يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
« الفلسفة الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به»
[ منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى ١٤٠٦ه-١٩٨٦م، ج١، ص٣٦٥.]
قلت: وهذا نص أخر من أقوى ما يستدلون به، على أن إبن تيمية صحح أصل التفلسف وقال بوجود ” فلسفة صحيحة”. والنص كسابقه، منتزع السياق.
فكلام ابن تيمية هنا للإلزام بذلك المعنى اللغوي الذي ركبوا منه لفظ “الفلسفة”، اي محبة الحكمة ” فيلو- صوفيا”، فيكون الفيلسوف هو محب الحكمة. فهم لم يلتزموا بهذا المعنى اللغوي المباشر، وأخترعوا معنى آخر للفلسفة، وهو الذي يصدق عليهم في واقع الأمر، فقالوا أن الفلسفة هي التشبه بالاله على قدر طاقة الإنسان -وهو المعنى الذي نقل لتعريف التصوف بأنه التخلق بأخلاق الله، ووضعوا في ذلك حديثًا نسبوه للنبي ﷺ كذبًا وزورًا- ومن وعى هذا المعنى الاخير – التشبه بالاله- سيعلم أنه هو الذي لازم الفلاسفة طوال التاريخ، وهو الذي انتهى بهم إلى تأليه الإنسان. وقد بسط الكلام بخصوص هذا الموضوع في مقال ” الإنسان بين فسلفة اليونان وفطرة الإسلام”. وبينا فيه أن طريقة النظر والتنظير الميتافيزيقي التي أسسها اليونانيين وسموها فلسفة، هي التي أفضت إلى التيارات المعاصرة من نسوية وغلمانية ولواطية وغير ذلك من المصائب التي حلت على بني آدم.
لكن المقصود أن ابن تيمية يلزمهم بالمعنى الذي يلبسون به على عامة الناس، بأن الفلسفة ما هي إلا محبة الحكمة!
فقال لهم إبن تيمية:
« والمقصود هنا أن يقال لأئمتهم وحذاقهم الذين ارتفعت عقولهم ومعارفهم في الإلهيات عن كلام أرسطو وأتباعه، وكلام ابن سينا وأمثاله: ما الموجب أولا لقولكم بقدم شيء من العالم، وأنتم لا دليل لكم على قدم شيء من ذلك؟
وأصل الفلسفة عندكم مبني على الإنصاف واتباع العلم، والفيلسوف هو محب الحكمة، والفلسفة محبة الحكمة، وأنتم إذا نظرتم في كلام كل من تكلم في هذا الباب وفي غير ذلك لم تجدوا في ذلك ما يدل على قدم شيء من العالم، مع علمكم أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون بأن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن: وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.»
فهؤلاء الذين ارتفعت عقولهم على كلام أرسطو، ولم يعد في نظرهم هو حكيم الفلاسفة الأوحد، الذي لا يجب مخالفة قوله بحال. فهو ألزم هؤلاء بأصل لفظ الفلسفة، التي هي محبة الحكمة واتباع العلم. فإذا لم يكن لهم علم يدل على قدم شيء من العالم، فلماذا يتبعون هذا قول أرسطو – الذي ارتفعت عقولهم على كلامه- ؟ وهل توجب عليهم فلسفتهم – التي هي محبة الحكمة- اتباع ما لا علم لهم به ؟
بل العكس، هم يزعمون أنهم يتبعون العلم وما قام عليه البرهان اليقين.
فقال لهم إبن تيمية لم يقم برهان يقيني على قدم العالم، سواء على شرطكم في اليقين أو على غير شرطكم، فتعين أن لا تقولوا بهذا القول، والا فأنتم محبون للضلالة لا للحكمة. مقلدون لأرسطو في ذلك مع ارتفاع عقولكم عنه، بدون برهان بين يجعلكم ترجحون قوله على قول من تقدمه من أساطين الفلاسفة القائلين بحدوث هذا العالم، ولا ترجيحه على من يقول بحدوثه من اتباع الانبياء من يهود ونصارى ومسلمين، والأنبياء قامت الأدلة اليقينية على عصمتهم في هذه المسائل وأنها وحي من عند الإله الحكيم. في حين لا دليل على وجوب تقليد أرسطو في هذا القول.
لهذا قال : « وإذا عرف أن نفس فلسفتهم توجب عليهم أن لا يقولوا بقدم شيء من العالم، علم أنهم مخالفون لصريح المعقول، كما أنهم مخالفون لصحيح المنقول، وأنهم في تبديل القواعد الصحيحة المعقولة من جنس اليهود والنصارى في تبديل ما جاءت به الرسل، وهذا هو المقصود في هذا الباب.
ثم إنه إذا قدر أنه ليس عندهم من المعقول ما يعرفون به أحد الطرفين، فيكفي في ذلك إخبار الرسل باتفاقهم عن خلق السماوات والأرض وحدوث هذا العالم، والفلسفة الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به، وتبين أنهم علموا ذلك بطريق يعجزون عنها، وأنهم أعلم بالأمور الإلهية والمعاد وما يسعد النفوس ويشقيها منهم، وتدلهم على أن من اتبع الرسل كان سعيدا في الآخرة، ومن كذبهم كان شقيا في الآخرة، وأنه لو علم الرجل من الطبيعيات والرياضيات ما عسى أن يعلم وخرج عن دين الرسل كان شقيا، وأن من أطاع الله ورسوله بحسب طاقته كان سعيدا في الآخرة وإن لم يعلم شيئا من ذلك.»
قلت : وقوله : الفلسفة الصحيحة: أي محبة الحكمة كما ألزمهم به في البداية. المبنية على المعقولات المحضة : أي العقل الفطري الصريح الذي يدل الناس على صحة ما جاء به الانبياء.
هذا يوجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به. لأن الرسل أتت بالحكمة الموافقة – لا المناقضة- للمعقولات المحضة، ومحب الحكمة، سيطيعها ويتبعها. مما يلزمهم بطاعة الانبياء والمرسلين وإتباعهم.
وهذا نقيض ما يسعى له الفلاسفة، بأن محبة الحكمة تقتضي التشبه بالاله الحكيم على قدر الطاقه، التشبه به لا طاعته. وابن تيمية يقول : « من أطاع الله ورسوله بحسب طاقته كان سعيدا في الآخرة». طاعته لا التشبه به.
فإذا علمت أن إبن تيمية إنما يلزمهم بالمعنى المباشر الذي ركبوا منه لفظ الفلسفة، اي محبة الحكمة. لا المعنى الذي وضعوه هم لهذا التركيب، المعنى الذي يدل على طريقتهم السفسطائية في النظر.
بل وهذا على نقيض مطلوب من يجعل الفلسفة هي مطلق النظر العقلي. فإبن تيمية ألزم الفلاسفة بأن أصل لفظ الفلسفة هو محبة الحكمة، وبأخذ معناه المباشر يلزمهم اتباع حكمة الانبياء.
فهل “محبة الحكمة” هي “مطلق النظر العقلي ” ؟ في أي لغة يجوز هذا ؟
وأخيرًا : لو كانت الفلسفة ببساطة هي محض التعقل والنظر العقلي كيف ما كان، هذا سيجعل مئات الكتب التي كتبت في تعريف الفلسفة واعتبار سؤال ” ما الفلسفة ؟” سؤالًا إشكاليًا. لغوًا لا معنى له.
(…..)