إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد، فقد جاءني سؤال من أحد الإخوة جزاه الله خيرا
يقول السائل:
“سؤالي هو (أو بالأحرى سؤال لاأدري ناقشته) كيف أستطيع تطبيق قانون كقانون السببية في إثبات الله تعالى بمعنى أنه سبحانه سابق على كل شيء في حين أن قانون السببية يحتاج إلى إطار زمني؟ والإطار الزمني له بداية بدأت تحديداً مع بداية الكون حيث كان الزمن صفراً فكيف نستطيع أن نقول بأنَّ الله (قبل الزمان) وكلمة قبل تتطلب زمانا لتتحقق فيه؟” انتهى نص السؤال. |
وقد اخترت أن أجيبه على العام لتعم الفائدة، فأقول في الجواب بعون الله تعالى:
أما بعد، فيتعين علي قبل أن أجيبك أخي الكريم، أن أنصحك في الله تعالى ألا تناقش الملاحدة ولا تحاورهم أبدا ما دمت حيا. لا يزينن لك الشيطان أنك بذلك تنتصر للإسلام أو أنك ترجو هداية ذلك الجاحد المستكبر أو نحو ذلك من نوايا طيبة إجمالا! فلا الإسلام سينهزم إن لم تناقش أمثال هؤلاء، ولا سيهتدي أحدهم إن قدرنا أن تغلبت أنت أو غيرك عليه في مناقشة أو أفحمته في مناظرة، إذ لا يرجى لأمثالهم الهداية أصلا، والله المستعان! وإنما غاية ما سيحصل أنك ستعرض قلبك أنت للتعلق ببضاعة الفلاسفة والمتكلمين وطريقتهم في النظر في البدهيات والقياس في الغيبيات، وهذا باب لفساد العقل والدين عظيم، نسأل الله السلامة! فر من المتفلسف والمتكلم فرارك من الأسد، بارك الله فيك، فإنه ليس بعد سلامة الفطرة والدين واليقين شيء يخاف المسلم عليه!
اعلم ابتداء أن هذا الذي يسمي نفسه “باللاأدري”، هذا كاذب على نفسه قبل غيره بمجرد أن تسمى بهذا الاسم. إذ ليس في العقل ما يجيز لأسوياء النفوس أن يقولوا: لا نعلم هل نحن مخلوقون أم لا، أو لا نعلم هل في الغيب رب أم لا؟ وهل له علينا حق أن نفرده بأفعال العبادة والتأليه وأن ننزله منزلته التي تليق به وأن نطيع رسله ونخضع لهم رقابنا كما يحب ويرضى؟! إذا كان العاقل منا لا يجد في اللغة لفظة يسمي بها نفسه إلا أن يقول إنه مخلوق Creature، فكيف يستقيم حتى في منطق اللغة نفسه أن يقال إن الواحد منا مخلوق لم يُخلق Uncreated Creature؟؟ هذا تناقض فج لا يستقيم قبوله أو تجويزه في نفس سوية أبدا! ولكن هذا هو بيت الداء، بارك الله فيك: أن تلك النفوس ليست سوية ولا صحيحة! بل ليس في النفوس ما هو أخبث ولا أفسد منها، إذ ليس في الميول القلبية ميل أعظم من ذلك الذي يلحد بالنفس عن التسليم بأصول البداهة الأولى التي لا يماري فيها صبي صغير يميز معاني الكلمات! ولهذا نقول إن الجدال معهم لا ثمرة ترجى منه، ولا يرجع إلا بالضرر على صاحبه، إلا أن يرحمه ربه!
فلأن القوم تشبعوا بنظريات الدهرية الطبيعيين، القائمة على نفي الغيب بالكلية، وجعل الطبيعة هي كل ما في الوجود، وكأن الطبائع هذه إنما طبعت نفسها في الأشياء بنفسها، ولم يطبعها خالق ركبها في مادة العالم كما أراد، وكان يملك ألا يركبها كما ركبها أو أن يجعل الأمر على خلافها إن شاء، لأنهم تشبعوا بتلك الزبالة، فما كان من عجب أن يأتي أحدهم بعد ذلك ليقول إنني لا أدري هل وراء هذا العالم غيب أم لا، وهل فيه رب خلقه وخلقني أم لا!
فالسؤال الذي سألك إياه ذلك المكابر، سؤال فاسد من الأساس! هو يقول: كيف “أطبق” قانون السببية لإثبات وجود الله، مع أن وجود الباري جل شأنه كالسببية، كلاهما حقيقتان بديهيتان لا قيام للعقل بنفيهما، وهما متلازمتان في البداهة أيضا، فلا ينفي الإنسان إحداهما إلا لزمه إسقاط الأخرى بالضرورة! من زعم أنه ليس في العقل ما تثبت به السببية ثبوتا ضروريا بحيث يكون لكل حادث سببا، وإنما يرد أن يكون في الحوادث ما لا سبب له، هذا يهدم بذلك مبدأ السبب الأول الذي هو سبب كل شيء، وإذن فبأي شيء يرجح أن لهذا الحادث أو ذاك بالذات سببا ما، وأنه ليس من تلك الفئة المزعومة التي لا سبب لها البتة؟؟ مثل هذا كيف له أن يقدم على فعل شيء من الأفعال البشرية أيا ما كان، إن شك في أن أفعاله تكون من جملة الأسباب؟؟ بل بأي شيء رضع من ثدي أمه إن لم يكن يعلم فطرة وبداهة أن الرضاع يكون سببا في الغذاء؟؟ هذا هو منشأ التشكيك في الاستقراء والمنطق الاستقرائي عند ديفيد هيوم، كبير ملاحدة القرن الثامن عشر الميلادي، أنه جحد وجود باريه، فانفتح بتلك السفسطة الباب لسفسطة أخرى ملازمة لها، وهي زوال الأساس العقلي لتوقع أن تأتي الأسباب بمسبباتها غدا كما رأيناه يحصل في عادتنا!
وكذلك من يقول إنه ليس وراء العالم رب هو مصدر الأسباب كلها بالغيب من غير أن يكون لوجوده هو نفسه أو لمشيئته وإرادته سبب خارج عنه أو متقدم عليه سبحانه، هذا بأي شيء ينهي تسلسل الأسباب، وعلى أي أساس يقوم للسببية نفسها تحصل عنده؟ حتى الصبي الصغير يعلم أنه إذا سأل عن شيء: لماذا هو هكذا؟ فجاءه جواب ما، ثم كرر السؤال: “لماذا؟” مرة بعد مرة، فلابد أن ينتهي في النهاية إلى إرادة ومشيئة عليا هي التي يتعلل بها كل شيء ويترجح على خلافه مما يجيز العقل أن تكون الأشياء والأحوال عليه! وأنت إذا سألك ولدك هذه السلسلة من الأسئلة فلابد أن تنهيها بتلك النهاية، أن تقول: “الله أعلم لماذا خلق هذا الشيء على هذا النحو، وجهلنا بحكمته لا يقتضي انتفاءها!” أما هؤلاء فيقول فلاسفتهم المعاصرون إن السؤال “لماذا” سؤال فاسد من الأساس، من مبدأ السؤال نفسه، وإنما يتعين أن يصبح السؤال هو “كيف”! نسأل أنفسنا كيف يعمل كذا وكيف يعمل كذا، فتصبح حقيقة الأسباب عندنا أنها مجرد تتبع للأنماط الكونية الثابتة التي تجري عليها قوانين الطبيعة وما يترتب على جريانها من آثار ومتولدات، وتنتهي القضية عند ذلك! أما التطلع لأسباب ماورائية أو غيبية، فهذا عندهم عبث من العبث ودين غير الدين!
وأهم من هذا الذي قررته لك، بارك الله فيك، أن تعلم أنه تحرير وتركيب لفظي فيه صعوبة، لا يحتاج إليه العاقل السوي سليم النفس حتى يجزم بأن وجود الباري حقيقة بديهية لا يماري فيها إلا جاحد مستكبر! كما أنه لا ينتفع به هذا الذي ناقشته وأمثاله لأن المرض قد تمكن من قلبه وجرى منه مجرى الدم في العروق، نسأل الله السلامة! فالعاقل لا يحتاج إلى من يبين له أن إثبات وجود الباري ليس مبنيا عنده على إثبات السببية أولا، كما أن إثبات السببية ليس مترتبا لديه على إثبات وجوده جل شأنه أولا! ولكن لأن الفلسفة اليونانية، لعن الله من بدعوها وأسسوا عليها الأكاديمية الغربية في جميع أبواب المعارف عندهم قبل ثلاثين قرنا، علمت أصحابها أن يسفسطوا على البديهيات كما يحلو لهم، بأن يزعموا افتقارها إلى نظر وقياس حتى تثبت في العقول، ولأنها، أي تلك الطريقة اليونانية، طريقة يسهل لكل جاحد منهم أن يتترس بها على جحده وكذبه واستكباره، فيزين لنفسه وللسفهاء من حوله زعمه أنه على شيء، وأن لديه مستندا للنفي أو على الأقل للتشكيك في وجود من خلقه وخلق كل شيء، أصبحت أمثال تلك الأسئلة الفاسدة من مبدأ الطرح، مما يقيم له كثير من الناس وزنا عظيما، يجعلون تكلف الجواب عنها والتمكن من بذله مما يحصل به اسم العقل لصاحبه، مع أنه والله مما يلحقهم باسم السفاهة والحماقة ومرض القلب لو كانوا يعقلون!
تأمل كيف استشكل أن تكون السببية دليلا على وجود الباري، بأن السببية تحتاج إلى “إطار زماني”، والإطار الزماني هذا من خصائص الزمكان النسباني الذي يفترض في كوزمولوجيا الانفجار العظيم أنه بدأ بعد أن لم يكن!! يقول كيف نقول إن الله كان قبل “الزمان”، مع أنه ليس يتصور خارج الزمان أي معنى لكلمة قبل! ولو أنه صدق هذا المكابر وتجرد للحق الجلي الواضح، لرجع على دعوى “حدوث الزمان” أو “ابتداء الزمان” هذه نفسها، أو ما سماه هو “بالإطار الزماني” عند الفيزيائيين المعاصرين بالهدم والإبطال كما هو حقها، لا على حقيقة وضرورة وجود من خلقه بالغيب، وأن يكون ذلك الخالق سبحانه هو سبب كل شيء، المتقدم على كل حادث وكل شيء في هذا العالم وغيره! ما معنى أصلا أن يقال إن الزمان شيء عيني (أي خارج الأذهان) حدث بعد أن لم يكن؟؟ مجرد قول الفيزيائيين وغيرهم من الفلاسفة والمتكلمين بحادث أول لا حادث قبله في الزمان، أي لا ابتداء للزمان إلا بحدوثه، هذا تناقض سخيف وسفسطة لا متسع لها في عقول الأسوياء! إذ مجرد معنى حدوث ذلك الحادث الأول يوجب أن يكون بعد أن لم يكن، أي أن يكون له “قبل” في الزمان، وهو حالة عدمه هو نفسه، التي تغيرت بعد حدوثه بمجرد الحدوث! فمجرد إثبات أي حادث في الماضي، يوجب إثبات قبل وبعد يتعلقان به تعلقا بدهيا ضروريا لا فكاك منه! فإن قالوا إن الزمان نفسه كان جريانه ناشئا عن حادث أول في الماضي، لزمهم أن يثبتوا حالة ما، أو حقيقة وجودية معينة تدخل في معنى الماضي قبل وقوع ذلك الحادث نفسه، بحيث يكون وقوعه تغيرا وتحولا عن تلك الحقيقة الوجودية إلى حقيقة أخرى، وإلا لم يكن للحدوث معنى أصلا!
ولكن لأن أينشتاين علمهم في التعريفات الميتافزيقية الكلية لنسبيته الخاصة أن الزمان لا حقيقة له إلا أن يكون هو رصد الراصد لجريان الحوادث في إطار إسنادي معين، نافيا بذلك ما سماه بالتزامن المطلق في مغالطة عظيمة لها لوازمها ومقتضياتها التي يأتي الكلام عليها في حينه إن شاء الله تعالى، وجاعلا الزمان أمرا وجوديا ينكمش ويتأثر بحركات المتحركات لمصلحة تثبيت سرعة الضوء في جميع الأطر الإسنادية، ثم أسس على ذلك في النسبية العامة تصورا هندسيا انحنائيا للعلاقة بين الزمان والمكان والكتلة والطاقة مدارها كلها على ذلك المفهوم، أصبح الزمان شيئا وجوديا في الخارج، لما أطلقت معادلاته في النسبية العامة في الماضي بلا حد ولا غاية، انتهى القوم إلى القول بأن الزمكان هذا كانت له بداية في الماضي، وإذن فلا حقيقة لوقوع حادث ما إلا في إطاره ومن بعد ابتدائه! وهذا فساد عظيم في القياس الجيومتري وفي التعريف الميتافزيقي ولا شك، ولا يلزمنا معاشر العقلاء أن نسلم به أو نقبله. وإنما الزمان لفظ يطلق وتراد به حقيقة ذهنية محضة، وهي تلك المعاني التي توصف بها تغيرات الأشياء والأحوال والصفات، فيقال في شيء ما أو في حال ما أو في صفة ما، إنها كانت بعد أن لم تكن، أو إنا لم تزل بلا بداية أو إنها تدوم بلا نهاية. وسواء كان في الوجود عالم مخلوق أم لم يكن، فلا يزال رب العالمين فعالا لما يشاء، يخلق ما يشاء ويختار، خلقا بعد خلق، وهذا داخل في معاني الزمان ولا شك. وما دام في الوجود حدوث وإحداث، ففي الوجود أسباب ومسببات بالضرورة.
فعندما يقال “كان الزمان صفرا”، فإنما يراد فرد معين من أفراد المشترك اللفظي المشتمل عليه في لفظة “زمان”، ألا وهو الزمان المقدر ذهنيا بمقارنة حوادث العالم بحركة دورية ثابتة كالعلاقة الحركية بين الأرض والشمس مثلا! نعم هذا كان صفرا عند بداية الكون، في تقدير من يقدره، فكان ماذا؟ ليس في هذا ما يقتضي امتناع وقوع حوادث في الماضي قبله بالنسبة إليه، فضلا عن أن يقتضي نفي السببية كلها دع عنك نفي وجود الباري نفسه قبل كل موجود، سبحانه وتعالى! ولكن كما تقدم، هؤلاء قوم ابتلعوا بضاعة الفلاسفة ابتلاعا، فصارت ألفاظ اللغة عندهم معرفة بحدود وتعريفات ميتافزيقية فاسدة، تنفي الاشتراك اللفظي وتقصر المعنى عند الإطلاق في بعض أفراده، على التسليم بصحة ذلك الفرد الذي تعلقوا به في تعريفهم وسلامته في نفسه من التناقض! فحتى لو لم يكن في تعريف أينشتاين للزمان تناقض وفساد عقلي، لم يجز عقلا أن تختزل جميع معاني الزمان فيه! ولكن لأن الفلاسفة الطبيعيين لا يضعون النظرية إذا وضعوها إلا ليغطوا بها كل موجود، على تلك الطريقة الميتافزيقية التي ورثوها عن أساتذة المدرسة اليونانية القديمة، لم يجز عندهم أن يكون للزمان معنى ولا لمسماه وجود في الخارج إلا على هذا الوجه الذي زعموه!
فإذا فهمت هذا تبين لك بطلان قوله “وكلمة “قبل” تتطلب زمانا لتحصل فيه”! فالزمان ليس شيئا وجوديا ممكنا في الأعيان بحيث إن قدرنا عدمه، امتنع جريان معاني القبلية والبعدية وغيرهما من المعاني الزمانية على شيء من الموجودات! هذا من أفسد ما انتهى إليه الفلاسفة من الدعاوى الميتافزيقية الكلية في تاريخ البشرية والله المستعان! الزمان حقيقة ذهنية تطلق على تلك العلاقات التي تدخل تحت معانيه في الخارج! فما دام في الوجود موجود ما، فلابد أن له حالا وله صفة، وإذن فلابد من جريان معاني الزمانية عليه ضرورة وبداهة، وهذه حقيقة لا يماري فيها إلا سفساط مكابر.
والله يهدينا وإياك إلى سبيل الرشاد، والحمد لله أولا وآخرا