تلك السنن على ما نراه عليه من جنس الممكنات العقلية كما أن انقطاعها أو انقلابها وزوالها بالكلية من الممكنات! ولا مرجح للممكن عقلا على خلافه من الممكنات، إلا إرادة مريد عليم حكيم يخلق ما يشاء ويختار سبحانه!!
فقول هذا الكاتب: ” وهذا واحدٌ من أهم الأسباب التي تجعل من الاستحالة العلمية قبول فكرة الخلق المستقل القائمة على نشأة كل نوع من الكائنات ابتداءً من ذكر واحد وأنثى واحدة …. – ” أتحدث هنا عن الرؤية العلمية ( البيولوجية ) وليس عن السرديات الدينية بكل تأكيد ” ….
قلت: من تدبر فيما بينا حق التدبر، فأرجو أنه قد ظهر له أنه ليس في الأمر “علم” أصلا، على مفهوم هذا الكاتب للعلم، حتى يكون ثم “استحالة علمية”، أو حتى ضآلة في الاحتمالية، أو أي موازنة بين الممكنات العقلية بأي طريق! ومن تأمل في قوله “أتحدث عن الرؤية البيولوجية وليس عن السرديات الدينية”، أدرك أن هذا الكاتب مخلوط الدين، مدخول في اعتقاده! فالظاهر أنه منتسب إلى قبلة المسلمين، وهو يشعر لهذا بعظم المأزق الذي يعانيه إن صرح بأنه لا يؤمن بآدم عليه السلام وأنه أب واحد للبشر، قد نزل النوع البشري كله من ذريته هو وامرأته الواحدة!! والرجل في كلامه تهوين من أمر معلوم في دين المسلمين بالضرورة، إذ يقول في عبارة سخيفة نسمعها كثيرا من الحداثيين والعقلانيين ومن شاكلهم من متفلسفة العصر “السرديات الدينية”! ماذا تقصد بالسرديات يا هذا؟؟ قصة آدم عليه السلام ثابتة في القرآن الذي هو أصح كتاب على وجه الأرض، كما يعتقده كل مسلم! وكوننا جميعا من ذرية هذا الرجل الواحد وتلك المرأة الواحدة، هو من المعلوم في دين المسلمين بالاضطرار! فإن كنت لا تقيم وزنا لتلك “السرديات” فصرح بإلحادك ولا تجبن، حتى يعرفك الناس!! وإلا فدع عنك هذا العبث، والتزم في تلك الغيبيات المحضة بطريقة المسلمين ومصادرهم في التلقي المعرفي، والله الهادي إلى سواء السبيل.
أبو الفداء.

منقول من قناة إقناع

قناة إقناع غير مسؤولة عن نقل منشوراتها إلى هذا الموقع ، إنما هو عمل فردي من إدارة موقعنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى