أبحاث شرعيةأبحاث عقدية

نفائس في الحكمة والتعليل [1]

«واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولب العالم».

~ ابن القيم

مقدمة

الحمدُ للهِ العليمِ الحكيم، أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وحِكمةً؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن من أعظم أبواب الاعتقاد التي ضلت فيها الأفهام، وزلت فيها الأقدام، من سائر الطوائف المنتسبة إلى الإسلام، فضلًا عن الجاحدين الخارجين عن الملة: باب الحكمة والتعليل؛ وهو بابٌ متى اشتدَّ عليه القَفْلُ انكسرَ مِفتاحُ الشبهات، ومتى استبانتْ فيه السبيلُ استقامتْ براهينُ النبوّة.

وهذا مقال أجمع فيه نفائس مما تناثر في كتب المحققين من علماء الإسلام، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، مما يتصل بهذا الباب الشريف، ورتبتُ أطرافه، وهذّبت مسائله، وانتخبت من نفائسه، ما يكون لبًّا للعقول، وزادًا للقلوب، وسراجًا يهدي في ظلمات الاعتراض. فإنه لا يقوم للعبودية مقام، ولا يثبت للدين نظام، إلا بإقرار هذا الأصل، وبناء العلم والعمل عليه، والله الموفق لا رب غيره، ولا هادي سواه.

فصل في تحرير معنى الحكمة

اعلم رعاك الله أن صفة الحكمة عند أهل السنة: هي وضع الشيء في موضعه المناسب له، وهي تتضمن أمرين: الأول: إتقانٌ وإحكامٌ في المخلوق، كما تجد في خلق السماء والأرض والسماء من الإتقان. الثاني: الغايات الحميدة الحسنة التي يحب الباري حصولها؛ فإنه جل ثناؤه لا يفعل إلا ما كان وجوده خير من عدمه، وكل ما يحصل إما محبوب له بالذات أو بالغير.

قال الإمام ابن القيم (ت ٧٥١ هـ) في مدارج السالكين – ط عطاءات العلم (٣/‏٢٩٧):

«وفي الحكمة ثلاثة أقوالٍ للنّاس:

أحدها: أنّها مطابقةُ علمه لمعلومه، وإرادته ومشيئته لمراده. هذا تفسير الجبريّة. وهو في الحقيقة نفيٌ للحكمة، إذ مطابقة المعلوم والمرادِ أعمُّ من أن يكون حكمةً أو خلافها، فإنّ السّفيه من العباد يطابق علمه وإرادته لمعلومه ومراده، مع كونه سفيهًا.

الثّاني ــ مذهب القدريّة النُّفاة ــ: أنّها مصالح العباد ومنافعهم العائدة عليهم. وهو إنكارٌ لوصفه تعالى بالحكمة، وردُّها إلى مخلوقٍ من مخلوقاته.

الثّالث ــ قول أهل الإثبات والسُّنّة ــ: أنّها الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه بخلقه وأمره، التي أَمر لأجلها، وقَدَّر وخلقَ لأجلها. وهي صفته القائمة به كسائر صفاته: من سمعه وبصره، وقدرته وإرادته، وعلمه وحياته وكلامه».

فقد انقسمت مقالاتُ الناس في «الحِكمة»  — بمعنى الغايةِ المحمودة — إلى فريقين:

  • أوّلُهما: فريقُ النُّفاة؛ وهم الأشاعرة، والجهميّةُ الأُوَل، وابنُ حزم، ومَنْ حذا حَذوهم.
  • وثانيهما فريقُ المُثْبِتة؛ وهم طرائقُ قِدَد: فالمعتزلة، والإماميّة، والماتُريديّة — مع خلافٍ طفيفٍ بينهم — يذهبون إلى أنّ الحُسنَ والقُبحَ ذاتي لماهيّات الأفعال استقلالا عن الفاعلين، ويثبتون لله تعالى حكمة لا تقوم بذاته، ولا يَتعلّق بها حُبُّه، ولا تعود عليه، بل هي محض مصلحةِ المخلوقات؛ وسيأتيك بيان عوار هذا القول.

وأمّا أهلُ الحقّ فيخالفون الطائفتَين جميعًا؛ إذ يثبتون للربّ جلّ وعلا ما نفاه الأوّلون من تعليل أفعاله، ولا يُسلّمون للآخرين دعوى استقلال الحُسن والقُبح عن الباري، بل الحُسنُ والقُبحُ عندهم عينُ ما تعلّق بحُبِّه أو بُغضِه ممّا هو من لوازم ذاته، والغايةُ المقصودةُ بذلك كلّه غايةٌ محبوبةٌ لله، مرادةٌ له، مقصودةٌ بعينه.

والحِكم التي يفعل الباري لأجلها نوعان:

– حكمة تعود إليه سبحانه، يحبها ويرضاها، فإنه لا يعقل في الحكيم إلا الذي يفعل لحكمة تعود إليه، ونفي حكمها في الحقيقة نفي لأصلها، ومجموع ذلك نفي لاستحقاقه الحمد، ونفي لاتصافه بالكمال.

= وهي في الحقيقة صفات من جملة صفاته التي تقوم به، فينزل الغيث رحمة بعباده، وينصر رسله محبة لهم ولدينهم، ويهلك أعداءه غضبًا عليهم وانتقامًا منهم، وهكذا. وهذه الحكم كلها مرجعها إلى صفة المحبة، لأن الله سبحانه يحب أسماءه وصفاته، ويحب ظهور آثارها وموجباتها في المخلوقات.

– حكمة تعود إلى المخلوقين، يفرحون ويلتذون بها، وهي أثر تلك الحكمة العائدة إليه سبحانه من محبته ورحمته وإحسانه وكرمه وسائر الحكم التي هي صفاته كما تقدم، فهذه الصفات تطلب أثرها وتقتضيه، وهذا الأثر هو الحِكم التي تعود على المخلوقين من حصول منافعهم وتحقق مصالحهم، ودفع الشرور عنهم.

فالحكمة مطلوبة بفعله سبحانه، أي أنها مُرادة محبوبة له جل ثناؤه، فلم تقع اتفاقًا كما لو رمى رجل حجرًا من نافذة فأصاب أفعى في الطريق يتضرر بها الناس فقتلها. وليست تبعًا للفعل؛ حصلت عقيبه حصولًا مجردًا عن إرادة الفاعل، بل هي مرادة للفاعل مقصودة له. وهذه الحكمة المقصودة منه سبحانه هي = مناط محبته وحمده والثناء عليه سبحانه، وذلك لأن الرب يُحمد ويُحب لأجل كماله وأفعاله، ومن ذلك حكمته سبحانه، فيُحمد الله عليها لاتصافه بها وعودة حكمها عليه، كما يُحمد كذلك على أثر هذه الصفة في مفعولاته.

ومعلوم أن المفعول لأجله مراد للفاعل محبوب له، والمراد المحبوب تارة يكون مرادًا لنفسه، وتارة يكون مرادًا لغيره، والمراد لغيره لابدّ أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعًا للتسلسل، وهذا كما نقول في خَلْقه بالأسباب: إنه يخلق كذا بسبب كذا، وكذا بسبب كذا، حتى ينتهي الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الربّ، فكذلك يخلق لحكمة، وتلك الحكمة لحكمة، حتى ينتهي الأمر إلى حكمة لا حكمة فوقها.

واعلم أن أهل السنة على خلاف طريقة أهل البدع من المعتزلة والقدرية الذين يوجبون على ربهم اللطف ومراعاة الأصلح لكل عبد، فيشرعون له شريعة بعقولهم، ويحجرون عليه، ويحرّمون عليه أن يخرج عنها، ويوجبون عليه القيام بها، وقد بنوا أصلهم هذا على تشبيه للخالق بالمخلوق في أفعاله، فقالوا: ما يحسن من المخلوق يحسن من الخالق، وما يقبح منا يقبح منه، لأن الحسن والقبح من ماهيات الأفعال لا يختلف شاهدا ولا غائبا. وهو باطل كما تقدم، فليست صفات الأفعال مستقلة عن الفاعلين؛ وعلى هذا التقدير: فلا سبيل لإثبات وجوب فعل من الباري، إلا أن يكون نقيضه قبيحا، أو يتعين كونه غايته، ودونه خرط القتاد.

فصل في دلالة المعقول على وجوب الحكمة

اعلم أن دلالة السمع على هذا الأصل مستفيض معلوم بالاضطرار، تبلغ أدلته الألف أو يزيد، يحصيها المعنيون بهذا الشأن؛ ونحن نذكر أدلة المعقول المُصدقة لما أتى به الوحي، فنقول:

الوجه الأول

أن الفاعلُ المختارُ لا يباشرُ فعلاً إلا لغايةٍ مقصودةٍ أحبَّ إليه من نقيضها؛ إذ خلوُّ الفعلِ من غايةٍ أو تساويُ نسبة الغايةِ ونقيضِها إليه يُفضي إلى ترجيحٍ بلا مرجِّح، وهو ممتنعٌ بصريح العقل.

وبيانه: أن الإرادة والقدرة بمجردهما لا يخصصان معينًا على معين، لأن نسبتهما إلى جميع المتماثلات سواء، فلا بد من مرجح للفعل، وهذا المرجح لا يكون إلا الحكمة، لأن الفاعل المريد إنما يرجح مرادًا على مراد بما ينضم إلى إرادته من محبة هذا المراد، أو محبة ما يؤول إليه، فلا يعقل أن يرجح المراد إذا استوى عنده وجوده وعدمه، بل لا بد أن يكون وجوده أولى عنده من عدمه، وهذه هي حقيقة الحكمة.

ولا يخلو إما أن من لوازم الذات (1) حب الخير، (2) أو الشر، (3) أو بعض الخير وبعض الشر، وتعلق الحب راجع إلى صفات المُحب، ولما كان الخير -بالتعريف- وجوديا، والشر عدميا؛ وكان كل كمال محض واجب للواجب كما قد بسط في غير هذا الموضع، لاقتضاء مسمى النقص لقابلية العدم المنافي لوجوب الوجود، امتنع الثاني والثالث ووجب الأول، فعُلم أن جميع غايات أفعال الباري حسنة.

وقد أورد الأشاعرة على المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة حجة تقطعهم على أصولهم، فقالوا: العلة التي فعل لأجلها إن كان وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء امتنع أن تكون علة، وإن كان وجودها أولى، فإن كانت منفصلة عنه لزم أن يستكمل بغيره، وإن كانت قائمة به لزم أن يكون محلا للحوادث. فالمعتزلة وأتباعهم من الشيعة تثبت من التعليل ما لا يعقل، وهو أنه فعل لعلة منفصلة عن الفاعل مع كون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء.

والحق الذي دل عليه صريح العقل ويقتضيه هذا الدليل الذي ذكره الأشاعرة، أن الحكمة صفة الباري القائمة به، ولا محذور في قيام الأمور الاختيارية كما هو مذهب أصحابنا. وأن وجودها وعدمها ليسا سواء بالنسبة إلى الفاعل، بل وجودها أولى لحبه سبحانه لها؛ فتأمل أن لا مخرج من هذه الإشكالات العويصة التي حيرتهم إلا على مذهب السلف أهل الحديث، أتباع الوحي المنزل من رب العالمين.

الوجه الثاني

اعلم أن الوجودَ كله، من أعلاه إلى أدناه، ومن عظائمه إلى دقائقه، يدل دلالة ظاهرة على أن خالقه حكيم في صنعه، رحيم بخلقه، بالغ في تدبيره. ولو تأمل العاقل ما في الكون من مصالح مترابطة، وغايات محكمة، وأسباب مرتبة، لعلم أن العقل، مهما بلغ، لا يحيط بها ولا يحصيها.

وما من مخلوق إلا وفي خلقه من الحكم والمنافع ما يعجز الإنسان عن إدراكه كله. فليتأمل الإنسان نفسه: في خلقه، وهيئته، وأعضائه، وقواه الظاهرة والباطنة؛ فإنه لو قضى عمره يتأمل ما فيه من النفع والتدبير، لما بلغ غايته، فكيف إذا نظر في نظام العالم كله، بما فيه من سماء وأرض، وعلو وسفل؟

ومن تدبر ما يشهده في الحياة، علم أن الخير هو الغالب في الخلق، وأن الشر – وإن وُجد – قليل نادر، ضعيف الظهور، مغلوب في الغالب. فانظر إلى حال الأحياء: تجد أن الأصحاء أكثر من المرضى، وأن السلامة أغلب من البلاء، وأن النعمة والطمأنينة واللذة هي الأصل، وما سواها عارض؛ ولا يمتنع أن يكون منها حِكم ومصالح قصرت مداركنا عن معرفتها -كما سيأتيك تفصيله-.

بل حتى ما يصيب الحيوان من ألم أو شدة – من حرّ أو برد، أو جوع أو تعب، أو حمل وولادة – فهو مغلوب بما يناله من أكل وشرب، وراحة وسكن، وتكاثر وانتفاع. ولا يرتاب عاقل أن نسبة ما يصيبه من ضرر إلى ما يناله من نفع، كنسبة قطرة إلى بحر، بل أقل. فدلّ ذلك على أن الأصل في خلقه هو الرحمة، وأن ما يصيبه من مكروه إنما هو تابع لحكمة أعلى.

وقد اتفقت كلمة العقلاء: أن من ظهرت حكمته، وتكرر منه الإحسان والإتقان، ثم بدا منه فعل لم تُدرك علته، فإن مقتضى العقل أن يُردّ ما خفي إلى ما ظهر، وأن يُحكم له بما عهد منه، لا أن يُنكر فعله لما خفي من أمره، اعتمادًا على ما استقر من علم بحكمته وكمال قصده.

ولهذا كانت السنن الكونية العامة، كالمطر النازل، والشمس الساطعة، لا تكون إلا رحمة عامة وخيرًا كليًا، وإن عرض لبعض الناس منها ضرر جزئي، فإنه محوَّط بمنفعة أرجح، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت ٧٢٨ هـ) في الحسنة والسيئة – ط دار الكتب العلمية (ص٤٧-٤٨):

«وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة يكون شرًا كليًا عاما، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيرًا ومصلحة للعباد، كالمطر العام، وكإرسال رسول عام. وهذا مما يقتضى أنه لا يجوز أن يؤيد الله كذابًا عليه بالمعجزات التي أيد بها أنبياءه الصادقين؛ فإن هذا شر عام للناس، يضلهم ويفسد عليهم دينهم ودنياهم وآخرتهم».

فصل في قصور مدارك العقول عن الإحاطة بالحكمة

واعلم أنه يمتنع الإحاطة بحكم الله سبحانه، كما تمتنع الإحاطة بذاته العلية وسائر صفاته، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠]. فينبغي للعاقل أن يقطع الطمع عن إدراك الحكمة من كل أمرٍ أو تشريع، وإنما يتهم رأيه وجهله، ويسلم لأمر الله؛ وله سبحانه في إخفائه الحكمةَ حكمةٌ.

فمن العلوم ما لا يضيرنا جهله، بل إن التسليم بالجهل فيه، وترك التطلب لمعرفة علّته، هو عين العقل والرشد. والعقل لا يمنع، بل يوجب أن لا يجب على الرب الخالق تفصيل بيان حكمته وغايته من خلق كل دقيق وجليل. بل الواحد منا لو أَطْلع غيرَه على جميع شأنه وأمْره عُدّ سفيهًا جاهلًا، وشأن الربّ تعالى أعظم من أن يُطْلِع كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته. ومعلوم بالبداهة أن المخلوق لا يحيط بعلم الخالق؛ بل لو أخبرنا الله بجميع الحكم من كل أفعاله لأرهقنا بمعلومات لا أول لها ولا آخر، ولسنا بحاجة إليها أصلًا، إذ يكفينا ما يشهد به العقل من أن له سبحانه الكمال المطلق في كل ما فعل، مما علمنا حكمته ومما جهلنا، سواء بسواء.

والجوابُ الإجماليُّ يُغني المؤمنَ عن الجوابِ التفصيلي؛ فالملائكةُ لم يعرِفوا على التعيين حِكمةَ اللهِ تعالى في استخلافِ آدمَ عليه السلام في الأرض، فقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ ‏[البقرة: ٣٠]، فلم يبيِّن لهم وجهَ الحِكمة تفصيلًا، بل قال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ‏[البقرة: ٣٠]. فكفاهم هذا الجواب، فقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢]. فهذا يَكفي المؤمنين، ومن صحَّ نظرُه استدلَّ بما شَهِدَه على ما خَفِيَ عنه؛ فإنّ الكلَّ صُنْعُ الحكيمِ العليم، ومَن أُشْرِب قلبُه صفوَ الإيمان أغناه هذا الإجمال.

وأمّا الحِكمُ التفصيليةُ فلا يقدر أهلُ الأرض قاطبةً على استيفائها؛ فما يصفُه الواصفون من حِكمته وتنتهي إليه علومُهم منها كمن غمَس إصبعَه في البحر، ثم وصفَ البحرَ بما عَلِقَ به من بَلَل؛ فأين ذلك من البحر؟! ولو قيلَ لأحدٍ: أَحصِ حبّاتِ الرمل، وأسمـاكَ البحر، وجميعَ نجوم السماء، لعجَز؛ فالعجز راجعٌ إلى ضعف القادر، لا إلى انتفاء المعدود. فإذا كان العبدُ أعجزَ عن الإحاطة بحِكمة مخلوقٍ مثلِه، فهو عن حِكمة ربِّه أعجز. فحِكمةُ اللهِ ثابتةٌ لا ريب فيها، ولكنّ العقولَ أضعفُ من الإحاطة بها.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل (٢/‏١٠٦):

«فمن أظلم الظلم، وأبين الجهل، وأقبح القبيح، وأعظم القُحَّة والجَراءة: أن يعترض مَن لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس، التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل، التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين، على حكم الله، ويقدح في حكمته، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه، وسبق به علمه، وأن يكون الأمر بخلاف ما قدّر سبحانه».

فالإنسان لا يتمكن من الإحاطة بالحكمة من كل أفعال مخلوق مثله، والقاعدة المألوفة والعادة المعروفة: أن العالِم إذا تميز عن غيره تميزًا يسيرًا، جاء بما لا يعرفونه، ولا يدركون وجهه، فكيف بخالق العقول ومبدعها؟!

وانظر في قصة موسى والخضر عليهما السلام؛ كيف أن موسى – وهو من أولي العزم من الرسل – خفي عليه وجه الحكمة في أفعال الخضر، مما قصّه الله علينا في سورة الكهف. فالعقل البشري لا يملك من العلم والإحاطة بالأحوال والمآلات، وما كان، وما يكون، وما لو لم يكن كيف يكون، ما يجعله أهلًا ليحكم على الله تعالى في أفعاله وأوامره وشرائعه. ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣]. فإن كان هذا بين مخلوق فاضل ومخلوق مفضول، فكيف بين مخلوق ضعيف وخالق عليم حكيم؟!

وأقول – على سبيل التقريب -: لو فرضنا أن العبد علم نصف ما يعلمه الله جل وعز، لجاز أن تكون حكمة الله فيما جهلناه كامنة في النصف الآخر، فكيف والله يقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥]؟!

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ لما ذكر قصة موسى والخضر، قال: “وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله، إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.”

فليتذكر العبد جهله بنفسه، وتردده في أموره، وحيرته في مسائل يسيرة، ورجوعه عن آرائه مرارًا، ويأسه من الشيء ثم حصوله، فإن علمه بأحوال نفسه علم ضروري، وهو حجة عليه، كما قال تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: ١٤]. ولكنه – كما قال الله – ظلوم جهول: ظلوم لنفسه، جهول بربه، وبعظمته وحكمته وإحكام صنعه.

وأنت إن كنت تثق بعقل إنسان، وبمحبته لك، وصفاء قلبه، فإنك تسلّم لأفعاله، وإن خفي عليك وجه فعل معين. فإن كنت تثق بعقل أبيك، وبحبه لك، ورجاحة تفكيره، ثم رأيت منه فعلاً غريبًا، فإنك لا تقول: لمَ فعل أبي هذا؟ بل ترجع إلى الأصل المقرر عندك، وهو أنه عاقلٌ محب، فلا بد له من عذر وسبب. فكيف إذا كان الفاعل هو الحكيم العليم الرحيم؟!

فخفاء بعض الحكمة مقتضى الحكمة لمن تدبره، إذ هو مقتضى الابتلاء والامتحان، قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي -رحمه الله- [ذم الكلام (٢٦٦ – ٢٦٨)]:

«ولو كان كل ما أتى به الحكم من الله عز وجل، والأمر بتعبده، أتانا مكشوفًا بيانه، موضحة علته، لم تكن للعباد بلوى ولا محنة، وإنما المحن الغلاظ والبلوى الشديدة للأمور والفروض التي لا تنكشف عللها، ليسلم العباد بها تسليمًا، ويقفوا عندها إيمانًا».

ومن أعظم الخطأ ربط الانقياد بمعرفة الحكمة، ولهذا قال الهروي: «ولا يُحمَلا -يعني الأمر والنهي- على علّةٍ تُوهِنُ الانقياد». فإن من استقر حب الباري في قلبه، لم يطلب التنقير عن تفصيل حكمته ليوقن بها، بل يسلم وينقاد لربه. فلا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام؛ فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه : حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان؛ فيتذبذب بين الكفر والإيمان.

وقال ابن الوزير اليماني في البرهان القاطع في إثبات الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع (ص٨٢-٨٣):

«وبالجملة فالاختلاف في مقدار العلوم، يوجب الاختلاف في الأحكام المتفرعة عن تلك العلوم، وعلى هذا، فلو وقع الاتفاق بيننا وبين أحكام الله، ولم يرد في السمع متشابه، كان ذلك من أعظم المتشابه، لأنه يقتضي أن يستوي الخلق وعلام الغيوب، مع كثرة جهالاتهم، ومعارضة شهواتهم وأهوائهم، وكثرة أوهامهم وأغلاطهم، مع الرب الذي يستحيل عليه جميع ذلك».

فصل في بعض أوجه الحِكم العامة

قال الامام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة – ط عطاءات العلم (٨٦٢/٢):

وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه فيكفيهم فيه معرفته بالوجه العام؛ أن تضمنته حكمة بالغة – وإن لم يعرفوا تفصيلها – وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به، فيكفيهم في ذلك الإسناد إلى الحكمة البالغة العامة الشاملة، التي علموا ما خفي منها بما ظهر لهم».

ونحن نذكر بعض الحكم الإجمالية العامة، التي يُرد إليها سائر ما أشكل واستعصى درك وجه الحكمة التفصيلية منه:

الوجه الأول

أن الربَّ سبحانه وتعالى كاملٌ في أسمائه وصفاته وأفعاله؛ ولابدّ من ظهور آثار هذه الكمالات في العالَم. فهو مُحسِنٌ، ويستحيل وجودُ الإحسان بلا مَن يُحسَن إليه، وهو رازقٌ، فلا بُدَّ من مرزوقٍ يرزقه، وهو غفَّارٌ حليم، جوادٌ برٌّ، لطيفٌ بعباده، منَّانٌ وهَّاب؛ فهذه الأسماء والصفات تستلزم متعلَّقاتٍ تتعلَّق بها، وآثارًا تتحقَّق بها، فكان من الحكمة أن يوجد مَن تتعلَّق به تلك المتعلَّقات.

ومن أسمائه كذلك: الخافضُ، الرافعُ، المُعِزُّ، المُذِلُّ، الحَكَمُ، العدلُ، المنتقِمُ؛ وكلُّها تقتضي ظهور متعلَّقاتٍ تجري فيها أحكامُها، كما هو الشأن في أسماء الإحسان والرِّزق والرَّحمة ونظائرها.

ثمّ إنَّه سبحانه الملِكُ التَّامُّ المُلك؛ ومن تمام مُلكه عُمومُ تصرُّفه وتنوُّعه في الثواب والعقاب، والإكرام والإهانة، والعدل والفضل، والإعزاز والإذلال؛ فلا بُدَّ من وجود مَن يختصُّه أحدُ هذَين الضَّربَين، كما أوجد مَن يختصُّه الضَّربُ الآخر.

ولو كان الخلق جميعًا مطيعين عابدين حامدين، لتعطَّل أثرُ كثيرٍ من الصفات العُليا والأسماء الحُسنى؛ فعلى أيِّ وجهٍ يَظهر أثرُ العفو والمغفرة والصَّفح والتجاوز، أو أثرُ الانتقام والعزِّ والقهر، والعدل والحكمة التي تُنزِل الأشياءَ منازلَها وتضعها مواضعَها؟

فالكمال إنما يتمّ في العطاء والمنع، والخفض والرفع، والثواب والعقاب، والإكرام والإهانة، والإعزاز والإذلال، والتقديم والتأخير، والضُّرِّ والنَّفع، وتخصيصِ بعض الخلق دون بعض، وإيثارِ فريقٍ على فريق؛ ولو وقع ذلك كلُّه على نوعٍ واحدٍ متماثلِ الأفراد لكان منافياً للحكمة، إذ لا يُفرِّق بين متماثلَين، ولا يُسوِّي بين مختلفَين.

ومن تمام حكمته سبحانه أنه يحبُّ أن يُظهر لعباده حِلْمَه وصَبْرَه وأناتَه وسعةَ رحمتِه وجودَه؛ فاقتضى ذلك خَلْقَ مَن يُشرِك به، ويُضادُّه في حكمه، ويجتهد في مخالفتِه، ويسعى في مساخِطِه؛ بل يَشتمه جلّ شأنه، وهو مع ذلك يَسوق إليه صنوفَ الطيِّبات، ويرزقُه ويعافيه، ويُيسِّر له أسبابَ الملاذِّ، ويستجيب دعاءه، ويكشف عنه السوء، ويُعامله ببرّه وإحسانه خلافَ ما يُعامله هو به من كفرٍ وشِركٍ وإساءة؛ فكم في ذلك من حكمةٍ وحمدٍ، وتحبُّبٍ إلى أوليائه، وتعريفٍ لهم بجلال كمالاته!

ومع هذا الشتم والتكذيب، يرزق سبحانه الشاتمَ المكذِّب، ويعافيه ويَصْرف عنه الأذى، ويدعوه إلى جنَّته، ويقبل توبتَه إذا تاب، ويُبدِّل سيِّئاته حسناتٍ، ويتلطف به في جميع أحواله، ويوفِّقه لسلوك سبيل رحمته، ويأمر رُسله بأن يلينوا له القولَ ويرفقوا به.

فلكمال محبَّته لأسمائه وصفاته اقتضى حمدُه وحكمتُه أن يَخلق خَلْقًا تُظهَر فيهم أحكامُ تلك الأسماء وآثارُها: فَلِمَحبَّته للعفو خلق مَن يقع منه ما يُحسن العفوُ عنه، ولِمحبَّته للمغفرة خلق مَن يَغفر له ويَحلُم عنه ويُمهِله، ولمحبَّته لعدله وحكمته خلق مَن يَظهر فيهم عدلُه وحكمتُه، ولمحبَّته للجُود والإحسان والبرِّ خلق مَن يُسيء ويَعصي فيُقابَل بإحسانه ومغفرته؛ فلولا مَن تجري على أيديهم صنوفُ المعاصي والمخالفات لضاعت هذه الحكم والمصالح وأضعافها.

وقد نبه أعلم الخلق بالله على هذا المعنى بعينه، حيث يقول في الحديث الصحيح: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون؛ فيغفر لهم». فلو لم يُقدّر الذنوب والمعاصي فلمن يغفر، وعلى مَنْ يتوب، وعمن يعفو، ولمن يسامحويعتق، ويُسقط حقه، ويُظهر فضله وحلمه وجوده وكرمه، وهو واسع المغفرة، فكيف يعطل هذه الصفة؟

الوجه الثاني

وأمّا الآلامُ والمَشاقّ، فهي ـ في حِكمة الله تعالى ـ إمّا إحسانٌ ورحمة، وإمّا عدلٌ وحكمة، وإمّا إصلاحٌ وتهيئةٌ لخيرٍ يَحصُلُ بعدَها، وإمّا لدفْعِ ألمٍ هو أشدُّ منها، وإمّا لكونها ناشئةً عن لذّاتٍ ونِعَمٍ يَلزَمُها ما يُولّد تلك الآلام، أو لأنّها من لوازم العدل، أو من لوازم الفضل والإحسان؛ فهي إذن من لوازم الخير التي إذا عُطِّلت عُطِّلت ملزوماتُها، وفات بتعطيلها خيرٌ أعظمُ من مفسدة تلك الآلام.

وقد حَجَب اللهُ سبحانه أعظمَ اللذّات بأنواع المكاره، فجعَلها جسرًا موصِلًا إليها، كما حَجَب أعظمَ الآلام بالشهوات واللذّات، فجعلها جسرًا موصِلًا إليها. إنّ فاطِرَهُ وبارِئَه إنما أَمرَضَه ليُشْفِيَه، وابتلاه ليُعافِيَه، وأماتَه ليُحيِيَه.

قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: ١٢٠].

وقال تعالى: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: ١٢٣]. قال أبو بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه: يا رسولَ الله، جاءت قاصمةُ الظهر، وأيُّنا لم يعمَلْ سوءًا؟ فقال: «يا أبا بكر، أَلستَ تَنصَبُ؟ أَلستَ تحزَنُ؟ أليس يُصيبُك الأذى؟» قال: بلى، قال: «فذلك مما تُجزَوْن به».

وقال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠]. فهذا تبشيرٌ وتحذير؛ إذ أعْلَمَنا أنّ مصائبَ الدنيا عقوباتٌ على ذنوبنا، وهو أرحمُ من أن يُثنّي العقوبةَ على عبدٍ عاقبه عليها في الدنيا، كما صحّ عنه ﷺ: «من ابتُلِي بشيءٍ من هذه القاذورات فستَرَه اللهُ، فأمرُه إلى الله إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له، ومن عُوقِب به في الدنيا فاللهُ أكرمُ من أن يُثنّي العقوبةَ على عبده». وفي الحديث: «الحدودُ كفّاراتٌ لأهلها».

وفي الصحيح عنه ﷺ: «ما يُصيبُ المؤمنَ مِن وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذًى، حتى الشوكةِ يُشاكُها، إلّا كفّر الله بها من خطاياه». وقال ﷺ: «لا يزالُ البلاءُ بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى اللهَ وما عليه من خطيئة». وفي حديثٍ آخر: «لا تسبّوا الحمّى؛ فإنها تُذهِبُ خطايا بني آدم».

وفي الحديث الصحيح: «يقول اللهُ عزّ وجلّ يوم القيامة: يا ابنَ آدم، مَرِضتُ فلم تَعُدْني. قال: يا ربّ، كيف أعودُك وأنتَ ربُّ العالمين؟ قال: أما عَلِمتَ أنّ عبدي فلانًا مرِضَ فلم تَعُدْه؟ أما لو عُدْتَه لوجدتَني عنده». وهذا أبلغُ من قوله في الإطعام والإسقاء: «لوجدتَ ذلك عندي»؛ فهو سبحانه عند المبتلى بالمرض رحمةً منه له، وجَبْرًا لخاطره، وقُربًا منه لكسر قلبه، فإنّه عند المُنكَسِرة قلوبُهم.

ومن حكمه تعالى في وقوع الآلام لعباده تحصيلُ محبوبِه من عبوديّة الصبر والجهاد، واحتمال الأذى فيه، والرّضا عنه في السرّاء والضرّاء، والثباتِ على طاعتِه مع قوّة المعارض وغلبته، وتمحيصِ أوليائه من أحكام البَشرية ودواعي الطبع ببذل نفوسهم له، وأذى أعدائه لهم، وتميّزِ الصادق من الكاذب، ومَن يعبدُ اللهَ على كلّ حالٍ ممّن يعبده على حَرْف؛ ولتنالَهم مرتبةُ الشهادة التي هي من أعلى المراتب، إذ لا شيء أبرُّ عند المحبوب من بذلِ المحبوبِ نفسِه في مرضاته، ومجاهَدةِ عدوّه.

الوجه الثالث

واعلم أن من تمام كمال الرب تبارك اسمه، وتعالى جده، أنه كما يحسن إلى من سأله، ويُعطي من رجاه، ويمنح من طرق بابه، فإنه يُجير من استجار به، ويُعيذ من استعاذ به، ويغيث من ناداه، ويؤوي من لاذ بحماه. فكما أن كمال جوده في العطاء، فكمال قدرته في الحماية، وكمال رحمته في النصرة، وكمال حكمته في أن يدني عبده إليه باضطراره، ويقربه إليه بانكساره.

بل من أحب ما يحبّه الرب سبحانه: أن يُلاذ بجنابه، ويُفرّ إليه، ويُستغاث به، ويُدعى في الكرب والرخاء، ويتوسل إليه بكل خضوع وانكسار . وكيف لا ، وهو الذي أمر نبيه، وهو صفوته من خلقه، أن يستعيذ به من الشيطان، فقال: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وقال: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ).

فانظر كيف أمره بالاستعاذة في مواضع كثيرة، ليُعلم الأمة أن الملجأ إليه وحده، وأنه لا حصن إلا حصنه، ولا أمان إلا في جواره، ولا نجاة إلا بالإيواء إلى رحمته.

وههنا سر من أعظم أسرار البلاء، لا يفتحه إلا من عَرَفَ الله وأسمائه وصفاته: أن المصيبة توجب انكسار النفس، وافتقار القلب، ودوام اللجأ إلى الرب، وهي مفتاح العبودية الصادقة، وسلَّم الوصول إلى باب إياك نعبد وإياك نستعين”، فإن العبد إذا أصابته السراء أمن وغفل، وإذا نزلت به الضراء دعا وتضرع، فإذا أحب الله عبدا ، سلك به طريق الابتلاء ليسمعه صوته، ويرى منه ذله، ويُظهر فيه أثر أسمائه كالرحيم، والناصر، والجبار، والوكيل، والمعين، والحفي، واللطيف.

فلو لم يُخلق البلاء، لما تحققت عبودية الصبر، ولا عبودية التوكل، ولا عبودية الافتقار ، ولا عبودية الدعاء والتضرع، ولا عبودية الثبات والتجلد. وهذه العبادات لها شأن عند الله، وقد يُقدّمها على عبادة الشكر في حال الرخاء؛ لأن فيها كمال الذل والخضوع، وتحقق مقام العبودية من كل جهاتها.

الوجه الرابع

أنه سبحانه يحب أن يُشكر، ويجب أن يُشكر عقلا؛ وذلك يستلزم خلق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل، ومن جملتها أن فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلاقهم وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وأجالهم، فإذا رأى المعافى المبتلى، والغني الفقير، والمؤمن الكافر = عظم شكره الله، وعرف قدر نعمته عليه، وما خصه به وفضله به على غيره؛ فازداد شكرًا وخضوعًا واعترافا بالنعمة.

فلو استوت الخلائق في أحوالهم، وتماثلت أقدارهم، وتساوَت أرزاقهم، لخفِيَ الفضل، وضاعت معاني الامتنان، وسقطت حكمة الامتحان، وتعطّلت عبودية الشكر، وهي من أحبّ العبوديات إلى الرب تبارك وتعالى.

وفي أثرٍ عن موسى عليه السلام، رواه الإمام أحمد في “الزهد”، أنه قال: يا ربّ، هلاّ سويت بين عبادك؟ فقال: يا موسى، إني أحببت أن أُشكر. فبيّن له أن التفاوت سبب لظهور الشكر، وأن محبته له تقتضي ما يوجب حصوله.

ولهذا كان أعرف الناس بالنعمة: من ذاق ضدها، فمن عانى الفقر علم قدر الغنى، ومن ذاق المرض عرف فضل العافية، ومن تردّى في ظلمة الجهل أبصر نور العلم، ومن عاش في غيّ الضلال عظم في قلبه نور الإيمان. فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم البوالغ، والنعم السوابغ.

الوجه الخامس

أنه سبحانه يحب أن يُعبد بأنواع العبودية، ومن أعلاها وأجلها أن تُخصَّص له القلوبُ بالموالاة والمعاداة، وأن تتجرَّد له النفوسُ بالمحبّة والبغض، وأن تُبذَل المهجُ في نصرة دينه، ورفعِ كلمته، ودحرِ أعدائه. وهذه العبوديّةُ هي ذروةُ سنامِ الدِّين، وغاية مراتب المحبّين؛ إذ فيها كمالُ التعلُّق به، وتفريغ المحبّة له، وبذلُ النَّفس والمال دون أعدائه، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَ﴾.

ولمَّا كانت هذه العبوديّة لا تتمّ إلا باجتماع فريقين متقابلين: حزبٍ يوالي الله ويُعلي شريعته، وحزبٍ يعاديه ويكفر بآياته، اقتضت حكمتُه سبحانه خلقَ الأرواح المختلفة، وتدافعَها وتمايُزها، وتسليطَ بعضها على بعض؛ ليظهر صدقُ أهل الولاء، ويَتمحّص إيمانهم، ويعلو دينُه على سائر الأديان، ﴿لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ﴾. فلو استوَتِ الخلائقُ كلُّهم على الإيمان والطاعة، لضاع معنى الجهاد، ولغاب مقامُ الولاء والبراء، ولما تبيَّنت رفعةُ كلمةِ الحقّ على كلمة الباطل.

وفي هذا المقام تتجلَّى محبّةُ الربِّ لأوليائه؛ إذ يتقرَّبون إليه بجهاد أعدائه، ومخالفـةِ سبيلهم، وإذلالهم وكبتهم، حتى يكون الدينُ كلُّه له، وتكون العاقبةُ للمتّقين. فكلّما اشتدَّت شوكةُ الباطل، وعلت رايتُه ظاهرًا، ازداد شرفُ مجاهدته، وعَظُم قدرُ القائمين بها، وتمَّت حُجّة الله على خلقه، وظهر فضلُ حزب الإيمان على حزب الشيطان.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

آدم بن محمد المالكي

مهتم بالذب عن المواقف السنية، وتحرير أقوال أهل السنة في الطبيعيات والانسانيات و العقليات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى