مقدمة:
بتنا نعاني اليوم من مشكلة شاعت بين الباحثين في الطبيعيات بعموم نتيجة تعلمهم لهذه العلوم بشكل تلقيني بحت دون النظر في جذورها والمناهج النظرية والمقدمات الفلسفية التي بناها عليها أصحابها، فصار حتى نقدهم لهم يكون مبتلعًا تماما ومستوعبًا داخل الأصول الكلية الفلسفية التي استوردوا هذه الغروع منها وصار الخروج من هذه المسلمات كالخروج من المصفوفة بالنسبة لهم، فلا يتصورون أبدًا أن هذه المسلمات يجري النقاش حولها ويجب أن تكون مؤسسة تأسيسًا معرفيا صحيحا عندهم ولهم موقفًا محررًا بشكل جيد منها بحيث يخرج عنها ما هو ليس منها وتكون معيارا للتفريق بين النظرية الصحيحة والخرافة، وهذا الخلط نجده عند أناس ينتسبون لنقد النظريات الخاطئة وبيان العلم التجريبي الصحيح ومع ذلك هم في هذه الأبواب ملكيين أكثر من الملك! وسنبين ذلك في هذا المقال وسنأخذ الدكتور أحمد ابراهيم صاحب كتاب “اختراق عقل” و”السببية وميكانيكا الكم” مثالًا:
النقد:
في مقال للدكتور أحمد ابراهيم يقول:
“السفسطائيون هم أول من قالوا بأن الحس هو مصدر جميع المعارف وهذا بالطبع يتناسب مع تشكيكهم في كل شيء بما في ذلك البديهيات, ثم خفت نجم السفسطائية بفضل جهود سقراط وأفلاطون وأرسطو إلى أن عادت مرة أخرى مع الفلسفة الحديثة والقول بنسبية الحقائق وعدم موضوعيتها بل والتشكيك في وجود العالم الخارجي نفسه أو التشكيك في قدرتنا على التعرف عليه بشكل صحيح وهذا بالطبع انعكس على فلسفة العلوم من عدة وجوه”
بما انني قد قرات في فلسفة العلوم فسأرد عليه سريعا في هذه المسألة. حسب ما فهمته من كلامه ان بعد الفلسفة الحديثة و التي اظن انه يعني بها منذ عصر النهضة، يدعي ان منها نبعت نسبية المعرفة و التشكيك بوجود العالم الخارجي من جديد، فلا ادري ما مصدره لهذا الإدعاء الضخم، لأن اول ما ظهرت نظرية جاليليو فإن العديد من العلماء قبلوها على طريقة الأداتية instrumentalist و هذا فرع من الغير واقعيين، و لم يكونوا كما يدعي احمد ابراهيم، يشككون بالعالم الخارجي و قدرتنا على التعرف عليه.
و نفس الشيء حصل مع نظرية نيوتن، كانوا يؤمنون انها فقط معادلات رياضية تصف الظواهر المتكررة و لكنها لا تبين لنا حقيقة الأشياء، فهي كانت فقط وصفا رياضيا لما هو مشاهد، و لا تصف لنا السببية بحد ذاتها.
و ممكن يريد ان يقول بالفلسفة الحديثة اي قرن ٢٠. و اذا كان هذا مراده فهذا ايضا لا يخدمه لأن الفيلسوف كواين كان واقعيا و هو اكبر مسفسط في القرن ٢٠. يعني كواين شكك اذا شخصان من ثقافة مختلفة اذا تكلما معا يستحيل ان يفهما بعضهما البعض، ما سماه indeterminacy of translation. فعن اي سفسطة يتكلم و يتهم بها الغير واقعيين و الواقعيين ايضا واقعين فيها. علما انني لا اتخذ نهج الغير واقعيين الا في مقام الرد على الخصم في بعض المواضع (خاصة ما يتعلق بالغيب المطلق) لا في مقام التأسيس.
ثم يقول واصفا هؤلاء:
“…بمعاداة الواقعية anti realism والتي هي فرع ينتسب صراحة إلى السفسطائية اليونانية القديمة لكن بصورة معدلة لتخدم نفس الأفكار، وغالبا ما يتم الترويج لمثل هذه الفلسفات البائسة من خلال بعض عجائب ميكانيكا الكم أو بعض تفسيراتها الكثيرة أو النزعات المثالية عند بعض مؤسسيها مثل نيلز بور, ليخرج علينا متحمسوها فيما بعد بنتائج خرقاء يهدمون بها العلم والحقيقة الموضوعية ويزعمون أنه لا يمكن الكشف عن حقائق هذا العالم وأن النظريات العلمية مجرد أدوات تقنية تساعدنا براجماتيا للحصول على احتياجاتنا لكنها لا توفر أي وصف حقيقي للعالم”
و أيضا هذا تعميم كبير، فالغير واقعيين اصناف عديدة منهم من يقول بالكلام الذي وصفتهم به، و هم قلة عند فلاسفة العلوم و الغير واقعيين نفسهم ينتقدونهم. فلا أعلم لماذا يعمم. و هذا اقتباس من كتاب لفيلسوف غير واقعي يقول فيه:
“ثانيًا، إن صياغة بوتنام لهذه الحجة تقدم ادعاءً عالميًا. فهو يشير إلى أننا قد نجد أن “كل الكيانات النظرية التي افترضها جيل واحد… غير موجودة على نحو ثابت”. وأعتقد أنه حتى أكثر مناهضي الواقعية المعاصرين تشككاً قد يتصورون أنه من المشكوك فيه أن تكون كل الكيانات النظرية موجودة. المفترضة منذ أكثر من خمسين عاماً غير موجودة.”
-Resisting scientific realism page 71
و الكيانات النظرية هي الكيانات الغير منظورة بالعين المجردة و هذا هو اصلا محل الخلاف، و ليس في شأن الواقع كما يوهمك كلام الدكتور.
و يقول انهم يستخدمون ميكانيكا الكم كدليل على كلامهم، و هذا عجبت منه أكثر، لانه يقول:
“و غالبا ما يتم الترويج لمثل هذه الفلسفات من خلال بعض عجائب ميكانيكا الكم”
فمن أين جاء بهذا الإطلاق؟!، أنا لا انفي أنه قد يوجد و لكنهم ليسوا المتصدرين. فهلا أعطانا مصدرًا معاصرًا قد جمع أقوالهم و حججهم. بل James Ladyman و هو من أنصار الواقعية (structural realism) يستخدم مثل هذه الحجج ليفرق بين العالم الكلاسيكي و العالم الكونتي. فعندك مثلا من يسمون property instrumentalism هؤلاء يقولون لك أن في الجزء الغير منظور unobservable يوجد أشياء يجب أخذها حرفيا صحيحة و أشياء لا يجب، و هذا بناء على ميكانيكا الكم، يعني حتى مع استخدامهم لميكانيكا الكم، فهم لم يسفسطوا على الواقع المشاهد، بل قالوا بهذه التفرقة في شأن الجزء الغير منظور من الكون. فكل الفكرة أنهم يقولون لك لا تأخذ تشبيهاتك في شأن العالم الغير منظور حرفيا، فأين هذا من كلام الدكتور. ويقول rowbottom وهو فيلسوف غير واقعي أيضًا:
“لكن إحدى المهام المهمة للعلم، وفقًا لوجهة النظر التي دافعت عنها في الفصلين الأول والثاني، هي سرد قصة من حيث الأشياء التي يمكن ملاحظتها عندما يكون ذلك ممكنًا”
-the instrument of science by darrel rowbottom page 145
يعني أنه يؤمن بوجود عالم خارجي مشاهد ولا يشكك في ذلك, لأنه يضع التشبيهات بناء على الواقع الخارجي.
ثم يقول الدكتور:
“وأن الملاحظات يمكن إعادة تفسيرها ووصفها نظريا ورياضيا باستخدام نظريات أخري ونماذج رياضية أخري”.
أظن يريد ان يتكلم عن مشكلة تكافؤ الأدلة الحسية underdetermination، و الحقيقة أن هذه يقر بها الغير واقعيين و الواقعيين أنها مشكلة حقيقة و واقعة في العديد من النظريات، و أولهم دهايم و هو كان واقعيا. فعلى ماذا يشنع احمد ابراهيم على الغير واقعيين مع أنهم متفقين على المشكلة. و أصلا هذه الإشكالية يتم طرحها في الأمور الغير منظورة لا في المشاهدات المباشرة، فمججدا هذا يرد على ادعائه انهم يشككون بالوجود الخارجي.
ثم يقول:
“وقد يظن بعضنا أن فلسفة العلم بالنسبة للعلوم هي بمثابة أصول الفقه للفقه وهذا خطأ شنيع لأن أصول الفقه تعتبر القواعد الكلية التي يشتق منها ويتفرع عنها الأحكام الفقهية في حين أن دور فلاسفة العلوم ينحصر في التأريخ وليس في التأسيس للعلوم”
و هذا تعميم خاطئ ايضا، لأن demarcation problem اي التفرقة بين العلم الحقيقي و الزائف، تنتج لنا قاعدة كلية مثل قابلية الضحد (و ان كنت اقول ان مثل هذه القواعد غير ثابتة و لم يتفقوا عليها) و لكن يبقى قواعد كلية صحيح كالقدرة على القياس و التكرار و غيرها, و هذه الامور يتم مناقشتها عند فلاسفة العلم و بيان الطرق الصحيحة فيها و يوجد ما يسمى evidence based science (يحاول التحرك نحو الممارسات القائمة على الأدلة، وفي بعض الحالات، مطالبة المهنيين وغيرهم من صناع القرار بإيلاء المزيد من الاهتمام للأدلة لتوجيه عملية صنع القرار.
الهدف من الممارسة المبنية على الأدلة هو القضاء على الممارسات غير السليمة أو التي عفا عليها الزمن لصالح ممارسات أكثر فعالية من خلال تحويل أساس صنع القرار من التقاليد والحدس والخبرة غير المنهجية إلى البحث العلمي الراسخ)، و حتى هناك فرقة جديدة تسمى new experimentalists و اليوم أصبحوا يعرفون بـ empirical philosophers هدفهم أن يأتوا بمعايير فيقول أحد كتابهم متحدثا عن النزعة في نصف القرن ٢٠
“لذلك بدأ فلاسفة العلم ذوو الميول التاريخية باقتراح أن فلسفة العلم يجب أن تهتم بالبنية التاريخية للعلم بدلاً من البنية المنطقية غير التاريخية التي رأوا أنها لا علاقة لها بالمشروع العلمي الفعلي.”
Empirical philosophy of science introducing qualitative methods into philosophy of science page 2،
فهدف هؤلاء هو ليس فقط النقد، بل وضع قواعد ارشادية واقعية ليس من التاريخ بل من الواقع، كيف؟ عن طريق ما يسمى bootstrapping اي يقول الكاتب:
“يجب على الفيلسوف المنخرط في التجربة أن يتحرك ذهابًا وإيابًا بين المجرد والملموس، بين تكوين المفهوم والعمل الميداني.”
فيبقى يعدل لحين ان يصلح نموذجه مع الواقع، فتصبح قاعدة من قواعد العلم الإرشادية. فدورهم لا ينحصر فقط في التاريخ و لا في تأسيس العلم. طبعا انا اتفق معه انها غير مساوية لأصول الفقه، و لكن لا يعمم و يقول انها لا تتدخل في العلم نفسه. بل في مقال قرأته من مدة قصيرة بعنوان the significance of meaning why do over 90% of behavioral neuroscience results fail to translate to humans by joseph garner يحاول أن ينبه الباحثين ان طريقتكم خاطئة و يجب تعديلها لدرجة انه قال:
“وبالتالي، فإن هذه المقالة ليست مخصصة في المقام الأول للباحثين. لم يكن مجتمع البحث عمومًا قادرًا أو غير راغب في الاستجابة للدعوات المطالبة بتغييرات في الثقافة والممارسة في الأدب”
اي أن الفلاسفة يقومون بتنبيههم و لكن الباحثين غير مكترثين. فهذه أحدى منافع الفلسفة العلمية، هي في بيان أين هو الخطأ و محاولة تغييره.
ثم يقول الدكتور
“بل حتى لو كان هناك عقائد فلسفية مسبقة فهي خلفية غير مؤثرة لا تلعب دور المرجح أو الموجه لمسار تطوير النماذج وصياغة التجارب”
و هذا خطأ، بل الخلفية تلعب دورا مهما في توجيه البحث و هذه حتى الواقعيين يتفقون فيها ما يسمون perspective realist فتقول ana maria cretu في مقال بعنوان perspectival realism:
“أفضل وصف للواقعية المنظورية هو أنها مجموعة من وجهات النظر في فلسفة العلم الملتزمة بوجود أشياء مستقلة عن العقل وبالموقع التاريخي والثقافي للمعرفة العلمية.”
اذن الثقافة و المجتمع يؤثر في التوجه العلمي.
ثم يكمل هذا الفيلسوف في المقال:
“فموافقة النظرية الذرية لديموقريطس مثلا لا تعطي أي قيمة علمية لأفكار ديموقريطس ولا تجعلها أساس فلسفي حاكم للنظرية الذرية اليوم وإنما هو تشابه اعتباطي تماما مثل أن يوافق تاريخ عيد ميلادك تاريخ يوم استقلال سنغافورة مثلا”
فكما ترى هذا نفس انتقاد الغير واقعيين على الواقعيين، صحة التجارب لا تعني صحة الإدعاء الأنطولوجي.
و العجيب أنه يستدل ببول ديراك ضد فلسفة العلوم و انه لا فائدة لها، و ديراك نفسه يقول:
“النظرية الرياضية الجميلة هي اصح من البشعة اذا كلاهما يتناسبان مع بعض البيانات التجريبية”
فنظريته للترجيح هي الجمال، فهل يوجد سفسطة كهذه؟ فاذا هو اراد ان يجعل كلام ديراك حجة و انه مرجع غربي يقتدى به و ليس فقط استئناث، فعليه ان يقبل ان ديراك مثله مثل الغير واقعيين في السفسطة.
و الأعجب من ذلك يقول الدكتور:
“وقريب من هذا (ان الفلسفة العلمية لا فائدة منها) يمكنك الوقوف على كلام لفيزيائيين كبار مثل فاينمان وآينشتين وهايزنبيرغ وغيرهم”
و لا يعلم ان هازنبرغ نفسه غير واقعي!
ثم قال:
ومن الأمثلة التي يعول عليها فلاسفة معاداة الواقعية كثيرا ,مثال عدم وجود تجربة أو مشاهدة يمكنها الترجيح بين نسبية لورانتيز التي تعتمد على وجود الأثير ونسبية آينشتين التي تنفي وجوده وهذا في الحقيقة مثال سقيم جدا ..”
و هنا يتبين لك خطأ الدكتور وأنه لم يفهم المسألة و حجة الغير واقعيين، لأنهم ما يدعونه هو في شأن الإدعاءات الأنطولوجية الغير قابلة للرقص، أي لا يوجد تجربة من خلالها تستطيع ان تتأكد اي الإدعاء أن الجانب الأنطولوجي الغيبي هو الصحيح.
“…إلى أن عادت مرة أخرى مع الفلسفة الحديثة والقول بنسبية الحقائق وعدم موضوعيتها بل والتشكيك في وجود العالم الخارجي نفسه أو التشكيك في قدرتنا على التعرف عليه بشكل صحيح وهذا بالطبع انعكس على فلسفة العلوم من عدة وجوه أبرزها ما يعرف بمعاداة الواقعية anti realism”
“يدور جدل الواقعية العلمية/اللاواقعية في فلسفة العلوم المعاصرة حول المعرفة النظرية، أي المعرفة التي من المفترض أن تكون حول ما يسمى بـ “غير القابلة للملاحظة” unobservables. يتضمن ذلك الكيانات النظرية، مثل النيوترينوات والجينات، بالإضافة إلى العمليات النظرية، مثل الانتقاء الطبيعي والانجراف القاري. هل المعرفة النظرية في العلوم ممكنة؟ بشكل عام، يميل الواقعيون العلميون إلى الاعتقاد بأن العلم يمكنه (وهو ما يفعله) أن ينتج معرفة نظرية، في حين يميل اللاواقعيون إلى الاعتقاد بأن العلم لا يستطيع (ولا ينتج) معرفة نظرية (أي معرفة حول ما لا يمكن ملاحظته).”realism vs anti-realism in contemporary philosophy of science
“إلى أن عادت مرة أخرى مع الفلسفة الحديثة والقول بنسبية الحقائق وعدم موضوعيتها بل والتشكيك في وجود العالم الخارجي نفسه أو التشكيك في قدرتنا على التعرف عليه بشكل صحيح وهذا بالطبع انعكس على فلسفة العلوم من عدة وجوه أبرزها ما يعرف بمعاداة الواقعية anti realism”
“إن مثل هذا الإنكار الجذري نادر جدًا: فالعدميون ينكرون وجود أي شيء، والمشككون ينكرون إمكانية معرفة أي شيء”
و في النهاية أقول له، لم يعد يوجد واقعيين اليوم، بل أصبحوا يسمون بالإنتقائيين او الشاكون الواقعيون selective/skeptic realists و هذا بعد انتقادات الغير واقعيين لهم، و تكاد لا ترى فرقا بين العديد من الغير واقعيين و الواقعيين، قمثلا قارن بين ما يسمى relative realism في كتاب moti mizrahi بعنوان the relativity of theory و منهج الconstructive empiricsts, او instrumental realism و راجع كتاب
Current Trends in Philosophy of Science page 165
ملخص النقد:
هو أن الدكتور لم يقرأ في المذاهب قراءة جيدة و خاصة قراءة معاصرة، وأنا أدعو المشتغلين بالعلوم الطبيعية بالذات إن كانوا يبنون عليها نتائج لها علاقة ببراهينهم المتعلقة بالميتافيزيقا والغيبيات ومواقفهم من النصوص الدينية من جهة القبول والرد والتأويل أن يحرر موقفًا صارمًا في فلسفة العلم ومنهج القبول والرد في التجريبيات والفرق بين الدليل التجريبي الصحيح والعمل العقلي الصحيح في التنظير وبين العمل الخرافي الذي ينتج اعتقادات غيبية خرافية تظهر على أنها العلم القطعي الذي إن خالفه الدين وجب اطراحه وإسقاطه أو تأويله!.