الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فكثيرا ما يتمسك الدراونة والتطويريون بما يسمونه بالأعضاء الضامرة Vestigial Organs في الإنسان على أنها دليل ظاهر جدا على الأصل التطوري، إذ ما دامت تلك الأعضاء لا تقوم فينا بنظير ما تقوم به في أنواع أخرى من الوظائف الحيوية، مع كونها عندنا على هيئات تبدو أصغر وأدق مما هي عليه في تلك الأنواع، فلابد أن يكون ذلك راجعا إلى كونها قد ضمرت في النوع البشري من أثر استغنائنا عن وظيفتها.
الأعضاء الضامرة بين البطلان والمغالطة:
وهذا مع كونه احتجاجا بالجهل (إذ غاية ما يستند عليه القوم في ذلك هو جهلهم بوظائف تلك الأعضاء في الإنسان، وبالسبب في كونها تخالف وظائف نظائرها في غيره من الأنواع، أي على طريقة: أنا جاهل بالوظيفة، إذن لا وظيفة!)، ومع كونه قياسا تفسيريا فيما لا متسع فيه لممارسة المنطق التفسيري Abduction من الأساس، بما يفضي لا محالة إلى الدور القبلي والتحكم Affirming the Consequent كما بسط الكلام عليه في موضعه، فهو كذلك دليل على بطلان آلية الانتخاب الطبيعي المزعوم عند التدبر.
وذلك أنهم يقولون إن العضو يضمر أو يتضاءل – من حيث الأصل – لاستغنائنا عن وظيفته التي كان يقوم بها في أسلافنا المزعومين.
وهنا نسألهم فنقول: ولكن لماذا يضمر؟ سلمنا تنزلا بأن الأعضاء الجديدة تنشأ بالطفرات، بحيث إذا انتخبتها الطبيعة أو الانتخاب الجنسي، بقيت وانتشرت وصار حاملها نوعا جديدا، فيه وظيفة عضوية جديدة، اتفق لها اتفاقا أن وقعت له من أثر الطفرة.
ولكن إن قدرنا أن ظهرت طفرات أخرى في النوع نفسه، صيرته نوعا آخر، ومن ثم أغنته عن استعمال عضو من الأعضاء الموروثة من سلفه التطوري، فما وجه ضمورها في جميع أفراد النوع؟ المتصور تحت آلية عمياء في توليد الأعضاء والنظم والوظائف الجديدة بالطفرات وفي انتخاب ما يصلح منها للبقاء، ألا يتأثر توارث أفراد النوع لتلك المادة الوراثية بفقدان الوظيفة العضوية، لأن وجودها فيهم من الأصل لم يكن تبعا لقيام الداعي الوظيفي لوجودها عند صانع عليم حكيم فيما يعتقدون، بحيث إن زال الداعي، زالت أو سلكت في طريق للزوال التدريجي! من أين تأتي القاعدة القائلة بأن الأعضاء التي تفقد وظيفتها في النوع الجديد، فإنها تمضي إلى زوال لا محالة، تضمر أو تضمحل حتى تختفي؟ هذا إن سلمنا به، فإنما يكون نظاما للتطفر التدريجي الجاري، بالضرورة، على غاية معلومة وخطة مرسومة سلفا، وهو ما يلزمهم معه إبطال آليتي الطفرة العشوائية والانتخاب الطبيعي معا! فالانتخاب مداره على دعوى أن العضو أو النظام الحيوي إن اتفق له أن ظهر في النوع الحي، فإنه ينتشر في أفراد النوع كله على أساس أن من لا يتحلى به يعجز عن التناسل ومن ثم ينقرض، وإذن يصبح نوعا جديدا قد انتخبته الطبيعة تحت ضغط البقاء.
فالوظيفة إذن تظهر بعد أن لم تكن، وتنتشر في جميع أفراد النوع، بحيث لا يخلو منها فرد منهم، لأنه لا بقاء للنوع إلا بها.
ولكن عند تحول النوع بعدُ إلى نوع آخر جديد، فيه من الأعضاء والوظائف ما يغني عن ذلك العضو القديم ووظيفته بالكلية، فعلى أي أساس تنتخبه الطبيعة للضمور والاضمحلال؟ سلمنا بأنه إذن لن تكون له وظيفة على الإطلاق، فلماذا يضمحل في جميع أفراد النوع بالتدريج كما يزعمون أنه ما حصل؟ أين الداعي الطبيعي إلى ذلك؟ هذا على أساس أنه لو بقي على ما كان عليه في السلف التطوري، فسينقرض النوع الجديد بالكلية؟ الجواب لا، هذا لا وجه له على طريقتهم ومنطقهم البتة! هم يقولون إنها تبقى لأن بقاءها لا يكلف النظام الحيوي كثيرا في التمثيل الغذائي، ولا يشكل عبئا عليه، ولكن يظل السؤال قائما: من أين تأتي القاعدة القائلة بأن ما يفقد وظيفته فإنه يضمحل أو يتضاءل بعد حين؟
سلمنا تنزلا بأن الحيتان اتفق لها اتفاقا في يوم من الأيام أن تحولت زعانفها إلى أرجل تعينها على الزحف، وأن ثمة ظروفا مرت بالأرض كان فيها هذا الزاحف الجديد أليق للبقاء من غيره، فوظيفة القدم أو الساق بهذا تكون الطبيعة قد انتخبتها في العضو القائم بها فبقيت.
لكن ما الداعي التطوري في القردة العليا المزعومة لأن تضمر أذيالها (مثلا) في نوع يأتي بعد من نسلها، فيصبح جميع أفراد النوع الجديد متصفين بقصر الذيل، لاستغنائهم عن تسلق الأشجار بالكلية؟ لو كانت آليات التطور الدارويني مطابقة للواقع، للزم أن نجد في بني آدم الآن بشرا لهم أذيال، وبشرا قد تحورت أذيالهم إلى أشياء أخرى لا وظيفة لها كذلك ولا حسن في تقويمها، وبشرا قد اضمحلت أذيالهم بالكلية فلم يبق منها شيء. فهي على أي حال تكون إذن ثمارا لطفرات عشوائية محضة، تتوارثها الأجيال دون أن تؤثر في وظيفة معينة يهلك النوع بدونها، ومن ثم تجري عليها آلية الانتخاب! أما أن يصبح النوع كله وقد عدم فيه الذيل في أصل خلقته، بحيث لا نجد في محله إلا عظمة صغيرة تشبه أن تكون ذيلا دقيقا للغاية، فهذا دليل على الغائية والمقصد الأعلى عند الخالق ولا شك، دليل على وظيفة أخرى خلق لأجلها ذلك الشيء على هذه الصورة، وهو ما من شأنه أن ينقض على التطوريين الدهرية أصل النظرية كما ذكرنا. ثم إنه كذلك ينقض على التطويريين (القائلين بالتطور الموجه) تنظيرهم ولاهوتهم التطوري، لأننا إن سلمنا بأن في الإنسان أعضاء عديمة النفع والوظيفة، وأنها ماضية إلى اضمحلال وانقراض، لزمنا اعتقاد أن التطور هذا صنعة صانع أعمى يترك الأعضاء في الأنواع الجديدة عبثا وهملا بعدما عدمت وظيفتها، وأنه لم يخلق بني آدم على أحسن تقويم كما في القرآن! وهذا من جملة ما ألزمنا به الدكتور عمرو شريف في كتاب المعيار!
وإذن يتحصل لنا في تلك الأعضاء الموصوفة بالضامرة زورا وكذبا، حجة على التطوريين والتطويريين جميعا، والله الهادي إلى الرشاد.