العلوم الشرعية

هل يُفهم التمانع من آية سورة الأنبياء، وهل تدل عليه؟

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد، فقد ذكر بعض أهل العلم أن دليل التمانع، الذي هو حجة ظاهرة على امتناع تعدد الأرباب وبيان لما يلزم منه من السخف والفساد، هذا الدليل لا يستفاد من قوله تعالى في سورة الأنبياء: ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)) [الأنبياء : 22]، لأنه سبحانه عبر في الآية بلفظة “آلهة”، ولم يقل “أرباب”، ولأنه إذا كان المشار إليه في الآية هو فسادهما، فهذا لا يقع إلا بعد تمام خلقهما، ولو قدرنا ربين خالقين لامتنع أن يتما خلق العالم بلا نزاع أو اختلاف من مبدأ الأمر، فدل على أن المقصود هو الفساد الناشئ عن توجه الناس بالعبادة والتأليه إلى جهات شتى، أي الفساد في أفعال الخلق لا في أفعال الربوبية. وهذا الكلام في الحقيقة فيه نظر من وجوه. فأما الوجه الأول، فهو أن البشر قد تعددت فيهم الآلهة فعلا وانتشرت، حتى بلغ بعض الوثنيين في الهند وما حولها أنهم يعبدون مئات الآلهة، بل يعبدون ويألهون كل شيء! والآية تقرر امتناعا لامتناع، تقرر امتناع الفساد في الأرض والسماوات، لامتناع تعدد الآلهة فيهما، فإذا قلبنا الامتناع الأول وقوعا، بطل الكلام وفسد!
وأما الوجه الثاني فهو أن الله تعالى يقول لو كان “فيهما” آلهة إلا الله لفسدتنا، أي لو كان في العالم آلهة إلا الله لفسد كله، فشمل بذلك المكلفين وغيرهم، كالملائكة في السماوات العلا، فدل على أن المقصود: لو كان في العالم آلهة متعددة تستوي في استحقاقها أن يؤلهها ويعبدها كل مخلوق، لفسد العالم على من فيه، من أوله إلى آخره. والإله المستحق للعبادة والتأليه هو الرب الذي بيده النفع والضر وإليه منتهى الأمر، وليس الإله الباطل الذي يعبده الناس ظلما وإفكا.
وأما الوجه الثالث، فهو أنه سبحانه ينسب الفساد في الآية إلى الأرض والسماوات معا، والفساد الناشئ عن إشراك العباد بربهم، إنما يكون في الأرض لا في السماوات، كما في قوله تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) [الروم : 41]
وأما الوجه الرابع، فهو أنه سبحانه يسبح نفسه بوصفه إياها بقوله “رب العرش”، فدل بالمناسبة على أن المراد بالآلهة هنا، أي التي تستحق التأليه حقا، وهي التي توصف بتمام الربوبية دون غيرها. والتسبيح هنا يستفاد منه تنزيه رب العالمين عن ذلك الإفك والكذب الظاهر، الذي تمجه الفطرة وتأباه النفس السوية، ولا تفتقر إلى نظر أو ترتيب للنتائج على المقدمات النظرية حتى تعرف فساده! وإنما يساق ذلك الاحتجاج على المشركين في مقام التشنيع عليهم بدعواهم التي يعرفون فسادها في بواطن نفوسهم، وإنما يغفلونه أو يتغافلونه إعراضا أو جحودا أو استكبارا!
وأما الوجه الخامس، فهو أنه سبحانه استعمل لفظة “الإله” أيضا في الآية الأخرى التي اتفق أهل العلم على عدها تصريحا بدليل التمانع، وهي قوله ((مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)) [المؤمنون : 91]، والآية فيها تقدير ما يكون لو تعددت الآلهة مع الاشتراك في التسلط على نفس العالم، أي مع سبق مخلوقية العالم وقيامه في الأعيان، فحينئذ يذهب كل واحد منهم بما خلق لا محالة، أو يعلو بعضهم على بعض، والله منزه عن جميع ذلك. وهذا نظير ما في آية الأنبياء من الفرض الممتنع، بصرف النظر هل يستقيم عقلا للعالم أن يخلق أصلا إن قدرنا أن تعدد الخالقون أم لا. الفرض أنه قائم فعلا، وأن كل رب قد خلق بعضه دون بعض، وأنهم جميعا مشتركون في القيام عليه! وهذه هي الصورة التي توجب عند جميع المشركين أن يشركوا مع الله في العبادة، فإما أنهم يصرحون بشرك الربوبية، وبأن ثمة مخلوقين قد رفعهم الرب إلى منزلته، وسلطهم على مقادير الخلق، مع إقرارهم له بأنه هو خالق كل شيء ابتداء، فصاروا يتصرفون في العالم بأفعال الربوبية، سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وإما أنهم يطلبون من بعض المخلوقين ما يقتضي جعلهم شركاء لله في أفعال الربوبية، فيصبح وكأن كل واحد منهم قد صار له من صفات الربوبية وخصائصها ما يتسلط به على الناس، فينتهى إليه دون غيره في طلب بعض أنواع النفع، وفي الاستعاذة من بعض أنواع الضر! والذين يجعلون بعض الأولياء المقبورين واسطة فيما بينهم وبين الله، يقولون هم الباب الذي لا ترجى الإجابة إلا منه، أو لا ترجى من غيره كما ترجى منه، أو نحو ذلك مما يقولون، هؤلاء يصيرون المخلوق ربا لا يمر دعاء العباد إلا من طريق سمعه هو، ولا يجاب إلا بفعله هو وشفاعته هو. مع أنهم جميعا إن سئلوا من خلق السماوات والأرض فلن يقولوا إلا أن الله وحده هو الذي خلقهما!
فالآية تفرض الآلهة بمعنى المألوه بحق، الذي له من التصرف بأفعال الربوبية ما يوجب له العبادة والتأليه، وهو نفس الفرض في الآية الأخرى، آية الأنبياء. فكلتاهما تتواردان على فرض واحد وعلى صورة واحدة على الحقيقة، وإن كانت آية المؤمنون تفصل ما أجملته آية الأنبياء. وعلى هذا فالآيتان في مجموعهما تقرران أنه لو كان في العالم آلهة تستحق أن يتوجه إليها الخلق بالدعاء من دون الله حقا، كما هو قول المشركين أو مقتضى أفعالهم وإن لم يصرحوا، لفسد العالم كله من أوله إلى آخره، بأن يذهب كل إله من تلك الآلهة بما خلق، أو بأن يعلو بعضهم على بعض، وهذا هو تمام الدليل.
وقد أحسن الطاهر ابن عاشور رحمه الله وأجاد في بيان ذلك المعنى في قوله في “التحرير والتنوير” تعليقا على آية الأنبياء: “أيْ لَوْ كانَ في السَّماواتِ والأرْضِ آلِهَةٌ أُخْرى ولَمْ يَكُنْ جَمِيعُ مَن فِيها مِلْكًا لِلَّهِ وعِبادًا لَهُ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ والأرْضُ واخْتَلَّ نِظامَهُما الَّذِي خُلِقَتا بِهِ. وهَذا اسْتِدْلالٌ عَلى بُطْلانِ عَقِيدَةِ المُشْرِكِينَ؛ إذْ زَعَمُوا أنَّ اللَّهَ جَعَلَ آلِهَةً شُرَكاءَ لَهُ في تَدْبِيرِ الخَلْقِ، أيْ أنَّهُ بَعْدَ أنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ أقامَ في الأرْضِ شُرَكاءَ لَهُ، ولِذَلِكَ كانُوا يَقُولُونَ في التَّلْبِيَةِ في الحَجِّ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ، إلّا شَرِيكًا هو لَكَ، تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ، وذَلِكَ مِنَ الضَّلالِ المُضْطَرِبِ الَّذِي وضَعَهُ لَهم أئِمَّةُ الكُفْرِ بِجَهْلِهِمْ وتَرْوِيجِ ضَلالِهِمْ عَلى عُقُولِ الدَّهْماءِ. وبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ اسْتِدْلالٌ عَلى اسْتِحالَةِ وُجُودِ آلِهَةٍ غَيْرَ اللَّهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضَ؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ أنَّ اللَّهَ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ، قالَ تَعالى: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزمر: ٣٨] في سُورَةِ الزُّمَرِ، وقالَ تَعالى: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ [الزخرف: ٩] في سُورَةِ الزُّخْرُفِ. فَهي مُسُوقَةٌ لِإثْباتِ الوَحْدانِيَّةِ لا لِإثْباتِ وُجُودِ الصّانِعِ؛ إذْ لا نِزاعَ فِيهِ عِنْدَ المُخاطَبِينَ، ولا لِإثْباتِ انْفِرادِهِ بِالخَلْقِ؛ إذْ لا نِزاعَ فِيهِ كَذَلِكَ، ولَكِنَّها مُنْتَظِمَةٌ عَلى ما يُناسِبُ اعْتِقادَهُمُ الباطِلَ لِكَشْفِ خَطَئِهِمْ وإعْلانِ باطِلِهِمْ. والفَسادُ: هو اخْتِلالُ النِّظامِ وانْتِفاءُ النَّفْعِ مِنَ الأشْياءِ. فَفَسادُ السَّماءِ والأرْضِ هو أنْ تَصِيرا غَيْرَ صالِحَتَيْنِ ولا مُنْتَسِقَتَيِ النِّظامِ بِأنْ يُبْطَلَ الِانْتِفاعُ بِما فِيها. فَمِن صَلاحِ السَّماءِ نِظامُ كَواكِبِها، وانْضِباطُ مَواقِيتِ طُلُوعِها وغُرُوبِها، ونِظامُ النُّورِ والظُّلْمَةِ. ومِن صَلاحِ الأرْضِ مَهْدُها لِلسَّيْرِ، وإنْباتُها الشَّجَرَ والزَّرْعَ، واشْتِمالُها عَلى المَرْعى والحِجارَةِ والمَعادِنِ والأخْشابِ، وفَسادُ كُلٍّ مِن ذَلِكَ بِبُطْلانِ نِظامِهِ الصّالِحِ. ووَجْهُ انْتِظامِ هَذا الِاسْتِدْلالِ أنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَتِ الآلِهَةُ لَلَزِمَ أنْ يَكُونَ كُلُّ إلَهٍ مُتَّصِفًا بِصِفاتِ الأُلُوهِيَّةِ المَعْرُوفَةِ آثارُها، وهي الإرادَةُ المُطْلَقَةُ والقُدْرَةُ التّامَّةُ عَلى التَّصَرُّفِ، ثُمَّ إنَّ التَّعَدُّدَ يَقْتَضِي اخْتِلافَ مُتَعَلِّقاتِ الإراداتِ والقَدَرِ؛ لِأنَّ الآلِهَةَ لَوِ اسْتَوَتْ في تَعَلُّقاتِ إرادَتِها ذَلِكَ لَكانَ تَعَدُّدُ الآلِهَةِ عَبَثًا؛ لِلِاسْتِغْناءِ بِواحِدٍ مِنهم، ولِأنَّهُ إذا حَصَلَ كائِنٌ فَإنْ كانَ حُدُوثُهُ بِإرادَةِ مُتَعَدِّدِينَ لَزِمَ اجْتِماعُ مُؤَثِّرَيْنِ عَلى مُؤَثِّرٍ واحِدٍ، وهو مُحالٌ؛ لِاسْتِحالَةِ اجْتِماعِ عِلَّتَيْنِ تامَّتَيْنِ عَلى مَعْلُولٍ واحِدٍ، فَلا جَرَمَ أنَّ تَعَدُّدَ الآلِهَةِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلافَ مُتَعَلِّقاتِ تَصَرُّفاتِها اخْتِلافًا بِالأنْواعِ، أوْ بِالأحْوالِ، أوْ بِالبِقاعِ، فالإلَهُ الَّذِي لا تَنْفُذُ إرادَتُهُ في بَعْضِ المَوْجُوداتِ لَيْسَ بِإلَهٍ بِالنِّسْبَةِ إلى تِلْكَ المَوْجُوداتِ الَّتِي أوْجَدَها غَيْرُهُ، ولا جَرَمَ أنْ تَخْتَلِفَ مُتَعَلِّقاتُ إراداتِ الآلِهَةِ بِاخْتِلافِ مَصالِحِ رَعاياهم أوْ مَواطِنِهِمْ أوْ أحْوالُ تَصَرُّفاتِهِمْ، فَكَلٌّ يَغارُ عَلى ما في سُلْطانِهِ، فَثَبَتَ أنَّ التَّعَدُّدَ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلافَ الإراداتِ وحُدُوثَ الخِلافِ” اهـ.
ووجه دلالة الآيتين معا هو الابتداء بفرض أن يكون في الوجود الآن ربان (أو أكثر)، لكل واحد منهما من صفات الربوبية والتصرف بالخلق والتكوين في هذا العالم ما للآخر، فهما إذن ندان في القدرة والخالقية، ومن ثم في استحقاق أن يتوجه إليهما المخلوقون بالعبادة والتأليه، لو قدرنا ذلك، لوجب أن يختلفا (أو يختلفوا) لا محالة، في تسيير نظام السماوات والأرض، ما دام لكل واحد منهما (أو منهم) إرادته المستقلة. فما الدليل على وجوب أن يختلفا؟ ذكر بعض العلماء أننا نرى العالم الآن على حالة معينة وهيئة معينة، هل وجه من وجوه الإمكان في موجوداته دون غيرها، فإما أنهما اتفقا على أن يرجحا ذلك الوجه على خلافه، وإما أنهما اختلفا، فإن قدرنا أنهما اتفقا، فما موجب أن يتفقا؟ لابد من علة متقدمة عليهما جميعا توجب لهما أن يتفقا في كل فعل يصدر عن أحدهما، وفي جميع ما يتولد عنه من الآثار والمسببات! فإن قيل إنها الحكمة التي توجب ألا يكون العالم إلا على ما هو عليه، قلنا الحكمة في حق صانع العالم تتعلل بإرادته هو لا بإرادة غيره، فإنه لا موجود فوقه ولا يُسأل عما يفعل. فأي شيء يمنعه من أن يختلف في الإرادة الأولى العليا عن تلك الأرباب الأخرى المقدرة، بما يوجب أن تكون الحكمة عنده بخلاف الحكمة عندهم في نفس الأمر، مع كون وجوه الإمكان المختلف فيها بينهم بحيث لا يكون في أي منها تناقض أو ظلم أو فساد أو وضع للشيء في غير موضعه؟! لا شيء يمنع ذلك، لأن الفرض أن إرادة كل واحد منهم هي العلة التامة لجميع أفعاله، لا إرادة غيره! فإذا عدم ما يوجب الاتفاق التام السابغ في اختيار ما يكون وما لا يكون، في كل صغيرة وكبيرة من حوادث العالم، وفي ترجيح الممكنات كلها، تبعا لإرادة عليا واحدة متفق عليها فيما بينهما، فهما مختلفان لا محالة! وإذا اختلفا، فلابد أن إرادة أحدهما هي التي غلبت على إرادة الآخر، وإذن فلا يكون المغلوب التابع ربا مستحقا للتأليه أصلا.
وللتمثيل على ذلك يقال: هب أن مخلوقا يعبد الرب (أ)، ومخلوقا غيره يعبد الرب (ب)، وتوجه المخلوق الأول إلى (أ) بطلب ورجاء أن يفعل (س)، وتوجه الثاني إلى (ب) بطلب ورجاء أن يفعل نقيض (س)، فأراد (أ) أن يجيب عبده، وأراد (ب) أيضا أن يجيب عبده، يفعل له ما يريد، فما الذي يترتب على ذلك؟ لا يجوز اجتماع النقيضين كما هو معلوم. وإذن فلابد أن واحدا منهما دون الآخر هو الذي ستنفذ إرادته، وسيجاب دعاء عبده كما طلب، وإذن فليس الآخر بإله ولا يصلح أن يكون إلها. وهذا هو وجه التمانع المستفاد من الآيتين، لأنه إذن لا يجد الإلهان إلا أن يذهب كل واحد منهما بما خلق وبمن يعبدونه، أو أن يعلو أحدهما على الآخر، وإذن يكون المتغلب وحده هو الإله المستحق للعبادة دون غيره. ولكن قد تنطع بعضهم فقالوا ما معناه: وما المانع من أن يتفقا ابتداء على ألا يطلب مخلوق من المخلوقات إذا طلب، إلا ما يتفقان على قبوله وإجابته؟ يتفقان على كل صغيرة وكبيرة وكل سبب ومسبب وكل أثر ومؤثر، فيجيب (أ) دعاء عباده بما يرتضيه (ب) ولا يخالف إرادته، ويجيب (ب) كذلك دعاء عباده بنظير ذلك؟ أليس الفرض أنه لا يقع في الوجود إلا ما يتفقان عليه؟ وجواب ذلك أن يقال: إذ قدرنا موجودين قديمين وجابي الوجود، بحيث لم يزل كل منهما لا يخلق إذا خلق إلا ما يوافق إرادة الآخر، ولا يفعل إذا فعل إلا ما يرتضيه الآخر ولا يعترض عليه أبدا بحال من الأحوال، لزم أن يكونا موجودا واحدا بإرادة واحدة على التحقيق، وأن تكون تلك الإرادة مفروضة عليهما جميعا من خالق متقدم عليهما، يملك أن يخالف غيره من الموجودات فيما يريد وما يختار! فإن من كمال الإرادة الواجب لصانع يوصف بأنه العلة التامة لكل موجود مما سوى نفسه، أن يملك مخالفة غيره من الموجودات فيما يريدون، يملك أن يشاء المخالفة! ولكن هذه الصورة المفروضة لا يكون لأي من الربين المقدرين فيها أن يخالف الآخر في شيء أبدا، من الأزل وإلى الأبد! وهذا لا يكون لموجودين مهما طال وجودهما إلا بأن يُشرط عليهما شرطا من موجود فوقهما، هو الذي يركب فيهما ملكة الإرادة بحيث تكون على هذا الشرط! الملائكة مخلوقة بحيث لا يرد على نفوسها أن تريد مخالفة الرب سبحانه أصلا، ولا ينبغي لهم ولا يستطيعون! فالموافقة التامة المطلقة هذه في الإرادات التي تقوم بنفس الموجود، لا تكون إلا مخلوقة معلولة بإرادة موجود فوقها هو الذي يجعلها كذلك! وإلا فلا موجب لأن يكون العالم على ما هو عليه، ولا أن تكون الإرادة العليا والإرادات التفصيلية المتفرعة عليها، التي لأجلها جُعل على ما هو عليه، كما كانت عند الباري سبحانه! بل كان له أن يختار خلاف ذلك كله سبحانه، من يوم أن قال للقلم اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، دون أن يكون مضطرا لموافقة غيره فيما يريد وما يختار! فإن قدرنا له ندا مكافئا في القدرة والإرادة، وجب أن يكونا جميعا متعللين في تلك المكافأة نفسها، بمن اختار أن يجعلهما كذلك، يفرضه عليهما بالخلق فرضا! ولهذا يمتنع أصلا أن يكونا قديمين واجبين!
وهذا ما يرد به على ما زعمه بعض من لا خلاق لهم من غلاة المعتزلة والجهمية، من أن الدليل ضعيف وأنه إقناعي وليس برهانيا، أي أنه لا يتقرر به امتناع لامتناع على الحقيقة، وإنما يستند فيه إلى توهم السامع الفساد المدعى بمقتضى العادة لا غير!! قال متكلم أحدهم (وهو متكلم رافضي) في التعليق على البرهان: “لكن هذا الاسلوب من الاستدلال ليس صحيحاً… إذ أي ضرورة لفرض التزاحم والتعارض بين ارادات الخالقين؟ بل لابد من اعتبار التطابق والانسجام بين ارادتهم ورغباتهم، إذ المفروض أن كلاً منهم واجب الوجود، وكلاً منهم عليم وحكيم، وكلهم يسيرون على وفق المصلحة والحكمة…. ولما كانت المصلحة واحدة لا غير فإن إرادات الخالقين مهما ازداد عددهم يجب أن تتوافق.” قلت وهذا محض زندقة، نسأل الله السلامة! الله تعالى يطلق ويقول “لفسدتا”، وهذا يقول لا يلزم التزاحم ولا التعارض، بل إن قدرنا كل واحد من تلك الآلهة بالغا الغاية من العلم والحكمة بما يوجب له التأليه والعبادة، فلابد أن يكون الجميع على وفاق تام في كل ما يحكمون به وما يريدون، لأنهم لا يريدون إلا ما فيه المصلحة المحضة، على طريقة المعتزلة في قولهم إن الرب لا يريد إلا ما هو أصلح للعباد، والأصلح واحد لا يتعدد، فلابد أن يتفقوا. فإذا انتقض أصل وجوب فعل الأصلح للعباد على الله تعالى، سقط هذا الكلام! بل إنه من الأصل لا موجب لأن يكون العباد في هذا العالم بحيث يكون هذا أو ذاك هو الأصلح لهم، هذا كله جار على إرادة إلهية سابقة يجوز عقلا، بلا ظلم ولا فاسد، أن تكون على خلاف ما كانت! فلو قدرنا تعدد الأرباب، فما موجب الاتفاق إلا أن يكون الجميع قد فرض عليهم فرضا ألا تقع في نفسيهما إلا إرادة واحدة يتفقان عليها البتة، كيفما كانت؟؟ أنت إذا جوزت أن يكون هذا العالم على خلاف ما هو عليه الآن، دون أن يقع من ذلك الاختلاف ظلم أو جهل أو وضع لشيء ما في غير موضعه، في صنعة من صنعه، انتفى الموجب العقلي المزعوم لأن يتفق الصانعان المقدران في كل حادث من حوادثه! وإن قدرناهما قديمين على السواء، بحيث لا يختلفان أبدا في أي عالم يخلقانه، لزم التناقض الذي ذكرنا في فرضهما قديمين، وامتنع التعلل التام في شيء من حوادث العالم إلا بخالق متقدم عليهما، يكون هو تعليل اتفاقهما التام في كل إرادة، والله أعلى وأعلم.
أبو الفداء ابن مسعود
غفر الله له

منقول من قناة إقناع

قناة إقناع غير مسؤولة عن نقل منشوراتها إلى هذا الموقع ، إنما هو عمل فردي من إدارة موقعنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى