الحمد لله الذي أبدع الخلق بحكمة بالغة، وأودع العقول دلائل معرفته، وأقام على عباده حججه، حتى لا تبقى لهم عليه حجة بعد بعثة رسله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُنجي قائلها يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المؤيد بالآيات الظاهرات، والمُعزّز بالحجج الباهرات.
أما بعد: فهذا مقال في تقرير مسلكٍ مختارٍ في باب النبوات، فيه تقرير النبوة العامة والخاصة تفريعا على التسليم بكمال الإله فقط، وقد تقدم تقدم ذكر وجوه في إلزام المخالفين فيه في مقال مستقل.
فصل في وجوب وجود غاية من فعل الباري
اعلم أن الفاعل المختار لا يخلو: إما أن يفعل لغاية مقصودة مطلوبة له، وإما أن يفعل لا غاية. والثاني باطل، لأن الفعل بلا غاية سفهٌ وعبث، والسفه نقص، والنقص ممتنع في حق الباري كما قد قامت عليه الأدلة في غير هذا الموضع.
ويقال لكم: لو جاز أن يقع الفعل بلا غاية، لجاز ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وذلك باطل بصريح العقل، إذ اختصاص أحد المتماثلين بلا مخصص ترجيح بلا مرجح، وهو ممتنع.
فثبت أن كل فعل يقوم بذات الفاعل الكامل، فلا بد أن يكون لغاية تليق بكماله، إذ لو خلا عن ذلك لزم النقص المنافي للكمال.
فوجب أن يكون خلقه وأمره لغاية مقصودة له سبحانه، فثبت أن خلقه سبحانه للبشر لغاية مطلوبة له، كما قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ [المؤمنون 115]، وقال: ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين﴾ [الدخان 38]
وإذا ثبت أن الفاعل الكامل لا يفعل إلا لغاية، وجب أن تكون تلك الغاية لائقة بكماله؛ فلما قامت البراهين العقلية والفطرة الصريحة أن الباري لا يكون إلا في منتهى الكمال، عُلم أن غاياته من أفعاله حسنة في نفس الأمر ضرورة؛ كما قال سبحانه: ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ [الحجر: 85].
فصل في تعيين غاية الباري من خلق جنس البشر
لما ثبت أن الخلق لا بد له من غاية محمودة تناسب كمال الخالق، وجب أن تكون الغاية من خلق جنس الإنسان أكمل الغايات التي تليق بطبيعته واستعداده؛ أي أكمل ما هو محل قابل له. لأن إيثار الأدنى مع إمكان الأعلى، نقص في الحكمة.
فإن قيل: لو صح قولك لم يوجد في الدنيا معاصٍ، ولا شرور وليست هي أكمل ما البشر محل قابل له.
أجيب: هذا مقام تعيين الإرادة الشرعية المحبوبة للباري، والاعتراض على المشيئة الكونية، وليس كل مُراد كونا مُراد شرعا، فإن الشرور مرادة كونا مبغوضة شرعا، وإنما هي مرادة لغيرها لكونها شرطا في خير محبوب مراد شرعا، كما أن المعاصي شرط في وجود التوبة التي يحبها الباري.
واعلم أن الغايات تتفاضل في الشرف بحسب تفاضل المتعلقات بها، فإنه معلوم بصريح العقل أن الفعل كلما تعلق بأمر أشرف وأكمل، كان ذلك الفعل أشرف وأكمل. لأن الفعل يشرف بشرف متعلَّقه، ويكمل بكماله، كما يشرف العلم بشرف المعلوم، والمحبة بشرف المحبوب، والطاعة بشرف المطاع.
وإذا كان الأمر كذلك، وقد عُلم أن أكمل المتعلقات الممكنة على الإطلاق هو الله سبحانه، وجب أن يكون التعلق به علماً ومحبة وتعظيماً وطاعة، هو أكمل ما تتعلق به قوى العبد من علم ومحبة وإرادة وعمل.
وحينئذ نقول: إن أعظم غاية للإنسان أن يتعلق قلبه بربه تعالى، بأن يعرفه حق معرفته، ويصفه بما وصف به نفسه من صفات الكمال، وأن يحبه أعظم المحبة، ويعظمه غاية التعظيم، ويطيعه بأتم الطاعة، ويخضع له أكمل الخضوع. وهذا هو هو تعريف العبادة، فإنها متضمنة للعلم بالله، وثم طاعته المستلزمة لحبه وتعظيمه والخضوع له جل ثناؤه. ومن ثم فيثبت أن غاية الباري من خلق البشر هي معرفته وعبادته سبحانه، كما جاء به محكم التنزيل: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾ [محمد: 19]، وقوله جل شأنه: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات 56].
وإذا ثبت ما قررناه، لزم من وجود الشرور والآفات، وحرية اختيار العباد بين الخير والشر = أن تكون الدنيا دار ابتلاء وامتحان.
فإن قال قائل: لو كانت هذه الغاية مقصودة، لما تخلف حصولها عن أهل الفترات أو بعض الكافرين.
فيقال: تحقق الغاية قد يتخلف عن بعض الأفراد، لا لقصور في الغاية، بل لتخلف شرط أو لقيام مانع. وتخلف الشيء لفقد شرطه أو لقيام مانعه لا ينافي كونه مطلوبا مقصودا. كما أن وجوب الصيام لا ينافي سقوطه عن المسافر لعذر السفر.
وكذلك، وقوع الشر والمعصية لا يبطل الغاية الأصلية من الخلق، بل يكون لحكمة أخرى تابعة، مثل: الابتلاء والتمييز والجزاء العادل. فإذا كان الحكيم قد يخلق ما يخالف غايته الأصلية لحكم أعلى، لم يكن ذلك مناقضا لكمال حكمته.
فصل في تفريع النبوة العامة والخاصة
أما النبوة العامة: فلما كان الحاصل هو: قصور مدارك العقول عن الإحاطة بما به تتم عبادة الرب، من العلم الجازم بمواقع رضاه من مواقع سخطه، وكيفية عبادته ونحوه. وكانت غاية الرب كما تقدم إثباته من خلق البشر في الدنيا، هو تكليفهم بعبادته كما يريد هو سبحانه.
إذن فلا بد من بعث أنبياء ليتموا هذا القصور، وإلا لزم تخلف ما به حصول غاية الإله (أي حصول عبادته في الأرض كما يريد هو سبحانه)، وهو محال؛ فبعث الأنبياء شرط لحصول الغاية الواجبة، وإذا وجب المشروط وجب الشرط.
ومن ثم فوجب أن يبعث الله إليهم رسلا يبينون لهم سبيل الوصول إلى هذه الغاية.
وأما النبوة الخاصة: فإننا إن نظرنا في الشرائع، وجدنا أن الإسلام، الذي جاء به محمد ﷺ، هو أكمل الشرائع تحقيقا للغاية التي تقدم ذكرها، فالمسلمون يعرفون الله ويوحدونه ويثبتون صفات الكمال له، وينزهونه عن الشريك في الربوبية والاتصاف بالنقائص، ثم يفردونه بالعبادة والمحبة والتعظيم.
ومن المحال في حكمة الحكيم أن تتحقق غايته في خلقه على يد نبي كاذب؛ ألا ترى أن الملك العظيم لا يختار سفيرا إلى رعيته يتم به مقاصده إلا أن يكون صادقًا أمينًا موثوقًا به، ولو علم منه كذبا وخبثا ثم استعمله لم يكن ذلك عند العقلاء إلا سفها؛ فكيف بملك الملوك سبحانه وهو العالم بكل شيء؟ فعلى القول أن الباري اختار لتحقق غايته ومقصده في الأرض نبيا كاذبا، لزم نسبته للسفه وهو خلاف الفرض -أي كونه كاملا-، فهذه المنزلة أي أن تكون إمام النجاة إلى غاية الإله لا تنبغي إلا لصادق بمقتضى كمال الإله.
فتثبت بذلك نبوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.