لقد ظهر في اليونان ( القرن ٧ – ٦ ق.م) طائفة من الناس يسمون أنفسهم بالحكماء، حاولوا تقديم تفسيرًا للوجود وأصله بإستخدام ” اللوغوس” وهي كلمة كثيفة ومتشعبة الدلالة سيأتي الحديث عنها، لكن نكتفي هنا بأن نقول أنها تعني ” العقل”.
وهم بهذه الطريقة قاموا بتجاوز تفسيرات العامة، التي تفسر الوجود وعلله بإستخدام “الميتوس” أي الأسطورة.
وظهر بعدهم (ق ٥ ق.م)، طائفة أخرى تدعى السفسطائيين وهم مجموعة من الأساتذة يعلمون أبناء النبلاء فن الخطابة لحاجتهم لها في السياسية، فيعلمون إثبات الشيء ونقيضه وغير ذلك.
وفي هذا القرن ظهرت أول إشارة للكلمة المركبة فيلو صوفيا، اذ ينقل لنا هيرودوت في تاريخه رحلة صولون – أحد الحكماء السبعة- إلى مملكة ليديا ( ولعلها ليبيا) ولقائه بملكها قورش crésus، فكان مما قاله له هذا الأخير « ضيفي الاثيني، لقد بلغ لنا ضجيج حكمتك ( صوفيس) ورحلاتك، لقد قيل لنا أن لك ذوقًا للحكمة ( فيلو صوفيون). لقد زرت العديد من البلدان بسبب رغبتك في الرؤية.»
ثم هذه الكلمة ستصبح شائعة في أثينا، بل سيشيع إستخدام التركيب ” فيلو + …” مثل فيلو بوزيا : محبة الخمر، أو فيلو-تيميا: محبة الشرف، واخيرا فيلو-صوفيا.
وحسب “بيير أدو” قد استخدمت كلمة صوفيا في سياقات كثيرة عند اليونان، وهي مختلفة عن المعنى الذي اتخذته في كلمة ” فلاسفة”. فتأتي بمعنى ” الحكمة العملية” التي توحي بها الربة أثينة (الآلهة) للحرفيين. وتأتي بمعنى ” الحكمة الشعرية” التي توحي بها ربات الفنون للشعراء والحكماء ومن ذلك قول براميند في قصيدته أن الآلهة خاطبته قائلة: « يجب أن يحيط فؤادك بكل شيء دون أن ترعبك الحقيقة الكاملة».
كما شبه هيزيود حكمة الملك في حل النزعات والحكم بين الناس، بحكمة الإله، فهذه الحكمة “صوفيا” تجعل من الملك مثل الإله.
ثم ستتوسع دلالة الصوفيا مع تطور علوم الطب والهندسة وغيرها لتصبح كلمة صوفيا لا تقتصر فقط على الفن والسياسية وانما تشمل حتى ما برز من علوم، خصوصا بعدما ظهر مع طاليس ما يعرف بعلم الطبيعة- الفيزيقا. وسيصبح الصوفيْ Sophoi من يفسر الظواهر الطبيعية وعلل الطبيعة والوجود بإستخدام اللوغوس لا الميتوس.
وبحسب مارتن هيدغر فإن أول من صاغ كلمة ” فيلوسوفوس” هو هيراقليط، وهذا يدل بالنسبة له أن كلمة ” فيلو صوفيا” لم توجد بعد، فهيراقليط يستخدم العبارة ” أنير فيلوسوفوس” والتي تعني ” الإنسان الفيلسوف ” لا الإنسان الفلسفي. والأنير فيلوسوفوس هو الانسان الذي يحب الحكمة ( الصوفون)، لكن هيدغر يقول أن كلمة ( يحب- فيلين) تعني عند هيراقليط في سياقه ” يتحدث”، اي : الفيلسوف هو الذي يتحدث بالطريقة التي يتحدث بها اللوغوس، فيكون مطابقا للوغوس بذلك.
ونستغل هذا الموضوع لنوضح دلالة كلمة ” لوغوس ” “logos-λόγος” اليونانية وهي من الأصل ‘log” الذي يظهر في الفعل “legw” بمعنى “يضع – يختار او يميز- يقول او يتكلم”. أما الاشتقاق logos فتضم عدة معاني في آن وهي : الكلمة (اللغة)، الوجود، العقل ( اوالنظام)، واخيرا الإله.
ويعتبر هيراقليطس أول من جعل هذا المفهوم ركيزة لنظره العقلي الذي سيسمى الناظر به ” فيلسوفًا”، حيث جعل اللوغوس مبدأ كليًا يدبر العالم المادي، اي العقل الكلي λόγος الذي يصنع التغير في العالم، فهو بهذا جعل « الاشياء حولنا هي بين معقول ومحسوس». ويقول في إحدى شذراته « العقل هو الذي يختص بالفصل في أمر الحق، لكن ليس أي نوع من العقل، إنما “العقل المشترك والإلهي-logos ” ».
وقوله : «ليس اي نوع من العقل.» فليس كل نظر وفكر يكون مطابق للوغوس، ومن ذلك فكر “الميتوس”. والفرق بينهما، أن النظر العقلي المطابق للوغوس ( الفلسفة)، لا يحتكم إلى العواطف والمشاعر ويكون موضوعيًا ومنطقيًا إلى غير ذلك مما سيؤسس للعقلانية. أما “الميتوس- الأسطورة” فهو خطاب عاطفي قائم على أساطير وخرافات، ولا يتم الاقناع فيه بالحجة والبرهان، وانما بالعاطفة واستثارة المشاعر، بالترهيب والترغيب.
وهذا التفريق خطير جدًا لمن تبناه من المسلمين، إذ يلزم عنه أن يكون الخطاب القرآني داخلاً في القسم الثاني ( خطاب ترهيب وترغيب) ، أو في احسن الاحوال فيه القسمان معًا، وهذا يعتبر نقصًا على أصلهم. ولكن نحن لا نسلم لهم هذا التقسيم إبتداءً، ولله الحجة البالغة ولكن لا يعلمون.
إلا أننا نقول: إن فكرة اللوغوس التي قامت عليها الفلسفة، هي نفسها خرجت من رحم الميتوس، من الأسطورة الاورفية اليونانية القائلة « إن البشر ولدوا من رفات الآلهة التيتان الذين صعقهم زيوس » إن الجانب الروحي- العقلي فيهم الهي « العقل المشترك – لوغوس » سجن في الجسد المادي.
فالطريقة الفلسفية في النظر تأسست على أساطير وخرافات يونانية وثنية. فنحن عندما نقول : النظر الفلسفي، هو طريقة يونانية مخصوصة في النظر العقلي صفتها أنها بلا شرط ولا قيد. فلا ندعي بهذا أن الفلاسفة آلهة، لكن طريقة النظر هذه تأسست على اعتقاد وثني خرافي، اي أن في الإنسان ما هو الهي ( لوغوس) وعليه يمكن أن نستخدم العقل بلا شرط ولا قيد. فنحن لا ننكر أن من أبتدع هذه الطريقة في النظر مقيد بشروطه الزمانية والمكانية والثقافية، إذ« الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم» كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكذا كان التابعي مطرف بن عبد الله يقول : « عقول الناس على قدر زمانهم» لكن نقول أن تلك الشروط هي الداعي لإدعائهم أن من يريد أن يستخدم عقله بشكل سليم، لا بد أن يتبع طريقتهم التي أسسوها في النظر والتي بها يكون الفيلسوف فيلسوفًا.
والمقصود هنا : أن تفهم قول هايدغر : الفيلسوف هو الذي يتحدث بالطريقة التي يتحدث بها اللوغوس، فيكون مطابقا للوغوس في قوله وعلمه.
وبالعودة إلى هيدغر، فإن الصوفوس أو الحكمة عند هيراقليط تعني « الواحد هو الكل» فالوجود بهذا عبارة عن تجمع، اي أنه لوغوس logos.
لماذا هذا ؟
لأن الكلمة لوغوس هي الوحيدة التي يمكن أن تعبر عن أن الوجود كله واحدًا، فاللوغوس هو اللغة هو العقل هو الإله هو الوجود. لهذا سيكتب براميند من بعده « كل شيء واحد» « ما يلفظ به ويفكر فيه يجب ان يكون موجودا ». وهو بذلك حقق وصية ربات الفنون- الآلهة « يجب أن يحيط فؤادك بكل شيء دون أن ترعبك الحقيقة الكاملة.»
فهم زعموا أن التفلسف هو أن تعرف الحق عن طريق العقل المشترك الإلهي – اللوغوس. وليس فقط تعرف الحق، بل يكون هو نفس ما تقول، وهو نفس ما يوجد، والكل واحد.
وهكذا تأسس النظر الفلسفي على خلط ما في الأذهان بما في الأعيان، ويسمى من يقوم بهذا الخلط ” أنير فيلوسوفوس” – الإنسان الفيلسوف.
فهذه البنية المفاهيمية -السابقة في الذهنية اليونانية- هي التي ستدبج لنا ذلك التعريف الشهير للإنسان الذي قاله أرسطو في -كتابه الأخلاق الى نيقاماخوس- ” حيوان ناطق/ عاقل- λόγον ἔχον”. فهو جعل جوهر “الوجود” الإنساني هو ” العقل- النطق- ” logic, logos, λόγος, λόγον -ونلاحظ تشابك الكلمات، وارتباط المنطق بلغة القوم، فهو ليس قانون عام للفكر كما زعم أرسطو وأتباعه، وإنما هي لغتهم. لهذا لما ترجم المنطق للعربية أول من تصدى له هم أهل النحو لإفساده للسان العربي. – هذا التعريف سيكون له تأثير كبير في التصورات الفلسفية، فهم أولا جعلوا في الوجود ( العالم، الطبيعة، ما يقال) عقلا ( قانون، نظام، عقل فعال، اله). ثم الانسان بما أنه عاقل وهي خاصية جوهرية إلهية فيه ( أسطورة اورفية)، فهو على هذا الاساس قادر على “تعقل وتمثل” الوجود وذلك بأن يصل إلى ” العقل الفعال- الإله” وهو ما كان يعبرون عليه في أشعارهم أنهم يتصلون بالالهة تعلمهم الحرف والفنون. ولما كان جوهر الانسان عقلي، فما عليه إلا أن يسعى إلى الاتصال بالعقل الهي الكلي والاتحاد معه.
إن الفلسفة هي محاولة الوصول الى العقل المشترك الإلهي، « فالفيلسوف – بتعبير نيتشه- يسعى لأن يتردد فيه صدى انسجام العالم كله ولاخراجه على شكل مفاهيم».
من هنا كانت الفلسفة عندهم هي ” التشبه بالإله على قدر الطاقة”. فالإنسان له طاقة على هذا التشبه، إذ هو في إعتقادهم بعث من رفات الآلهة التيتان.
واذا وعيت هذا، ستعلم أنه عندما يسأل الفيلسوف : ” ما هذا ؟ ” فهو لا يبتغي معرفة اسمه الذي تواضع عليه الناس، كقولنا هذا “حمار” وهذه “عصا”، أو بعض صفاته التي تميزه عن غيره، أو بمعرفة نظيره إلى غير ذلك، وإنما هو يسأل عن طبيعته الجوهرية التي يحصل التصور التام الكلي الذي يشترك بفضله الفيلسوف حسب زعمه مع العقلي الإلهي، وهكذا يحصل التشبه.
وهذه طريقة يونانية في طرح السؤال، لا يعرفها العرب في لغتهم. فالعرب عندما يسألون “ما هذا؟” لا يطلبون التصور التام الكلي الذي يطلبه الفلاسفة.
فالمتفلسف لا يتفلسف إلا بطرح هذا السؤال :”ما …؟ تي …؟ …Τι “. وحتى أن هذا الذي يسألون عنه لم يكن موجودا في لغة العرب، حتى وَلدَ له تراجمة الفلسفة مقابلا سموه “الماهية” و”المائية” وغير ذلك. ولا يجيب أحد من الناس بالفطرة على سؤال “ما هذا الشيء؟” بطريقة الفلاسفة ومقصودهم من هذا السؤال، وانما يجيب الناس بما يفيد التمييز فحسب، إذا كان المسؤول مميزًا لِما سُأل عنه، كسؤال الله لموسى عليه السلام : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}.
لأجل ذلك قال هايدغر : «فعندما نسأل: ما هذا ؟ – ?Τι είναι αυτό” فنحن نسأل عندئد سؤالا يونانيًا في أصله.»
فالهدف الاول من التفلسف هو معرفة الأشياء كما هي عليه، كما يعرفها الإله كامل العلم، أي طبيعة الاشياء وحقيقتها الجوهرية الثابتة. هكذا كان الأمر عند الفلاسفة قبل سقراط، ممن يسمون بالفلاسفة الطبيعيين كطاليس وهيراقليط وانكساغوراس وانبادوقليس وغيرهم ممن كانوا يبحثون في الطبيعة ليعرفوا الأشياء “الطبيعية” كما هي عليه، كبحثهم في طبيعة الافلاك والنجوم وغير ذلك. لهذا قيل : «بينما كان طاليس يمشي مصوبا نظره نحو السماء باحثا عن النجوم إذْ سقط في بئر ؛ فقالت جارية كانت تسير معه ، عجبا تَرى كل هذه النجوم ولا ترى حفرة تحت أقدامك؟!»
ثم أنزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض، وذلك لأنه نقل التفلسف ( السؤال عن طبيعية الأشياء) من فئة الموجودات الفيزيائية المحسوسة إلى فئة الأشياء الإنسانية ( المعرفة، الاخلاق، السياسية، الجمال …) وبدأ يطرح الاسئلة لمعرفة طبيعية هذه الأشياء ( ما طبيعة الفضيلة؟ ما طبيعة الحقيقة ؟ ….). وهذا ما سار عليه أفلاطون بمحاولة الوصول إلى الطبيعة الثابتة للأشياء ” المثل” ، بحيث هذه الموجودات المحسوسة ما هي إلا نسخة مشوهة منها ( سيمولاكر). ومن أجلها وضع أرسطو نظرية الحد، إذ بالحد نعرف طبيعة الشيء وحقيقته ( الماهية).
ثم نقول : كيف يجيب الفلاسفة على سؤالهم الفاسد من أصله ؟
يجيبون بتلك الطريقة الجهمية التي ذمها السلف الصالح وأئمة السنة. فيأخذون صفة من صفات الشيء ويجعلونها ذاتية له تحكمًا، بل ويحصرون تلك الصفة في كيفية معينة، ويقولون لا يوجد هذا الشيء إلا وله هذه الصفة بهذه الكيفية في مطلق الزمان والمكان.وهذا ما نسميه بالقياس الميتافيزيقي الذي تعدوا به على الغيب.
ومعلوم أن هذه الطريقة لا تفيد علما أو تصورًا تامًا كما يزعمونه، فهذا يستحيل في حق بني آدم، لقوله تعالى : {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم ، حتى ينتهي إلى الله عز وجل .
ولقول النبي ﷺ « بيْنَما مُوسَى في مَلَإٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ له: هلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قالَ مُوسَى لَا، فأوْحَى اللَّهُ إلى مُوسَى بَلْ عَبْدُنَا الخَضِرُ»
وقال شيخ الإسلام إبن تيمية : « ما من تصور إلا وفوقه تصور أكمل منه، ونحن لا سبيل إلى أن نعلم شيئا من كل وجه.
ولا نعلم لوازم كل مربوب ولوازم لوازمه إلى آخرها. فانه ما من مخلوق إلا وهو مستلزم للخالق، والخالق مستلزم لصفاته التي منها علمه، وعلمه محيط بكل شيء. فلو علمنا لوازم لوازم الشيء إلى آخرها لزم أن نعلم كل شيء وهذا ممتنع من البشر. فان الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الأشياء كما هي عليه من غير احتمال زيادة، وأما نحن فما من شيء نعلمه إلا ويخفى علينا من أموره ولوازمه ما لا نعلمه.»[ الرد على المنطقيين، ص ١١٧]
فإذا علمت أن أصل الفلسفة، هو ذلك السؤال عن الماهية الذي يتطلب التصور التام للشيء، ويسعون إلى تحصيله عن طريق القياس الميتافيزيقي الذي يتعدى على الغيب، ما يجعلهم يقولون ما لا علم لهم به ولا انزل الله به من سلطان. وعلمت أن المسلمين لا يجوز عندهم مثل هذا السؤال، إذ يمتنع في حق بني آدم التصور التام أصلًا. كما لا يجوز عندهم الحكم على شيء من الغيب بالنفي أو الاثبات بدون وحي من الله، لأنه تقول على الله بلا علم.
فإذا علمت هذا وذاك، ظهر لك المراد من قولنا أنا ننزه شيخ الإسلام ابن تيمية على أن نصفه بالتفلسف أو أن له فلسفة وغير ذلك مما شاع ونتشر.
فالفلسفة صنعة يونانية، خاصة باليونان هم من أخترعوها بناءً على اعتقاداتهم الخرافية الوثنية، كما يذكره فلاسفة الغرب ومؤرخيهم افتخارًا، كبرتراند راسل ومارتن هيدغر وبيار فيرنان وغيرهم، كما أنك لا تجد فيهم أحد يعرف الفلسفة بأنها مطلق النظر العقلي، وإبحث تجد كتب عديدة عنوانها ” ما هي الفلسفة ؟” مثل كتاب جيل دولوز وفيليكس غواتاري وكتاب مارتن هيدغر وكتاب بيار أدو وغيرها، ولا واحد وافقكم وأجاب أنها مطلق النظر.
ونكتفي بهذا القدر.
إنتهى.