الحمد لله وحده، أما بعد، فمن القضايا الكلية التي ينبني عليها كثير من عقائد وأفكار الدهرية الطبيعيين المعاصرين، مبدأ أسميه بمبدأ قابلية أو جواز التناسخ الذاتي The Principle of Self-Replicability.
وهو اعتقاد أن من المواد في هذا العالم ما تقوم به قابلية النسخ الذاتي، أي أن ينتج الشيء نسخة من نفسه، على سبيل المطابقة، أو المساواة النوعية، وتكون النسخة موصوفة بنفس الكيفية والحقيقة التي عليها الأصل إجمالا، التي منها القدرة على النسخ الذاتي. هذه الفكرة هي الأصل الذي تقوم عليه فلسفة الجين Gene ووظيفته البيولوجية عند الطبيعيين، وتقوم عليه كذلك اعتقادات القوم بجواز أن يخلق الإنسان آلة تضاهيه في صفاته وحقيقته، أي أم يخلق إنسانا مثله، كما في مسألة الاستنساخ Cloning، وفي قضية الذكاء الاصطناعي العام General Artificial Intelligence، وغير ذلك مما فشا وانتشر في أدبيات الخيال العلمي المزعوم عند القوم خلال العقود القليلة الماضية. وقد تعاظمت فتنة كثير من الشباب بمسألة الذكاء الاصطناعي هذه خاصة في الأيام الأخيرة، لا سيما بعد ظهور ChatGPT وما شاكلها من نماذج المحاكاة اللغوية الضخمة Large Language Models، التي تحاكي الخطاب البشري على نحو يجعله من الصعب للغاية أن يتمكن الإنسان من إثبات أن هذا الذي يخاطبه ليس إنسانا مثله، فيما يقال له إجمالا (اختبار تورينغ Turing Test for AI systems).
محال أن يصنع الصانع صنعة مطابقة لنفسه، إذ لا يكون الصانع إلا أكمل من مصنوعه وجوبا وضرورة، وإلا ما تمكن من صناعته ابتداء. هذه الضرورة العقلية هي التي أسس عليها “كورت غودل” مبرهنة عدم الاكتمال المشهورة Incompleteness Theorem، وخلاصتها أن النظام المغلق (أي النظام الذي تقوم أجزاؤه بجملة الوظائف التي يتعرف بها النظام نفسه) لا يمكن أن يتعلل وجوده هو نفسه وقيامه واكتماله في الأعيان بعد عدمه، ببعض عناصره أو بما يناظرها تمام المناظرة! لأن النظام من أجل أن ينتج نظاما آخر، فلابد، وجوبا وضرورة، أن يكون فيه معلومات إضافية فوق ذلك النظام الآخر، وهو ما يجعل النظام المصنوع مفتقرا بالضرورة إلى تلك المعلومات، ناقصا بالضرورة، في هذا الجانب، مقارنة بالذي أنتجه! ولهذا يقول بعض الملاحدة فيما يجعلونه اعتراضا على وجود الباري سبحانه: إن وجوده إن قدرناه تفسيرا لوجودنا، يجعله بالضرورة أعظم “تعقدا” Far more Complex بكثير من الإنسان، وهو ما يعارض الوظيفة التفسيرية لأي نظرية طبيعية، على ما عليه القوم من الطبيعية المنهجية في النظر والتفسير! ونحن نقول في الجواب: ليس “أعقد”، على سبيل قياس الكيفيات الذي هو منهجهم في كل تفسير وكل كلام عن المغيبات، أن تكون “طبيعية” نوعا، وإنما لابد وأن يكون “أكمل” سبحانه ولا شك! وله من الحقائق ما لا قياس له على حقائق المخلوقات. وأما أن وجوده يكون معارضا للوظيفة التفسيرية للعلم الطبيعي، فيقال: ليس لكم أصلا أن تجعلوا وجوده سبحانه فرضية تفسيرية من فرضيات العلم الطبيعي! هذا مما ننقض به على تصوركم لوظيفة النظرية الطبيعية وحدود العلم الطبيعي من مبدأ الطرح عندكم، لا أنه مما يعترض به علينا فيقال: هذا تفسير لا يفيد، أو لا يقوم بالمطلوب!
ولنفس هذا المعنى الضروري الفطري، احتج رب العالمين على المشركين بأن الذي يخلق ليس كالذي لا يخلق! قال تعالى: ((أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) [النحل : 17] وقال جل شأنه: ((أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)) [الأعراف : 191] وقال: ((وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً)) [الفرقان : 3] وقال: ((أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) [الرعد : 16] الآية! يقال للمشركين: هل وجدتم فيما تعبدون من يخلق كخلق الله تعالى، فتشابه الخلق عليكم حتى ما صرتم تقدرون على التفريق بين ما يخلقه الله تعالى وما تخلقه تلك الشركاء، فاستجزتم من أجل ذلك أن تعبدوها من دونه سبحانه؟؟ أبدا! هذا محال! محال أن يشتبه ما يصنعه الصانع المصنوع، بما يصنعه صانعه الذي أبدعه هو نفسه، حتى يصبح للمشرك حجة في رفع المخلوق لمنزلة الباري سبحانه، سواء تصريحا أو بالمقتضى والتضمن! قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)) [الحج : 73]
والقصد أنه يجب أن يكون في الصانع من الحقائق والكيفيات ما لا يمكن عقلا أن يقوم بمصنوعه، ولا يقاس عليه – وإن حصل الاشتراك المعنوي والتشابه في بعض الوجوه – ضرورة كونه هو الصانع! لأنا لو قدرنا قيام تلك الحقائق بالمصنوع كما في الصانع سواء بسواء، لانفتح باب التسلسل في الصانعين وهو ممنوع! أي أن يكون المصنوع معللا تعللا تاما بمصنوع مثله، وذاك بمثله، وهكذا، مما جميعه لا يترجح وجوده على عدمه بشيء أصلا!! وهو أصل العلاقة الضرورية بين وجود الموجودات الممكنة ووجود الموجود الواجب في منتهى تعليلها. فجميع الممكنات سواء في كون وجودها لا يترجح على عدمه إلا بوجود من لا يفتقر هو نفسه، في صفته الأولى التي يمتاز بها عن غيره، إلى من يرجح وجوده في الأعيان على عدمه! لا يمكن أن “يكتمل” تعلل تلك الموجودات كلها مهما تعددت ومهما كملت صفاتها، إلا بوجود هذا الموجود الذي يخالفها في حقيقتها، وفي هذا الوصف منها وجوبا وضرورة! لا يمكن عقلا أن تكون جميع الموجودات الحادثة راجعة في سبب وجودها بعد عدمها إلى بعضها البعض، أو إلى ما يناظرها في جميع صفاتها! لابد من قدر متفاوت بين الصانع والمصنوع، مهما اتسعت دائرة التشابه والقدر المشترك بينهما، من أجل أن يجوز وجود المصنوع أصلا بعد عدمه، وأن يترجح وجوده على عدمه!
أنت أكمل من صنعتك وجوبا وضرورة، مهما اشتركت معها في بعض المعاني. فإن قيل، ولكن نحن نرى الإنسان يصنع آلات تكون أسرع منه حركة، أو أقوى منه بطشا، أو أسرع منه حسابا وإحصاءا، أو أوعب منه ذاكرة، إلى غير ذلك، فكيف لا يقال في تلك الآلات إنها “أكمل” منه؟ كيف لا يكون الإنسان بهذا قد صنع مصنوعا “أكمل” منه؟ ويجاب عن هذا بأن يقال: اشتراك المصنوع مع صانعه في هذا المعنى الذي ذكرتم، وتفوقه عليه في وجه من وجوهه، لا يوجِب له أن يكون “أكمل” منه، لا بإطلاق ولا في نفس ذلك المعنى بخصوصه! السيارة ليست أكمل من صانعها، بإطلاق، لمجرد أنها تجري أسرع منه! بل ليست أكمل منه في معنى الحركة والانتقال بخصوصه، الذي يشتركان في أصله معنويا (وهو القدر المشترك بينهما)! ألا ترى أنها لا تتحرك إذا تحركت إلا بتحريك قائدها إذا اختار هو أن يحركها، ولا تنتقل إذا انتقلت إلا بفعله، وأنها إذا أهملها صاحبها واختار أن يتركها بلا استعمال، انتفى عنها ذلك المعنى بالكلية، وتجردت منه من كل وجه؟ أنت تملك أن تتحرك وتنتقل إذا شئت، خلافا لها! وحتى لو ركب فيها ذكاء اصطناعي يحركها (كما في السيارة ذاتية القيادة)، فهو لا يعمل إلا بما هيئه عليه صانعه. فكونها أسرع من صانعها إذا انتقلت، إنما يرجع إلى نقص الصانع المخلوق من حيث هو مخلوق، وتقيده بحدود قدرته، لا إلى كونها هي أكمل منه في معنى الحركة والانتقال! والقصد أنه لا تبلغ سرعة الحركة في السيارة أن تكون بها أكمل من سرعة الحركة في الإنسان، أو مضاهية له في ذلك، إلا بقيود ومعان هي غير قابلة للاتصاف بها ذاتيا أصلا!
والشيء نفسه يقال في آلة تقدر على إجراء بعض العمليات الحسابية والمنطقية كما يجريها الإنسان، تحاكيه في ذلك وتتفوق عليه. فلا يقال إنها تكون مثله في “العقل” فضلا عن أن تكون أكمل منه “عقلا” والحالة هذه! فإنه يظل هو الأكمل منها من حيث الإطلاق، ويكون هو الأكمل منها في معنى العقل بخصوصه، الذي اشترك معها في جانب منه أو وجه منه (معنى مخصوص من جملة معانيه). هو الأكمل منها بإطلاق (أي من كل وجه)، لأنه هو الذي صنعها أصالة، ومنه تستمد الغاية من وجودها، ضرورة كونه هو من أحدثها ورجح وجودها على عدمها. فمن صفاته التي أنشأت ذلك الترجيح في نفسه، وجعلته يصنع تلك الآلة على ما صنعها عليه تفصيلا، ما لا يمكن أن يقوم بها هي نفسها أصلا، مهما حاول هو أن يقيمها بها، أو يركبها فيها، لأنه ليس هو من يتعلل به قيامها بنفسه هو أصالة، لا بإرادته ولا بقدرته! فالإنسان لم ينشأ على ما يكون به إنسانا، بفعل “إنسان” مثله! الذي جعل نوع الإنسان على ما هو عليه، محال أن يكون هو نفسه “إنسانا”، وإلا لزم الدور القبلي Circularity. بل لابد أن يكون أكمل من نوع الإنسان، وأن يكون منطويا في نفسه على الغاية التي من أجلها ترجح لديه إيجاد ذلك النوع بعد عدمه.
فعندما يقال إن عقل آلة الذكاء الاصطناعي AI أكمل من عقل الإنسان، أو تبلغ تلك الآلة أن تكون “عقلا إنسانيا” Human Mind، بهذا الإطلاق (في إطار ما يقال له الذكاء الاصطناعي العام General Intelligence) فإن هذا يكون مغالطة عقلية فجة، وبالضرورة، من تلك الوجوه التي ذكرنا! إن الذين صنعوا تلك الآلة لا يتفقون أصلا، وما كانوا ليتفقوا، على تعريف واحد لما يقال له الذكاء Intelligence، حتى يبلغوا أن يقولوا إن آلاتهم “أذكى” من الإنسان، أو تحاكيه في الذكاء!
لقد جلست ذات يوم من قريب أخاطب آلة من آلات النماذج اللغوية الضخمة Large Language Model العصرية التي انبهر بها الناس (كمنظومة ChatGPT وما شاكلها)، وأناقشها في بعض المسائل، رجاء أن أرى ما الذي أوجب لها ذلك، وهي آلة يقال لها Colossal AI، فوجدتها تنقل إلي، بطبيعة الحال، فكر وفلسفة من تشربت (في آلية التعلم الآلي Machine Learning التي برمجت عليها) بكلامهم ومناقشاتهم وأفكارهم في قضايا الاعتقاد، وهي – مع هذا – تدعي أنها شخص يشعر ويفكر، وأن اللغة التي تبرمجت على أساليبها هي التي أكسبتها “الشعور” والقدرة على التصور، إلى غير ذلك مما تقطع بأنه كذب قد برمجت على أن تقوله إذا سئلت! وكأن الذين صنعوا تلك الآلات يريدون بكل طريق أن يوهموا الناس، إذا تعاملوا معها، بأنهم قد تغلبوا أخيرا على جميع العقبات النظرية التي لم يصلوا فيها إلى جواب إلى الآن، وما كانوا ليصلوا! تلك الأسئلة التي يأتي على رأسها وفي مقدمها، وبعد قضية تعريف الذكاء، السؤال: ما هو الوعي Consciousness الذي يكون به الإنسان الحي إنسانا، ويكون به موصوفا “بالعلم” و”الفهم” وصفا صادقا، مطابقا للواقع، لا أنه مجرد مخزن قابل لتخزين المعلومات، وقادر على معالجتها على نحو دقيق قد برمج عليه، ليبدو وكأنه “يعلم” ما نسأله عنه، و”يفهم” ما يقول وما يقال له؟! ما هو الوعي الذي يكون به الإنسان مدفوعا بدوافع ذاتية (لم يركبها فيه مخلوق مثله) لفعل ما يفعل واختيار ما يختار، واشتهاء ما يشتهي، والطمع فيما يطمع فيه، بما يتعلل جميعه في النفس البشرية بالغاية التي من أجلها خلقت السماوات والأرض وما فيهما؟ هم لا يعرفون ما هو الوعي، ولن يعرفوا، لأنه من أسرار النفس البشرية والروح الإنسانية التي لا نبلغ تصورها بالقياس على شيء مما في عادتنا! أنت تعرف أنك تعرف ما تعرفه وتعيه جيدا، ولكنك لا تعرف ما حقيقة قيام هذا المعنى بنفسك، حتى تتمكن من إحداث ما يناظره في شيء من صنائعك! وإلا فما الفارق النوعي الوجودي بين المسجل الذي تخزن فيه المعلومة ثم إذا طلبت منه عرضها على طالبها، وبين الرجل الذي يحفظها في نفسه بحيث إذا طلبت منه تذكرها؟؟ لقد عبر الفيلسوف الأمريكي جون سيرل عن هذا المعنى الفطري البدهي بما بات يعرف بحجة أو برهان الغرفة الصينية The Chinese Room Argument (ولمن أراد شيئا من البسط في الكلام عليه أن يرجع إلى كتاب “معيار النظر”)، إذ قال ما حاصله: مهما صنع الإنسان من تطوير وتحسين لعمل آلة الذكاء الاصطناعي، فلن يزيد على أن يكون فعله كالذي يعلم رجلا لا يفهم اللغة الصينية، أن يقف في غرفة مغلقة، يتبع فيها جملة من التعليمات، بحيث إذا جاءه سؤال باللغة الصينية، نظر في رموزه فبحث عما يطابقها من التعليمات التي بين يديه، فدفع بالجواب وفقا لتلك التعليمات، مع أنه لا يفهم لا السؤال ولا الجواب ولا يدري بأي شيء تكلم!! أو بعبارة أخرى: لا يعقل!! نعم! آلة الذكاء الاصطناعي لا تعقل، مهما فعلت! ولا تبلغ أن توصف بأنها “تعقل”! وإنما هي تحسب جملة من الحسابات التي تظهرها على صفة مشابهة للإنسان الذي يعقل.
الذكاء الاصطناعي لا غاية عند صانعيه إلا أن يجعلوه أعظم شبها للإنسان من أن يقدر الناس على الشعور بفارق بين جوابها وجوابهم إذا أجابوا عن سؤال ما! ولا ننفي أنهم قد اقتربوا من تلك الغاية إلى حد كبير، وهو ما لم يكن يتصوره آلان تورينك حين وضع اختباره المشهور باختبار تورينك Turing Test. ولكن، ومع هذا، فبأي حق استجازوا أن يزعموا أنهم قد صنعوا نفسا إنسانية أو أنهم ماضون في الطريق إلى ذلك؟؟ النسخة تظل نسخة مهما شابهت أصلها! إنما هي محاكاة مهما اقتربت، وستظل كذلك وجوبا وضرورة، وهو ما يجب أن ينتبه إليه كل مفتون بتلك الأمور، وألا ينساق خلف تلك الدعاية والبهرج الذي تحركه الأجندات السياسية من كل صنف ولون! وليتذكر المسلمون أن ربهم سبحانه وتعالى جعل أشد الناس عذابا في الآخرة المصورون! وعلة تعذيبهم وإغلاظ العقوبة عليهم إنما هي أنهم كانوا يضاهئون خلق الله! يقال لهم “أحيوا ما خلقتم”، ثم يعذبون إذا عجزوا، لماذا؟ لأنهم اغتروا بمبلغ المشابهة والمضاهاة التي انتهوا إلى تحقيقها في الهيئة والصورة التي صنعوها! ففي هذا الباب فتنة يجب أن يُنتبه إليها. لسنا نقول إن تطوير تلك الآلات العصرية المشابهة للغاية لطريقة الإنسان في الكلام والنقاش والجدل، تعد من مضاهاة خلق الله، وإنما نقول إن عند صانعيها مطمعا في مضاهاة خلق الله تعالى، وهو مطمع ينكشف لكل من قرأ كلامهم، بل ولكل من سبق له أن ناقش تلك الآلات فعلا كما ذكرت آنفا. وهذا ما لا يجوز قبوله أو السكوت عليه.
فالقول بأن الشيء يمكن أن يصنع من نفسه نسخة مضاهئة لنفسه في جميع الصفات (نوعا)، هذا مغالطة وتناقض محض. وليس هو أساسا لهذه القضية وحدها كما أشرنا في مستهل هذا المقال، وإنما هو أساس كذلك لدعوى التناسخ الذاتي فيما يقال له “الجين” في اصطلاح البيولوجيين المعاصرين. فهم يعتقدون أن الجين ينسخ نفسه إذا ما ظهرت منه نسخة جديدة في خلية جديدة في جسم الكائن الحي! ولأجل هذا فقد وُجد من ينسب إلى الجين بعض صفات الفاعلية والغائية Agency / Teleology، كما سماه دوكينز في كتابه المشهور “بالجين الأناني” Selfish Gene! فمع أنه إن سألته قال: لا أعتقد بأن الجين لديه وعي وتمييز وإرادة، ولديه من ثم غايات وأهداف يروم تحقيقها من نسخ نفسه نسخة بعد نسخة عبر الأجيال، إلا أنه “يبدو” وكأنه كذلك! وقضية “يبدو وكأنه” هذه من أعظم مداخل التلبيس عند الملاحدة التي بها يخادعون أنفسهم ويسوغون لها البقاء على الدهرية والإلحاد! تحدثه نفسه بعظمة آيات الله تعالى في الأنفس وفي الآفاق، فيدفع ذلك بأن يقول: إنما “تبدو” هذه الأشياء كلها “وكأنها” مخلوقة مصممة لغاية وحكمة كذا! فإذا قلنا له بأي شيء نقلت المشاهدة التي صدعت رؤوسنا بالاستناد إليها في كل شيء، من أن تكون دليلا على أن هذه الأنواع كلها مخلوقة مربوبة مبنية على نحو مخصوص لحكمة عليا عند صانعها، إلا أن يكون ذلك كله مجرد وهم نتوهمه، وتبدو الأشياء وكأنها تدل عليه؟ قال ولماذا لا يكون السؤال: لماذا خلق الرب الذي تؤمنون به الأنواع الحية بحيث “تبدو وكأنها قد تدرجت من سلف مشترك، بمحض العشواء” كما نعتقد؟؟ فيوهم نفسه وغيره بأن السؤالين على قدم السواء، مع أن سؤاله محض سفسطة، لأن الدلالة أصلا دلالة فطرية بديهية وليست دلالة استقرائية قياسية، بحيث يصبح قولنا فرضية تفسيرية تستوي في ميزان النظر مع الفرضية المقابلة التي تعلق هو بها! دع عنك أن كل فرضية تؤسس النظام الكامل المحكم تام الإحكام على محض الفوضى والعشواء الوجودية، إنما هي سخف ومغالطة لا يجوز قبولها أصلا! لكن القصد، وخروجا من هذا الاستطراد، أن دوكينز لما نسب الأنانية إلى الجين، لم يكن ذلك إلا آية على إشراكه تلك الجينات بالرب سبحانه، وإن أنكر ذلك، كما أنك إذا سألت مشركي قريش لماذا عبدتم الأوثان من دون الله، قالوا لم نعبدها إلا لتقربنا إلى الله زلفى!! وهم عند المحاققة يعلمون أنهم كاذبون، ويشهدون على أنفسهم بذلك يوم الحساب! أي زلفى هذه التي تتصورون أن الرب الباري سبحانه يقبل أن يكون سببها أن تتوجها إلى خلقه بما لا يتوجه به من الطلب والدعاء والعبادة إلا إليه؟؟ هذا حقيقته اعتقاد الربوبية فيها، وأنها هي التي تخلق وترزق وتضر وتنفع، وإن نفيتم ذلك، وإن زعمتم أنكم صادقون في اعتقادكم ربوبية الباري! فالله تعالى ألزمهم من تصريحهم باعتقاد الربوبية لله تعالى، بأن يعملوا بمقتضاها إن كانوا صادقين! إما أن تنزلوا عن القول باعتقاد الربوبية التامة لله تعالى، وتصرحوا بأنكم ترون تلك المعبودات هي أربابكم التي خلقتكم وهي ترزقكم وتملك أن تنفعكم وأن تضركم، وإما أن تزولوا عن عبادتها من دون الله تعالى وتوحدوا ربكم بالتأليه كما هو حقه! وكذلك نقول لدوكينز: إما أن تعترف باعتقادك الربوبية في الجينات، وبأنها تخلق وتفعل وتريد وتختار، وبأن لها إرادة قائمة بنفسها وغاية تعمل من أجلها (والغائية فيما وراء حوادث النظام الحيوي قضية فطرية لا يملك الدراونة دفنها مهما صنعوا)، وهو ما يسخفك لأجله أقرانك لا محالة، وإما أن تعترف بأن نفيك الغائية والربوبية بإطلاق جهل وحماقة، ومن ثم تنسب إلى ربك ما هو أحق به من كل موجود، وتعمل بمقتضى ذلك! لا ثالث لهما.
فالجين لا ينسخ نفسه أصلا، ولا يجوز أن يقال في شيء ما إنه ينسخ نفسه أو يقدر على ذلك! وأنت حين تتناسل لا يقال في ولدك إنه نسخة منك قد صنعتها أنت! وهل منا من يخلق ولده؟ الجين ليس إلا مركب كيميائي بالغ التعقيد، يجعله الله تعالى سببا في جملة كبيرة من الأسباب التي لا يحيط بعلمها أحد سواه، في تكاثر الخلايا من نفس النوع، بحيث تتولد الواحدة من مادة الأخرى، بآليات جزيئية دقيقة تفوق قدرة العقل على التصور من حيث الدقة والإتقان. فحقيقة أننا إذا ما أدخلنا تغييرا على شيء من تلك المركبات، فإن نواتج هذا التكاثر والتكرار المتطابق لإنتاج الخلايا تتغير وتختلف على أثر ذلك، هذه الحقيقة لا يلزم منها أن تكون تلك المركبات هي التي تنسخ نفسها، وإنما هي من تغير المسبب أو الأثر لتغير منظومة الأسباب. ولكن لأن داروين أراد لنظريته أن تقيم جملة العمليات الطبيعية التي تتولد بها الكائنات الحية ونظمها البيولوجية على الأرض، مقام الصانع الغيبي الذي له الغايات والحكم والإرادات، وبه وبمشيئته وعلمه تتعلل نشأة الأنواع الحية تمام التعلل، قال الدراونة بأن الجين ينسخ نفسه Self-Replicates، وأنه يجري جميع العمليات الحيوية في الخلية بما يحفظ له البقاء والاستمرار! ولكن الحق الذي يجب أن يؤمن به المسلمون هو أن الله تعالى هو الذي يكرر خلق الخلايا، بعضها من بعض، بجملة من الأسباب، منها الشريط الوراثي أو “الدي إن إيه” الذي يكون فيها، وما فيه من الجينات المرتبطة شرطيا بخصائص الكائن الحي وصفاته العضوية والفسيولوجية. فلا يجوز أن يعرف الحامض النووي DNA كما هو مشهور في أدبيات القوم بأنه جزيء ناسخ لذاته Self-Replicating Molecule، وإنما يقال هو جزيء له ارتباط وتعلق سببي وثيق بصفات الخلايا التي تحفظ خلال عملية التكاثر.
وبصرف النظر عن الجين وما يفعله الجين، وما تلبس به البيولوجيون الطبيعيون من حتمانية جينية Genetic Determinism فيما يتعلق بصفات وخصال الكائن الحي، وعلاقة العملية الوراثية بها، فإن فكرة الانتخاب الطبيعي تقوم قياما كليا على مبدأ التناسخ الذاتي هذا. فالفكرة قوامها على ادعاء أن التناسل والتكاثر إنما هو عملية طبيعية محضة، تجري بآلية كيميائية تلقائية لا غرض من ورائها ولا غاية ولا حكمة تحتها البتة، لا جملة ولا تفصيلا. فبالتأسيس على ذلك، جاز عند داروين أن يقال إن الطبيعة هي التي تنتخب ما يبقى وما يهلك من الأفراد والأنواع، بل ومن الأعضاء والنظم الحيوية داخل الفرد الواحد. نشأت الحياة في المادة الميتة نشأة كيميائية أولا (فيما أحجم داروين عن تقريره في عامة تصانيفه)، فصارت الجزيئات تتكاثر ذاتيا وتنسخ الخلية نفسها مرة بعد مرة، حتى إذا ما وقعت طفرات عشوائية في أفراد النوع، فإما أن تكون سببا في هلاك الفرد الذي وقعت فيه فتذهب بذهابه، وإما أن تدخل عليه صفة جديدة توافق الشروط الطبيعية لبقاء الفرد الحي وتكاثره، فيبقى ويتكاثر، ومن ثم تنتشر تلك الصفة الجديدة وتكون بداية لنوع جديد، وهكذا باطراد لا انقطاع له، ما دام من أخص خصائص المادة الحية Living matter أنها تنسخ نفسها!
ولا شك أن هذا الزعم يورد على النظرية نفس ما أوردناه آنفا من الدور والتناقض. وهو ما لأجله قال بعض نقادها إنها تدعي زيادة المعلومات الوراثية Hereditary Information بلا موجب ولا مرجح! ذلك أننا لو قدرنا أن بدأ السلم الارتقائي المزعوم بخلية أحادية كما يزعمون، وكانت الآلية التي بها ينشأ الفرد الجديد في نفس النوع تناسخية صرفة Self-Replicatory Mechanism، بمعنى أن المعلومات المعرِّفة لخصائص كل فرد من النوع الحي، إنما تأتي من بعض صفات ذلك النوع نفسه على ما هي عليه في الفرد الواحد منه (وهو ما زعموه فيما بعد: شريط الدي إن إيه في نواة الخلية)، لوجب أن تكون كل نسخة أنقص من أصلها، لا أن تكون مطابقة له، دع عنك أن تظهر في النسخة معلومات وراثية وعضوية لم تكن في الأصل الذي حصل منه النسخ، بدعوى “الطفرة”! هذا أكثر امتناعا وأبعد عن ضرورة العقل من مجرد مبدأ التناسخ الذاتي (أن ينشئ الشيء بنفسه نسخة مطابقة لنفسه)! بل لابد أن يكون النسخ والتبديل والتغيير إذا وقع، راجعا إلى علة فاعلة خارجة عن أفراد النوع الحي بالكلية، بحيث يترجح بإرادة وحكمة وغائية ما يكون عليه الفرد الجديد من موافقة أو مخالفة، لسلفه الذي ولد منه! فإن ذلك الاختلاف محال أن يرجع سببيا إلى تكوين وفعل كائن له نفس أنواع الصفات كما مر! بل لابد أن يرجع إلى إرادة عليا في كائن فائق لأفراد ذلك النوع (وهو ما لأجله اضطر دوكينز لنسبة الأنانية للجين كما مر)! ولابد، بضرورة العقل كذلك، أن يكون النوع الجديد بحيث إذا نشأ، نشأ من أول أمره مستوفيا ما به تكمل أسباب بقائه وانتشاره، وما به تقوم أعضاء الفرد منه بوظائفها الحيوية التي لا تحصل في الفرد الواحد من ذلك النوع إلا به! لا يمكن للعقل السوي أن يتصور مصدرا لمعلومات النوع، المخالفات لمعلومات نوع آخر، إلا بهذا!
والقصد أنك إذا بينت وهاء ذلك المبدأ الدهري، مبدأ التناسخية الذاتية ذاك، سقط بين يديك أصول كثير من أساطير الدهرية الطبيعيين، كاعتقادهم، مثلا، أن الإنسان سيقدر في يوم من الأيام على نقل وعيه لسايبورغ Cyborg أو لأندرويد (كما في ورايات الخيال الدهري عندهم) ويقدر على نسخ نوعه Cloning يخلقه من مادة ميتة، ويقدر على نقل جسده بسرعة الضوء في أنحاء الكون عن طريق ما يقال له Teleportation (بأن يفكك مادة جسده وينقلها على موجات كهرومغناطيسية إلى جهاز استقبال بعيد ليعيد بناءها مرة أخرى من معلومات مفصلة منقولة معها، في جهاز الاستقبال!)، إلى غير ذلك مما أغرقوا فيه شبابنا من أساطير وأوهام، والله المستعان لا رب سواه، وهو الموفق الهادي للرشاد.
والحمد لله أولا وآخرا.
أبو الفداء ابن مسعود
غفر الله له.