استدلال كلامي فاسد بالسببية على وجود الباري من كتاب السببية وميكانيكا الكم لأحمد إبراهيم
الحمد لله وحده، أما بعد، فقد دفع إلي أحد الإخوة جزاه الله خيرا بصفحات من كتاب د. أحمد إبراهيم المعنون “السببية وميكانيكا الكم” في فصل ترجم له بقوله: “كيف تستدل بالسببية على وجود الخالق عز وجل؟” وطلب التعليق عليه، فرأيت أن أنشر التعليق هنا على الملء ليعم النفع.
قال المصنف أصلحه الله وهداه إلى السنة:
1- إذا كان الشيء ناقصا غير قائم بنفسه، فسيكون محتاجا إلى أسباب قيامه، ويدور وجوده وعدمه مع وجودها وعدمها، فهو حادث سبقته أسباب وجوده
2- الشيء المحكوم بالقوانين، يكون خاضعا للسببية، والشيء الخاضع للسببية يكون ناقصا حادثا.
3- ليس هذا الكون أو الطبيعة شيء قائم بنفسه لا يحتاج إلى الأسباب في وجوده ولا تحكمه القوانين، وبذلك تكون كل الكيانات الفيزيائية الطبيعية الخاضعة للقوانين حادثة.
4- إذن هذا الكون حادث بكل ما فيه، وهو عبارة عن سلسلة من الحوادث.
5- سلسلة الحوادث لو كانت قائمة بنفسها وكان لها بداية، لكان قيامها مرهونا بقيام أولها الذي هو حادث قام بدون سبب، وهذا مستحيل، ولو كانت قائمة بنفسها وليس لها بداية في الماضي لكانت سلسلة خيالية لا يمكن أن تقوم بنفسها في الواقع، وبالتالي فسلسلة الحوادث لا يمكن أن تكون قائمة بنفسها.
6- سلسلة الحوادث لا يمكن أن يكون أولها (أو أي فرد منها) قائما بنفسه، لأنه لو كان كذلك لوجب عليه أن يتغير إلى الفرد الذي يليه في السلسلة لكي تبدأ السلسلة وتستمر، والتغير ينافي القيام بالنفس، لأن التغير هو فقد الصفة لفقد سبب قيامها ولو عاد السبب لعادت الصفة، والقيام بالنفس هو قيام الصفات بدون حاجة إلى أي سبب يقيمها.
7- فوجب أن يكون من أقام سلسلة الحوادث قائما بنفسه بائنا عن تلك السلسلة.
قلت: هذه المحاولة البائسة لمحاكاة طريقة المتكلمين في صياغة البراهين السيلوغية لا أدري والله كيف أبدأ في التعليق عليها! المقدمات الأربع الأولى خلاصتها: إذا كان الشيء ناقصا، فسيكون محتاجا إلى أسباب لوجوده، وهو إذن حادث. الشيء الخاضع لقانون السببية، ناقص حادث. الكون خاضع للقوانين، إذن هو حادث. وهنا يقال: أولا ما معنى “ناقص”؟ ناقص يعني محتاج! ومحتاج يعني ناقص! لأن كونه محتاجا لغيره، أو قائما بغيره، هذه كلها من معاني النقص في الموجود قطعا! فما فائدة المقدمة الأولى؟ لا شيء! وأما الثانية، فقوله: الشيء المحكوم بالقوانين يكون خاضعا للسببية، هذا إطلاق فاسد، لأن قولك: القوانين هذا قول مجمل، إذ لا ندري هل المقصود بالقوانين هنا القانون الطبيعي خاصة، أي نظم الطبائع في المواد المخلوقة، أم القانون بإطلاق، وهو ما يشمل القانون الأخلاقي والمبادئ العقلية الضرورية، وما يفرضه صاحب الملك على نفسه من منع وتحريم كما حرم الله تعالى على نفسه الظلم، فهذه كلها تدخل في معنى السنن والقوانين، وهي بحيث لو خرج عليها رب العالمين للزم النقص في حقه! فهل يكون هذا نقصا في حقه وحدوثا عندك؟؟ بل إن مبدأ السببية نفسه يجري عليه سبحانه بالضرورة، لأنه يجري على السبب (أنه يؤثر في مسببه) كما يجري على المسبب بالضرورة! يجب أن يثبت التأثير حتى يثبت الأثر! فإذا كان الله تعالى هو المؤثر، فالأثر ينشأ عن فعله في إطار معنى السببية بالضرورة! بل إن بعض مذاهب المتكلمين حصرت معنى السببية في فعله وخلقه وتأثيره سبحانه!! وهذا غلط وفساد ولا شك، لكن القصد أن هذا الأرعن أخرج ربه من أن يكون سببا في شيء أصلا، ومن أن يكون جاريا على أي سنة عقلية (كمبدأ عدم التناقض مثلا) أو سنة أخلاقية (كالوفاء بالوعد إذا وعد)، من غير أن يشعر أو ينتبه!! فعبارة “الخاضع للسببية” هذه مجملة، وفك إجمالها يورد التعطيل على رب العالمين! فإن قال: أنا أقصد بالسببية هنا القوانين المخلوقة في العالم، فإنه بهذا يكون قد أسس مقدمته الثانية على النتيجة التي يفترض أنها لا تتحصل له إلا بعد سبع مقدمات كاملة!! وإن قال أنا أقصد أن مبدأ كون الشيء سببا في غيره، هذا إذا انطبق على موجودات معينة فإنها تكون بالضرورة حادثة ناقصة، قيل له: ما معنى أن ينطبق على الموجودات يا أخانا؟ هل يصير بسببه كل مسبّب حادثا، دون أن يكون السبب حادثا بالضرورة؟ أم يكون كلاهما حادثا بالضرورة؟ ما موضوع “الخضوع للقانون” على وجه التحديد؟ السبب أم المسبب أم كلاهما، في نفس هذا العالم الذي تنسبه إليه ذلك “الخضوع”؟ يوجد في الواقع أسباب مخلوقة ومسببات مخلوقة، وأسباب غير مخلوقة ومسببات غير مخلوقة! نعم! يوجد مسببات غير مخلوقة! تدري ما هي؟؟ كلمات الله تعالى ومشيئاته! هذه حوادث تنشأ عن ذات الله تعالى وليست بمخلوقة! فهل تزعم أنها لا تقع منه عن أسباب في علمه سبحانه؟؟ ثم إن من أفعال الله تعالى ما يكون مترتبا على أفعال المخلوقين، فيما يسميه الأشاعرة على اصطلاح أرسطو في مقالاته العشر بالانفعال! وهو عندهم لا يكون إلا مخلوقا بسبب تلك المقالات! فهل عندك أنت يكون مخلوقا بسبب أنه قد “تسبب فيه”، بوجه ما، شيء مخلوق؟؟ نعم إجابة الدعاء ترتبت سببيا على صدور الدعاء من العبد! والدعاء فعل العبد، بينما الدعاء فعل الرب سبحانه! وكذلك إذا خاطب رب العالمين مخلوقا من مخلوقاته يرد على كلامه، كما رد على كلام الملائكة في قوله تعالى: ((قال إني أعلم ما لا تعلمون))، فكان تكليمه إياهم بسبب تكليمهم إياه! فهل بهذا يكون رب العالمين، على ميتافيزيقاك الهزلية هذه، قد “خضع للسببية”؟؟ وهو سبحانه لا يفعل فعلا من أفعاله إلا عن مشيئة حادثة في نفسه جل شأنه، والمشيئة راجعة سببيا إلى علمه وحكمته سبحانه! فهو إذن تقوم بذاته حوادث لها أسباب تسبقها! فهل يكون حادثا ناقصا عندك لقيام “المسببات” بذاته؟ هذا كله يا إخوان ونحن ما زلنا في المقدمة الثانية من سبع مقدمات أتحفنا بها الرجل في “برهانه” الفلسفي المبتكر هذا، والله المستعان!
أنا أقول لهذا المسكين، إن أبيت إلا أن تكون متكلما جهميا، فهلا تعلمت الكلام على طريقة أصحابه حتى تدري ما يخرج من رأسك على الأقل، ولا تضحك عليك الناس؟؟ ليتك اكتفيت بالأحياء أم بالفيزياء أو بأيما مجال حصلت فيه على رسالة الدكتوراه، واشتغلت فيه بما ينفعك، وتركت هذا الشأن لأهله! لكن لله سنة ماضية في فضح أهل الأهواء وكشفهم، لا تتبدل، والله المستعان لا رب سواه!
قوله: ” ليس هذا الكون أو الطبيعة شيء قائم بنفسه لا يحتاج إلى الأسباب في وجوده ولا تحكمه القوانين، وبذلك تكون كل الكيانات الفيزيائية الطبيعية الخاضعة للقوانين حادثة.”
قلت: بذلك، أي بأي شيء؟؟ أنت غاية ما فعلته هنا أنك قلت: الكون حادث غير قائم بنفسه، إذن الكون حادث غير قائم بنفسه!! هذه مقدمة كبرى أم صغرى أم أي شيء تكون؟؟ هو يحاول في هذه المقدمات الأربعة أن يبدأ بإطلاق قاعدة ميتافيزيقية أسسها لنفسه، فيما يرجو، مفادها أن كل ما تحكمه القوانين أو هو خاضع لها، فهو حادث ناقص، فتكون يقرر جريان محمولها على الكون في مقدمته الصغرى، ومن ثم ينتهي إلى إثبات حدوث الكون على طريقة أهل الكلام في براهين الحدوث لديهم! لن أتكلف تنبيهه هنا إلى مخالفته أهل السنة في مبدأ استعمال براهين الحدوث على مقدمات ميتافيزيقية، لأن الرجل أبعد وأجهل بطريقة أهل السنة من أن يدري بموقف أهل السنة من مبدأ البرهنة على الحدوث بأمثال تلك المقدمات! أنا فقط أريد أن أبين خفة عقله وجهله الفاضح بلوازم كلامه، وبأوليات تلك الطريقة التي يتعلق بها وبمصطلحاتها من غير أن يعقل معانيها ومتعلقاتها، وجرأة هذه الفئة من المصنفين المنتسبين إلى السلفية زورا وكذبا، على ربهم جل في علاه! ما معنى الكيانات الفيزيائية الطبيعية الخاضعة للقوانين؟؟ ما حد الكيان الفيزيائي وما تعريفه أصلا؟؟ إن قلت هو الشيء المخلوق، صادرت على المطلوب! وإن قلت هي كل موجود من موجودات الكون، صار حاصل المقدمة كما مر، أن تقول: الكون حادث إذن الكون حادث! وما زال الإجمال القاتل في العبارة “خاضع للقوانين” قائما لم يرفع!
قوله: ” إذن هذا الكون حادث بكل ما فيه، وهو عبارة عن سلسلة من الحوادث.”
قلت: لا ريب أنه لا يقصد بلفظة “سلسلة” هنا المعنى الاصطلاحي الكلامي، لأنه سينفي التسلسل بعد قليل! لكن إذن نقول له ما معنى “سلسلة” هنا؟؟ سلمنا بأن حدوث الكون ترتب على ما قدمت به (وإن كان يلزمه حدوث كل ما في الأعيان كما مر)، فمن أين جاء التقرير: وهو عبارة عن سلسلة من الحوادث؟؟ هذه مشاهدة أم استقراء أم قضية عقلية ضرورية مسلمة أم ماذا؟ الظاهر أنه يؤسس ذلك على قوله إن الكون خاضع لقانون السببية! فإذا كان كذلك، فلا تزال الحوادث فيه تترتب على بعضها البعض فيما يسميه بالسلسلة.
قوله: “سلسلة الحوادث لو كانت قائمة بنفسها وكان لها بداية، لكان قيامها مرهونا بقيام أولها الذي هو حادث قام بدون سبب، وهذا مستحيل، ولو كانت قائمة بنفسها وليس لها بداية في الماضي لكانت سلسلة خيالية لا يمكن أن تقوم بنفسها في الواقع، وبالتالي فسلسلة الحوادث لا يمكن أن تكون قائمة بنفسها.”
قلت: منتهى الهذيان والله! فهمت، فيما أظن، من المقدمة التالية أنه يقصد بالقيام بالنفس أي عدم الافتقار إلى سبب خارجي يقيم الموجود (الموصوف بهذا التركيب) في الوجود بعد عدمه. فإذا كنا قد انتهينا فعلا مما مر إلى وصف الكون بالحدوث والنقص والافتقار (وهذا من ضرورة معنى الحدوث أصلا)، فما وجه أن نرجع لنحاول إثبات أن “سلسلة الحوادث” قائمة بغيرها لا بنفسها؟؟ أهو التكثر بالمقدمات حتى تشعر بقيمة البرهان وقوته مثلا؟؟ هداك الله وأصلحك!
ما معنى أن تكون السلسلة قائمة بنفسها أصلا؟ أن يكون كل حادث منها غير متعلل بحادث قبله من حوادث العالم، أليس كذلك؟ التعلل نقيض القيام بالنفس في الاصطلاح، على المعنى الذي تقدم! وإذن فحقيقة كلامك هنا أننا إن قدرنا كل فرد من السلسلة قائما بنفسه، وكانت لها بداية، فلابد أن يكون كل فرد منها قائما بسابقه معللا به، وصولا إلى الأول، والأول حادث، فيكون حصولها ممتنعا، لأنه حادث!! فهل هذا كلام عقلاء؟؟ أليس لو جاز أن يكون الحادث قائما بنفسه، لجاز أن تقوم السلسلة كلها بحيث لا يكون منها شيء معللا بسابقه أصلا، ولا يفتقر شيء إلى شيء حتى يوجد؟؟ أليس هذا هو معنى “القيام بالنفس” أصلا؟؟ ألا يكون ثمة تعليل سابق على الموصوف بهذا المعنى؟؟ فما وجه الاستحالة أو الامتناع إذن؟؟ أنت تفرض فرضا تقديريا يراد منه سبر الاحتمالات الممكنة وإسقاطها فيما يبدو! فهل تفهم يا أخ أحمد هذا الكلام الذي حررته هنا؟؟ أكاد أجزم بأنك لا تفهمه!! عنده معنى وقع في رأسه، من أثر التشوه الفكري الذي دخل عليه من فلسفة المعاصرين في ميكانيكا الكم غالبا، بالنظر إلى موضوع الكتاب (ولم أقرأه) فأبى إلا أن يحاول العبارة عنه بمصطلحات المتكلمين، فخرج بالعجب العجاب! كلام لا هو فيزياء ولا علم كلام ولا كلام مفيد أصلا!
قوله: “ولو كانت قائمة بنفسها وليس لها بداية في الماضي لكانت سلسلة خيالية لا يمكن أن تقوم بنفسها في الواقع”
قلت: هذا كلام الأشاعرة في زعمهم أن ما تسلسل لم يتحصل، وهو باطل لا يتسع المقام لبيان بطلانه!
أما المقدمة السادسة فلا تقل هذيانا بل تزيد، إذ يقول:
“سلسلة الحوادث لا يمكن أن يكون أولها (أو أي فرد منها) قائما بنفسه، لأنه لو كان كذلك لوجب عليه أن يتغير إلى الفرد الذي يليه في السلسلة لكي تبدأ السلسلة وتستمر، والتغير ينافي القيام بالنفس، لأن التغير هو فقد الصفة لفقد سبب قيامها ولو عاد السبب لعادت الصفة، والقيام بالنفس هو قيام الصفات بدون حاجة إلى أي سبب يقيمها.”
قلت: هنا يخترع الرجل لنفسه حدا ميتافيزيقيا جديدا للتغير لا قائل به قبله، فيقول التغير هو فقد الصفة لفقد سبب قيامها بالموصوف بها!! وهذا إطلاق تحكمي فاسد، من جنس إطلاقات أرسطو وأتباعه، التي أغرقت الجهمية في التعطيل! وإلا فما الذي يمنع من أن يقال: التغير هو اكتساب صفة جديدة لظهور سبب لقيامها بالموصوف بها؟؟ هو يريد أن يعبر بالفقد، حتى يشعرك بالنقص وبأنه ملازم لمعنى التغير، فتنتهي إلى قاعدة الأشاعرة في أن ما قامت به الحوادث فهو حادث، والتغير قيام “للحوادث” بالموجود! وإلا فلو قال كما عليه العقلاء إن التغير هو التحول من حال إلى حال أخرى، لجاز أن يقال هو تحول من حال كمال إلى حال أخرى هي كمال أيضا، بالنظر إلى السبب الباعث على ذلك التغير! فمن نفى التغير بهذا المعنى عن رب العالمين سبحانه فقد عطله عن جميع أفعاله، بل وعن أن يكون قد تلبس بخلق هذا العالم أصلا! بل ومن نفاه على المعنى الذي حرره هو فقد عطله كذلك، لأنه إن كان الله تعالى يوصف بحال الفعل لسبب، ويوصف بخلافها لسبب آخر، “ففقد السبب الأول” يوجب التحول إلى الحال الأخرى، بالنظر إلى كون الأسباب هنا المقصود بها ما تقتضيه الحكمة الإلهية والعلم الإلهي وكمال القدرة، ولأجله يشاء سبحانه أن يكون على الحال الأولى، ثم على الحال الثانية! الظاهر أنه يريد أن يقول بإيجاز، لو قدرنا أن أفراد السلسلة كان أولها مستغنيا عما يتسبب في وجوده بعد عدمه، قائما بنفسه، لوجب ألا يكون ظهور الفرد الذي يليه إلا من تغيره هو نفسه وتحوله إليه! ونحن نسأله: هذا على أساس أن العلة القائمة بنفسها، لا يجوز أن ينشأ عنها غيرها، إلا بأن تتحول هي نفسها إليه؟؟ إذن الله تعالى عندك لا يجوز أن يخلق هذا العالم إلا بأن يتحول ويتغير هو نفسه ليصبح هو عين العالم! ولكن بما أنه لا يجوز عليه التغير عندك، فلا يجوز أن يكون هو خالق العالم أصلا! وهو معطل عن كل فعل وعن كل كلام وعن كل صفة بالضرورة لأن ذلك كله يكون تغيرا، والقائم بنفسه لا يتغير!!
قوله: ” فوجب أن يكون من أقام سلسلة الحوادث قائما بنفسه بائنا عن تلك السلسلة.”
قلت: لا لم يجب! لأنه إن قدِّر قائما بنفسه، فليس هو قابلا للتغير حتى يتحول من حال عدم إقامة السلسلة إلى حال إقامتها! ثم إنه ليس في شيء مما قررته ما يوجب كونه بائنا عن تلك السلسلة!
فتأمل بربك مبلغ الجهل والتعطيل والجهمية التي شحن بها الرجل برهانه المزعوم هذا من غير أن يشعر، وقل الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به! يا رجل إن أبيت إلا أن تكون متكلما جهميا، فهلا صبرت على نفسك حتى تتعلم من علم الكلام ما يتم لك ذلك على طريقة أصحابه، قبل أن تكتب تلك المهازل؟؟ أنتم يا هؤلاء لا تشعرون بمبلغ التجهم والتعطيل الذي تكبتونه في تلك الكتب، تقدمونه للشباب على أنه طوق النجاة من الشك والإلحاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
يقول: وبذلك يكون دليل السببية قد دلنا على القائم بنفسه الغني عن كل شيء، الخالق لكل شيء، المريد لوجود هذه المخلوقات بتلك الخصائص دون غيرها، وهذا النظام السببي دون غيره!
ونقول: لا والله ما دلك ولا أفادك إلا بإغراقك في تعطيل الفلاسفة والمتكلمين! ولو أنك اكتفيت بتقرير هذه العبارات التي كتبتها الآن، لقدمت الحجة الكافية على المطلوب! فدليل السببية يقال فيه: لو قدرنا حادثا بلا محدث، للزم التناقض والفساد، ولو قدرنا المحدث حادثا، للزم تسلسل العلل والأسباب التامة، وهو ممنوع، فلابد أن يكون الباري محدِثا غير حادث في نفسه، صاحب إرادة يترجح بها كون كل شيء على ما هو عليه لا على خلافه! هذا ما به ننقض على من يماري في وجود من صنعه! لا أننا نصل إلى المعرفة به من هذا العبث الذي كتبته!
تأمل إذ يحاول بعد ذلك أن يثبت أن “السببية” تبرهن على كمال الباري وليس فقط على وجوده، فيقول:
“فإذا كنت تحتاج إلى شيء أو سبب لتفعل أمرا ما، فأنت مفتقر لهذا الشيء وقدرتك ناقصة وأنت محكوم بالسببية! أما إذا كنت لا تحتاج إلى أي شيء ولا سبب فأنت كامل لا نقص فيك. وأنت لست مقهورا بالسببية!”
فهذا يقال له: الرب سبحانه كانت له حكم وتعليلات في أفعاله التي منها خلق هذا العالم أم لم تكن؟ إن قلت كانت لديه، لزمك أن تجعله مفتقرا لتلك العلل والأسباب “محكوما بالسببية”! وإن قلت لم تكن لديه أي حكم ولا علل ولا أسباب، فلا هو خالق بالمشيئة (إذ المشيئة علة وسبب لحدوث الفعل عنه قطعا)، ولا هو مرجح للممكنات على وجه من وجوهها دون الآخر كما وصفت، ولا هو خالق العالم أصلا!
فختاما
أقول لهذا المؤلف: يا أخ أحمد أنا مشفق عليك والله! دعك من هذا الشأن فلست منه ولا هو لك، فاتق الله في نفسك، واشتغل بما ينفعك وينفع الناس! أنت دكتور في البيولوجيا أو الفيزياء، لا أدري، فاشتغل في المجال الذي أصبت فيه تلك الدكتوراه، وكف عن هذه الأمور، إن أردت السلامة يوم القيامة، وتب عن هذا العبث والسخف، فإن أمر الدين عظيم! وإلا فأصغر طالب علم أشعري يزن عشرين من أمثالك، لأنه على الأقل يعقل ما يقول ويميز دلالات المصطلحات والألفاظ التي يتكلم بها! فمن لتلك الفئة العصرية من أدعياء السلفية يقرعهم على رؤوسهم ليدركوا مبلغ الضياع الذي وقعوا فيه وسحبوا إليه المسلمين سحبا؟؟
وأقول للأخ الذي نشر له كتابه هذا: أبشر بما يسوؤك إن لم تتب وتصلح وتقلع عما أنت فيه، فقد بليت المسلمين بما كانوا منه في عافية، فما نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أبو الفداء