كتب

نقد كتاب “حوار مع صديقي الملحد”، الجزء الخامس

تكملة – تخليطه في القضاء والقدر – (2)

يقول المصنف:

“والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير، فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه للإنسان على غير طبعه وطبيعته، وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضا، وقد نفى الله عن نفسه الإكراه بآيات صريحة: ((إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)) [الشعراء : 4] والمعنى واضح، أنه كان من الممكن أن نكره الناس على الإيمان بالآيات الملزمة، ولكننا لم نفعل، لأنه ليس في سنتنا الإكراه. ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) [البقرة : 256] ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) [يونس : 99]، ليس في سنة الله الإكراه. والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم وإنما على العكس. الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته، ويشاء له من جنس مشيئته، ويريد له من جنس إرادته، لا ثنائية، تسيير الله هو عين تخيير العبد، لأنه الله يسير كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته.”

قلت: لا شك في أن الله يقضي على كل إنسان من جنس نياته ويشاء له من جنس مشيئاته، لكن ما لم تصرح يا دكتور باعتقادك أن مشيئة العبد نفسها مخلوقة في نفسه، كما أن نفسه مخلوقة، وأنها تابعة لمشيئة الله تعالى التفصيلية، أي أنه لا تقع مشيئة في نفس العبد إلا كانت مخلوقة لله تعالى بعينها بخصوصها، تابعة لمشيئته سبحانه، هي والفعل الذي يترتب عليها من العبد، إن لم يكن هذا هو اعتقادك، فأنت قدري! والمفارقة الفلسفية المشهورة بين التسيير والتخيير، على هذه الطريقة، من سفسطة الفلاسفة بالمجملات على الحقيقة، لأنك إن قلت مسير، فهل المقصود أنه مجبور على خياراته وأفعاله؟ أم المقصود أن أفعاله مخلوقة ومشيئاته التي تقوم في نفسه من قبلها، وما يتقدمها من أسباب حادثة، كل ذلك من خلق الله تعالى ومشيئته؟ إن كانت الأولى فهي باطلة قطعا، وبطلانه ظاهر بالحس والعادة ولا يماري فيه إلا مكابر. وإن كانت الثانية، فهي الحق الذي عليه أهل السنة وعليه كان الصحابة وأتباعهم ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا، خلافا للقدرية. وأما قولهم مخير، فهل المقصود منها أنه صاحب إرادة حرة سالمة من الجبر والإكراه، فيما يجده في نفسه حقا ويعمل ما يعمل بناء عليه من حيث الأصل، أم المقصود أنه هو خالق أفعاله ومشيئاته التي تقوم في نفسه استقلالا، وإنما يحدث ذلك إذا أحدثه بتعليل تام من قبله، لا على أثر أسباب متقدمة عليه؟؟ إن كانت الأولى فهي الحق الذي عليه أهل الإسلام ويدركه كل عاقل من نفسه تحقيقا، خلافا للجبرية، وإن كانت الثانية فهي باطل وشرك محض، وهي مقالة القدرية. فكما ترى، ليس يصح أبدا أن نتكلف جوابا عن سؤال الفلاسفة: “هل الإنسان مخير أم مسير؟” من مبدأ الطرح، حتى نستفصل منهم عن مرادهم من لفظة “مخير” ومن لفظة “مسير”، على وجه التحديد! فإن كان المقصود: هل الإنسان مجبور على أفعاله أم غير مجبور، فالجواب: لا جبر قطعا، وهذا واضح لا يماري فيه إلا مماحك! وإن كان المقصود هل خياراته ومشيئاته التي تنقدح في نفسه وتترتب عليها أفعاله، مخلوقة مسببة بأسباب منها مشيئة الباري سبحانه، أم ليست كذلك، فالجواب: بل مخلوقة مسببة قطعا، وهذا أيضا لا ينفيه ولا يماري فيه إلا مشرك مسفسط! أما هذا الذي حرره الدكتور في الكلام المنقول آنفا، فلا يحسم جوابا في المسألة ولا يحق حقا ولا يبطل باطلا. الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته، هذه المقالة إن كان المقصود منها أن الله قد خلق تلك المشيئة التي وقعت للعبد من جنس نيته، كما خلق النية نفسها من قبل، فيطمس على قلب الكافر بما كسبت يداه، ويزيد الظالمين غيا فوق غيهم بما هم أهل له، يستحقونه أتم ما يكون الاستحقاق، فهذا المعنى حق لا إشكال فيه، وقد حققه ابن القيم رحمه تحقيقا رائقا ماتعا في كتابه “شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل”، لمن أراد البسط والتفصيل، ودليله في القرآن كما في قوله تعالى: ((فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) [البقرة : 10] وقوله: ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)) [الأنعام : 129]، وقوله: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ)) [التوبة : 77] وقوله: ((خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ [البقرة : 7] وقوله: ((وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) [الأنعام : 25] وقوله: ((أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ)) [الأعراف : 100] وقوله: ((أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)) [النحل : 108] وغير ذلك. فهذا كله عمل ومشيئة خلقت لهم، على أثر عمل ومشيئة سابقة كانت قد خلقت لهم أيضا، فكان الأول مفضيا إلى الثاني، مما جميعه خيار العبد الحر غير المكره ولا المجبر، ومما جميعه هو عنه مسؤول وعليه محاسب بين يدي ربه.
أما قوله “يشاء له من جنس مشيئته”، فما معنى “يشاء له”؟ هل المقصود يشاء أن يبتليه بأمور مترتبة على مشيئاته السابقة فيبتلى بها، مما لا يكون هو نفسه مشيئة مخلوقة، مرادة لرب العالمين سلفا؟ هذا يكون، نعم، ولكن ليس هذا محل نزاع القدرية والجبرية كما هو واضح. وإنما محل النزاع وبإيجاز غير مخل، هو ما إذا كانت مشيئة العبد وفعله مخلوقان للرب سبحانه أم للعبد نفسه! فقوله: “يريد له من جنس إرادته، لا ثنائية، تسيير الله هو عين تخيير العبد، لأن الله يسير كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته.” مجمل في محل النزاع، لا يحسم القضية، وهي ما يعبر عنه بالسؤال: هل هوى قلبه هذا، وكل نية من تلك النيات عنده، مخلوقة كلها لله تعالى، تابعة بخصوصها لمشيئة الرب سبحانه، أم هي من خلق العبد، جريا من ذلك العبد على طبعه وهوى نفسه؟ بعض القدرية يلبسون على الناس من هذا الطريق كما مر. يقولون الله تعالى يسير الإنسان إلى اختياراته، بأن يخلق له من الأسباب ما يجعل هوى قلبه مفضيا إليها. وقد يسوق إليك هذه الآيات التي سقناها ويقول كما يقول هذا المصنف. فإذا سئل: هل يكون قد شاء له إذن هذه المشيئة بعينها بخصوصها، وقدرها وكتبها وخلقها وجميع أسبابها من قبلها سبحانه، فعللها تعليلا تاما كغيرها من الحوادث الجارية في ملكه سبحانه؟؟ أجاب بالنفي، أو تخلص من السؤال وراغ منه بأي طريق! لماذا؟ لأن منتهى ما يثبته من الخلق الإلهي في المسألة، هو أن الله خلق آلة تخلق المشيئات في المخلوق المكلف خلقا هو يعلم مجراه سلفا، لأنه يعلم طباع ذلك العبد وميوله وكذا، لكنه لا يكون هو خالق كل واحدة من تلك المشيئات ومريدها بخصوصها أن تكون على نحو ما تكون لا على خلافهّ! يعلم مشيئة العبد سلفا لا أنه يريدها بعينها ويخلقها بأسبابها المتقدمة عليها التي تتعلل بها تعللا تاما في نفسه! وهو ما يمثلون له بالمعلم الذي يعلم أحوال طلبته، علما يمكنه من التنبؤ بأداء كل واحد منهم في الامتحان إذا دخله، هل يوفق فيه أم لا يوفق! فالمعلم البشري من الواضح أنه ليس هو خالق أداء الطالب في الامتحان ولا هو من أراده إرادة تكوينية أن يكون على صفة معينة دون خلافها، وإنما هو سبب واحد لأداء الطالب، في أسباب أخرى لا يحصيها ولا يملك عليها سلطانا، فغايته أن يتنبأ بها بالظن والقياس! فتشبيه الأفعال الإلهية على هذا النحو يوجب لله تعالى نقص العلم لا محالة، دع عنك نفي خلق أفعال العباد! القدري عندما يكتفي من القدر بإثبات العلم الإلهي بمشيئة العبد دون إرادتها ومشيئتها وخلقها، فإنه يتنقص من علم الباري بهذا لا محالة، لأنه يصيره كعلم من لا يملك بما لا يملك! وهذا هو علم المخلوق، لا علم الباري سبحانه! علم الله تعالى علم كاشف لأنه هو سبحانه خالق كل شيء! لأنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد سبحانه، لا يخرج عن مشيئته وتكوينه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض! لهذا لا يكون علمه إلا كاشفا! أما عندما يصبح منتهى المذهب أن الباري لا يوصف بخلق أفعال العباد ومشيئاتهم، وإنما يخلق فيهم الآلة التي بها يخلقون هم ذلك لأنفسهم، فإن هذا يخرج شطرا عظيما من حوادث العالم عن أن يكون معلوما لله تعالى علما كاشفا تاما مطلقا، وإنما يوجب اختزال العلم به إلى جنس علم المخلوق بأفعال المخلوقين من أمثاله! هو إذن بالضرورة، علم استنباطي استنتاجي كسبي، من جنس ما يحصل للمخلوق، وليس علما كاشفا، ولا يمكن أن يكون كاشفا! من أين يأتي الكشف والحالة هذه؟؟ ولهذا اضطر بعض لاهوتيي النصارى، على قدريتهم، لأن يسفسطوا فيقولوا إن جميع لحظات الزمان في حق الباري حاضرة، لا ماضي ولا مستقبل في حقه، ولا مر للزمان أصلا، وإنما الوجود كله لحظة واحدة حاضرة البتة من الأزل وإلى الأبد! لماذا؟ لأجل أن يقولوا إنه يرى جميع حوادث المستقبل الآن حاضرة أمامه كما نرى نحن ما نراه أمام أعيننا من الحوادث جاريا في هذه اللحظة الحاضرة، وبهذا يثبتون له العلم الكاشف بأفعال العباد، وإن لم يكن هو خالقها عندهم! وهذا من تولد التناقض والسفسطة عن التناقض والسفسطة، كما هي عادة أهل الكلام من أهل القبلة وأهل الكتاب جميعا في باب الإلهيات! يقع أحدهم في طامة من الطوام في الإلهيات بسبب قياس فلسفي فاسد تكلفه، ثم إذا أراد أن يخرج من لوازمه في الخصومة مع مخالفه، تلبس بما هو شر منه، وجميع إليه ما هو أفسد منه! وهذا المذهب وقع لبعض الفلاسفة الإسلاميين، حتى من المعاصرين، تجده عند الدكتور عمرو شريف في بعض محاضراته وكتبه، يقول ليس عند الله زمان لا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل! الله عنده الزمان كله لحظة واحدة حاضرة لا تفاوت فيها ولا ترتيب! لا قبل ولا بعد! هذا كله عندنا نحن، لأننا مخلوقون خاضعون للزمكان النسباني ولسهم الزمان الثرموديناميكي، المتولد عن قانون الديناميكيا الحرارية الثاني! أما عنده هو سبحانه، فلا يقال إن خلق آدم كان قبل خلق محمد صلى الله عليه وسلم، مثلا! بل كلاهما واقعان الآن أمامه سبحانه، يراهما كما يرى أحدنا ما يراه في لحظته الحاضرة! وعند باسل الطائي أيضا تجد نظرية الكون القالب Block Universe، وهي نظرية مفادها أن الكون كله حقيقته الوجودية القائمة في الأعيان إنما هي أنه قالب كبير متصل من الحوادث events الواقعة في بطن الزمكان، بحيث يكون طرف ذلك القالب من إحدى جهتيه الانفجار المزعوم، والطرف الآخر على الهيئة التي ينتهي إليها وجوده في الأنموذج الذي يعتنقه الكوزمولوجي كيفما اتفق أن يكون. وهي هيئة تقريبية يقربون بها الصورة لأنفسهم، وإلا فالزمكان هذا شيء رباعي الأبعاد، الزمان فيه بعد فراغي رابع، مقيس على الأبعاد الكارتيزية الثلاثة كما هو معلوم. وكل تمثيل له على أنه مطوية manifold تنبعج وتنثني وكذا، هذه كلها تقريبات متوهمة لحقيقة متناقضة لا يصح لها ثبوت في الخارج أصلا، كما أطلنا النفس في بيانه في كتاب المعيار وفي سلسلة “بيان منهج أهل السنة في التجريبيات”، في كلامنا على النسبيتين! فهل الحادث هذا حقيقة وجودية يتصور انفصالها عن معاني الزمان بحيث يجوز في العقل أن توجد جميع الحوادث على امتداد زمان الكون من أوله إلى آخره في لحظة واحدة سرمدية بلا حاضر ولا ماضي ولا مستقبل في حق باريه سبحانه كما يزمه هؤلاء؟؟ أبدا! الحدوث هذا إنما هو حالة من الحالات العارضة أو حركة عارضة توصف بها الموجودات القائمة في الأعيان (بالفعل أو بالقوة) على جهة ما ونحو ما! يعني أنا يوم ولدت، كانت موجودات العالم بحيث تخلو من ذاتي، ثم لما ولدت، أصبحت موجودات العالم تشتمل على ذاتي المخلوقة قائمة في الأعيان. فاللحظة الماضية هي حالة من الكون فيها موجودات معينة على صفات معينة، واللحظة الحاضرة هي خالة أخرى لنفس الكون، فيه موجودات منها ما هو نفس الموجودات الماضية لكن على صفات وأحوال جديدة، ومنها ما هو نفس الموجودات الباقية على نفس صفاتها، ومنها ما هو موجودات جديدة حدثت وبعد أن لم تكن، على أثر أسباب مخلوقة كانت في اللحظة الماضية غير متسببة، ثم صارت متسببة ومولدة لتلك الموجودات الجديدة! فالحادث Event بمعنى الواقعة التي يبدأ فيها موجود معين في الحدوث، أو يتحول فيها من صفة إلى صفة أو من حال إلى حال، هذا ليس موجودا قائما في الأعيان أصلا، حتى يتصور بقاؤه مع ما سبقه من حوادث تقع على نفس الموجودات، شاهدا حاضرا كحضور تلك الموجودات نفسها! أنا كانت صفتي وحالي قبل أن أجلس لأكتب هذا الكلام على الحاسوب، أني أتناول طعام الإفطار مع أهلي في البيت! هذه هي حوادث تلك اللحظة الماضية في ذاك المحل الذي كنت جالسا فيه معهم من العالم. فإذا فرغت من ذلك، وانتقلت إلى غيره من شأني وحوائجي، فلا يكون إذن في الوجود الحاضر شيء يقال له “فعل تناول الإفطار” الذي كان قائما بنفسي في الماضي، وكان من يقدر على رؤيتي يراني عليه لا على خلافه في تلك اللحظة الماضية. هذا حادث أو جملة حوادث قد تمت وانصرمت وتحولت تلك الموجودات في العالم التي كانت موصوفة بها، إلى صفات وأحوال أخرى بخلافها! فأين هي الآن؟؟ لا وجود لها في الأعيان حتى يصح عقلا أن يقال إن الله تعالى يراها واقعة أو جارية الآن في لحظتنا هذه! هذا من نسبة المحالات والممتنعات العقلية إلى الذات الإلهية! هذا يقتضي الجمع بين الضدين أو النقيضين في موجودات العالم، وهو محال! لا أكون كاتبا وغير كاتب معا، ولا أكون جالسا وغير جالس معا، حتى يقال إن الله يراني الآن وأنا في حال الكتابة، كما يراني الآن وأنا في حال تناول الطعام التي كنت عليها قبل التحول منها إلى حال الكتابة!! وكذلك في حدوث الموجودات، لا يقال إنه يراني العالم وأنا فيه موجود الآن ويراه الآن في نفس الوقت وفي نفس اللحظة وأنا معدوم فيه لم أولد بعد! هذا جمع بين الضدين. لكن كما مر فإن بعض اللاهوتيين والمتفلسفة اضطروا إلى هذا السخف حتى يصبح من المتصور أن يكون الباري عالما بأفعال المخلوقين الاختيارية التي ستقع في المستقبل من غير أن يكون هو من يخلقها تبعا لإرادة ومشيئة سابقة لديه! فهو فساد يجر إلى فساد آخر! وإن كان ليس هذا هو ما اجتر الفلاسفة غير اللاهوتيين كعمر شريف وباسل الطائي فيما مر التمثيل به، إلى القول بتلك الدعوى، وإنما دعاهم إليها مطمع أساتذتهم الذين قلدوهم في استيعاب حقيقة الزمان المطلقة بتفسير وجودي واحد في دعوى ميتافيزيقية واحدة، كما بسط الكلام عليه في غير موضع!
والقصد أنه لا يكفي من أمثال الدكتور مصطفى محمود، على ما مر التعليق عليه من تخليطه في هذا الباب، أن يقول كما يقول هنا: إن العبد له إرادة تخصه، ولكنها لا تخرج عن إرادة خالقه!
فهو يمضي بعد لينقل من القرآن نظير ما نقلنا، إذ يقول:

تسيير الله هو عين تخيير العبد، لأنه يسير كل امرئ على هو قلبه وعلى مقتضى نياته. ((من كان يريد حرث الدنيا نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها))، ((في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا))، ((والذين اهتدوا زادهم هدى)) وهو يخاطب الأسرى في القرآن: ((إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم)) الله يقضي ويقدر، ويجري قضاءه وقدره على مقتضى النية والقلب، إن شرا فشر وإن خيرا فخير. ومعنى هذا أنه لا ثنائية. التسيير هو عين التخيير. ولا ثنائية ولا تناقض. الله يسيرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا، فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ولا قهر لنا على غير طبائعنا. ((فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)) ((وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)) هنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدرة من الرب، فتكون رمية واحدة، وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر، على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.”

قلت: ما معنى على العبد النية؟؟ وعلى الله التمكين؟؟ على ما مر من قدرية الرجل، يصبح المراد هنا أن النية والمشيئة لا عمل لله فيها أصلا، وإنما عمله في التمكين!! وهذا محض التلبيس. المعترضون على القدر يقولون: لماذا يختار لنا أن نختار الشر أصلا، وقد كان بوسعه أن يخلقنا بحيث نختار الخير؟ نملك أن نختار، ونوفق في الاختيار! أليس كل ذلك من خلقه وبمشيئته؟؟ هنا اضطر المعتزلة على جهلهم لأن يجيبوا بأن يقولوا: نعم ليس بخلقه ولا بمشيئته! وإنما هو خلق في العبد الملكة التي تولد فيه مشيئة مستقلة عن مشيئته، غير تابعة لها! فإذا شاء العبد، تولد الفعل عن تلك المشيئة. والفارق بين كلام المعتزلة وكلام الدكتور هنا، أن المعتزلة نفوا أن يكون الفعل من خلق الله، حتى لا يكون الشر راجعا إليه سبحانه، وأما الدكتور فيبدو في مواضع وكأنه ينسب خلق الأفعال لله تعالى، وفي مواضع أخرى ينسبه إلى العبد. كأنه يقول إن الأسباب التي بها يقع الفعل تبعا لمشيئة العبد، من خلق الله تعالى (فيما يسميه بالتمكين)، وأما المشيئة أو النية نفسها، فمن العبد مطلقا، ليست مفعولة لله تعالى ولا مخلوقة له، ولا تكون مرادة له كذلك على أيما وجه، والله المستعان!

ثم ينتقل الدكتور إلى تقرير أن الإنسان لما ازداد علمه بما سخره الله له من الأسباب المادية، ازدادت حريته بذلك، إذ أصبح قادرا على اختيار ما لم يكن قادرا على اختياره قبل ذلك. وهذا صحيح ولا شك. ولكنه يقول إن العلم المادي الطبيعي كان وسيلة لزيادة الحرية و”كسر القيود والأغلال” على عبارته. يقول:

“وبهذا (يعني بالكشف العلمي والاختراع التقني وكذا) استطاع أن يتحكم فيها (يعني الطبيعة) ويسخرها لخدمته …. وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل. العلم كان وسيلة إلى كسر القيود والأغلال وإطلاق الحرية”. وهذا ليس كلام المسلمين في مسألة التسخير في الحقيقة. الملاحدة هم الذين يرون أن العلم الطبيعي قد كسر القيود والأغلال عن الإنسان، لأنهم يرون أنهم يكتسبونه عن علم عندهم، لا عن تمكين إلهي خاضع لمشيئة ربانية وتقدير إلهي تام! نحن نؤمن بأن الله هو الذي سخر لنا ذلك كله، ومكننا من اكتشافه وتعلمه بإرادته، وأما هم فيرون أنهم هم من تمكنوا من تسخير الطبيعة لأنفسهم، فانتصروا بذلك على القيود والحدود والأغلال التي فرضتها عليهم الطبيعة! فهل الطبيعة عندك هي التي فرضت تلك الأغلال يا دكتور كما هي عندهم؟ أم أن الله تعالى هو الذي يمكن وهو الذي يضيق على من يشاء ويوسع على من يشاء؟ العبارة تحتاج إلى ضبط هنا. ومع هذا، فمسألة التمكين والتسخير لا جواب فيها على اعتراض المعترضين على القدر، لأن موضوع الاعتراض إنما هو منشأ الإرادة والمشيئة عند العبد كما مر، وليس منشأ القدرة على الفعل. فأنت إذا أردت شيئا ثم عجزت عن فعله، لم يصح وصفك بأنك مجبور أو مكره، وإنما توصف بذلك عندما تأتي بالفعل المقدور لك، رغما عن إرادتك. فسواء ضاقت دائرة القدرة والتمكن البشري أم اتسعت، فالمشكلة عند نفاة القدر واحدة! المشكلة في كون الفعل (مشيئة وقدرة، وليس قدرة فقط) مخلوقا لله تعالى.

ثم يقول:

“وأما الوسيلة الثانية فكانت الدين، الاستمداد من الله بالتقرب منه، والأخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد، وهذه وسيلة الأنبياء ومن في دربهم. سخر سليمان الجن وركب الريح وكلم الطير بمعونة الله ومدده، وشق موسى البحر، وأحيا المسيح الموتى، ومشى على الماء، وأبرأ الأكمه والأبرص والأعمى، ونقرأ عن الأولياء أصحاب الكرامات الذين تطوى لهم الأرض وتكشف لهم المغيبات، وهي درجات من الحرية اكتسبوها بالاجتهاد في العبادة والتقرب إلى الله والتحبب إليه، فأفاض عليهم من علمه المكنون.. إنه العلم مرة أخرى، ولكنه هذه المرة العلم “اللدني”، ولهذا يلخص أبو حامد الغزالي مشكلة المخير والمسير قائلا كلمتين: الإنسان مخير فيما يعلم، مسير فيما لا يعلم. وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته، سواء كان العلم المقصود هو العلم الموضوعي أو العلم اللدني.”

قلت: أولا، لا يجوز أن يقال إن خوارق العادات وسيلتها الدين، كما أن تسخير الطبيعة وسيلته العلم الطبيعي!! فالله تعالى يخرق العادة لأولياء الرحمن كما يخرقها لأولياء الشيطان إذا شاء! والخرق في نفسه ليس غاية يتوسل إليها بالطاعة والعبادة، إلا عند الصوفية الجهال الذين يتخذون من تلك المخاريق أدلة على بلوغ النهاية في مدارج السالكين إلى الله تعالى! فهي ليست “درجة من درجات الحرية اكتسبوها بالعبادة” كما قال، وإلا لوجب أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أعبد بني آدم لباريه، وأطوعهم له وأقربهم إليه على الإطلاق، لا يخضع لشيء من قوانين الطبيعة البتة!! يطير في الهواء إذا شاء، ويمشي على الماء، ولا يتقيد بالأسباب التي يتقيد بها غيره في شيء مما يفعل.

ثانيا: هذا الكلام المنسوب إلى أبي حامد الغزالي رحمه الله لم أجده في شيء من كلامه. وجدت من يعزوه إلى المستصفى، وأنه ينسبه فيه إلى شيخه الجويني، لكن لم أجد ذلك في الكتاب. وهو على أي حال يعاني من نفس الإجمال الذي يعاني منه السؤال الذي هو جواب له. لو كان المقصود بقولنا مخير، أي يملك أسبابا من جهته وفي علمه، بحيث إن اختار الفعل، استطاع أن يتسلط على تلك الأسباب، فيأتي به كما يريد، وكان المقصود بمسير أي أنه فاقد للعلم بالأسباب، فمهما أراد الفعل لم يقدر عليه، لما أنكر القدرية كونه مسيرا، وما أنكر الجبرية كونه مخيرا!! فجميع الطوائف يتفقون على هذا المعنى، أهل السنة والمجبرة والقدرية في هذا سواء! الجميع إذن، على هذا، يقولون إن الإنسان مخير فيما يعلم، مسير فيما لا يعلم!! ولكن من الواضح أن هذا ليس هو محل النزاع. المقصود بالتسيير الجبر على الفعل، الذي هو ضد الاختيار، والمراد بالتخيير ضد الجبر. فبأي وجه يقال إن الإنسان مجبور فيما لا يعلم، غير مجبور فيما يعلم؟؟ هذا ليس مذهبا لأحد في المسألة أصلا. وما يزعمه الدكتور شرحا لتلك العبارة، في قوله: “وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته”، يدلك على أن اللفظتين فيها لا علاقة لهما بما اصطلح عليه الفلاسفة من استعمال لهما!

والواقع أن أهل العلم المعاصرين لم يستنكروا استعمال لفظة “مسير” ولفظة “مخير” في وصف الإنسان بهما جميعا، إذا جعلت “مسير” بمعنى مكتوب عليه فعله واختياره، و”مخير” بمعنى أنه يختار لنفسه حقيقة لا وهما. ومن ثم أجابوا عن السؤال: هل الإنسان مخير أم مسير، بالجمع بينهما فقالوا: هو مخير مسير معا، أو مخير من وجه، ومسير من وجه آخر، وطلب الترجيح بينهما بهذا الإطلاق فاسد، كما تجد ذلك في بعض كلام الشيخ عبد المحسن العباد في شرحه على الأربعين النووية. فهو حمل السؤال على أن المقصود منه الترجيح بين القدر وحرية الاختيار، فإما أن تكون قدريا فتقول مخير أو تكون جبريا فتقول مسير! وكلاهما باطل! فقال طلب الترجيح بدعة، والصواب أن يقال مخير من وجه ومسير من وجه. والإمام العثيمين رحمه الله كذلك أجاب في فتوى له عن المسألة فقال: “فالصواب مع أخيك أن الإنسان مسيرٌ مخير، ومعنى مخير أن له الاختيار فيما يفعل ويدع؛ لكن هذا الذي اختاره أمرٌ مكتوبٌ عند الله، وهو لا يعلم ما كتبه الله عليه إلا بعد أن يقع، فيعرف أن هذا مكتوب، وإذا ترك الشيء علم أنه ليس بمكتوب نعم.” فهو لا يقرر الجواب إلا مع ذكر ما يقصد من كل من اللفظين، مسير ومخير. ونظير ذلك أجاب به الإمام ابن باز والألباني وغيرهم. وبعضهم استعمل لفظة “ميسر” في محل “مسير”، وقال إن الإنسان ميسر لما خلق له (وليس مسير) كما جاءت به السنة، وهو مع ذلك مخير مسؤول عن خياراته، والواجب على أي حال أن يفصل فيقول: إن كان المقصود بمسير كذا وبمخير كذا، فصواب لا غبار عليه، وإلا فهو غلط، كما سلكه العلماء المعاصرون.

قال الإمام العثيمين رحمه الله: “هذه العبارة لم أرها في كتب المتقدمين من السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا في كلام الأئمة، ولا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن القيم أو غيرهم ممن يتكلمون، لكن حدثت هذه أخيرا، وبدأوا يطنطنون بها “هل الإنسان مسير أم مخير؟”، قلت فالواجب التفصيل وألا يجاب الإجمال بمثله، والله الهادي إلى سواء السبيل.
يتبع إن يسر الله وأعان

أبو الفداء ابن مسعود
غفر الله له

منقول من قناة إقناع

قناة إقناع غير مسؤولة عن نقل منشوراتها إلى هذا الموقع ، إنما هو عمل فردي من إدارة موقعنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى