الحمد لله الذي له الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله؛ أما بعد:
اعلم — أرشدك الله لطاعته — أن معرفة حق الله على عباده هي لب الدين، وأساس الإيمان، وأصل القربات. وقد أثبتنا بالبرهان العقلي في غير هذا الموضع أن إعطاء حق الباري حقه، عليه مدائر الشرائع والتكليف الإلهي.
فالله تعالى مستحق لكل كمال وجلال، مستوجب لكل عبادة وخضوع، هو الإله الحق، الذي لا إله إلا هو، لا يُجوز أن يكون إلا أن يكون معبودًا محبوبًا محمودًا، فهو رب العالمين وإله المرسلين وقيوم السماوات والأرضين.
وبهذا غاية كمال الانسان، ولذا، كان وصف النبي ﷺ في أعظم المقامات هو وصف العبودية، كما قال تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده﴾، وقال: ﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا﴾، فجمع له أشرف المقامات بكونه عبدًا لله، فما من عبد أطوع لله، ولا أخضع له، ولا أخلص له من محمد ﷺ، ولهذا قال: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
وقد جاء عن الملائكة، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون، أنهم يقولون يوم القيامة: «سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك».
وقال ابن أبي شيبة ٣٥١٥٨ – يزيد بن هارون قال: أخبرنا مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن طلق بن حبيب قال: «إن حقوق الله أثقل من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين».
وروى الآجري في الشريعة ٥٢٥ – عن عمر بن عبدالعزيز قال: «لو أراد الله تعالى حمل خلقه من حقه على قدر عظمته لم يطق ذلك أرض ولا سماء ولا ماء ولا جبل، ولكنه رضي من عباده بالتخفيف».
مراتب الحقوق
اعلم -وفقك الله للحق- أن حقوق الله تعالى على ضربين:
الأول: الحق المحض لله
وهو الذي لا يشوبه حق لغيره، مثل:
- الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
- إقامة الصلاة، صيام رمضان، حج البيت لمن استطاع، الدعاء، الذبح، النذر، التوكل، الخوف، الرجاء، المحبة.
وفي الصحيح تسمية توحيد العبادة بأنه «حق لله»، كما في حديث معاذ الذي رواه أبِو سُفْيَانَ طَلحَةَ بْنِ نَافِعٍ، وَقَتادَة، كلاهما عَنْ أنَسٍ، أنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ -رضي الله عنه- حَدَّثَهُ أن النبي ﷺ قال:
«هَل تَدْرِي مَا حَقُّ الله عَلَى العِبَادِ؟ قَالَ: قُلتُ: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ الله عَلَى العِبَادِ أنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. قَالَ: ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ الله وسَعْدَيْكَ. قَالَ: فَهَل تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى الله إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلتُ: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ العِبَادِ عَلَى الله أنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ»[1].
ومثل هذا كثير في السمع[2].
الثاني: حق الله الذي يتضمن حقوق المخلوقين، مثل:
- الزكاة، الصدقة، العتق، بر الوالدين، صلة الرحم، الإحسان إلى الخلق.
وهذا التفريق أصله من السنة النبوية، كما روى الأعْمَش، عَنْ أبِي صَالِحٍ، عَنْ أبِي هُريْرةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «إِذَا العَبْدُ -يعني المملوك- أدَّى حَقَّ الله وَحَقَّ مَوَالِيهِ، كَانَ لَهُ أجْرَانِ»[3].
وهذا من قبيل عطف العام على الخاص، فإن حق مواليه متضمن لحق الله، وكذلك سائر حقوق بني آدم؛ وذلك أن كل عمل لا يقبل من العبد إلا باجتماع أمرين: الاخلاص، وموافقة السنة، وكلاهما من حقوق الله. قال ابن أبي الدنيا ٢٢ – حدثنا محمر بن علي بن شقيق، حدثنا إبراهيم بن الأشعث ﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملا﴾ قال: «أخلصه وأصوبه، قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص إذا كان لله، والصواب: إذا كان على السنة».
قال الامام ابن القيم في الداء والدواء – ط عطاءات العلم (ص٢٨٧):
«الذنوب أصلها نوعان: ترك مأمورا وفعل محظور. وهما الذنبان اللذان ابتلى الله سبحانه بهما أبوي الجن والإنس. وكلاهما ينقسم باعتبار محله إلى ظاهر على الجوارح، وباطن في القلب. وباعتبار متعلقه إلى حق لله، وحق لخلقه. وإن كان كل حق لخلقه فهو متضمن لحقه، لكن سمي حقا للخلق لأنه يجب بمطالبتهم ويسقط بإسقاطهم».
فصل في تقديم حق الله المحض
واعلم أن في ميزان الإسلام -مما علم بالاضطرار من نصوصه-: من أدى حق الله المحض وأدى معه حقوق المخلوقين، فقد بلغ كمال الإيمان. ومن أدى حق الله المحض وقصّر في حقوق العباد، كان تحت مشيئة الله، يغفر له أو يعذبه، ومآله الجنة. ومن أعطى حقوق المخلوقين وأهمل حق الله، فقد خسر الخسران المبين، واستحق بذلك أعظم العذاب وأشده في الآخرة!
قال تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾.
ولهذا قال ابن عمر -رضي الله عنهما- في القدرية الذين أخلو بأحد أركان الإيمان (وهو من حقوق الله المحضة): «والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أُحُد ذهبًا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قَبِله الله منه حتى يؤمن بالقدر»[4].
ويدلك عليه: حديث ابْن شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أبِي هُريْرةَ، قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: أيُّ الأعْمَالِ أفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِالله وَرَسُولِهِ»[5]. قلت: والإيمان من حقوق الله المحضة.
ويدلك أيضا: حديث الأَعْمَشَ، حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ، عَنْ سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ كَانَ عَلَى أُمِّهَا صَوْمُ شَهْرٍ فَمَاتَتْ، أَفَأَصُومُهُ عَنْهَا؟ قَالَ: «لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ الله عَزَّ وَجَلَّ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»[6]. وفي حديث آخر: «فالله أحَقُّ أنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ»[7]؛ ونظير هذا كثير يعسر إحصائه [8].
قال ابن أبي شيبة في المصنف ٣٤٢٣٤ – حدثنا، جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي ثمامة، قال: «قال الحواريون: يا عيسى ما الإخلاص لله؟ قال: أن يعمل الرجل العمل لا يحب أن يحمده عليه أحد من الناس، والمناصح لله الذي يبدأ بحق الله قبل حق الناس، يؤثر حق الله على حق الناس، وإذا عرض أمران: أحدهما للدنيا، والآخر للآخرة، بدأ بأمر الآخرة قبل أمر الدنيا». اهـ صحيح إلى أبي ثمامة وهو الصائدي تابعي كوفي.
وقد قرر نظير ما قررناه الامام ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه فقال: «النَّبِيُّ ﷺ أَعْلَمَ أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَأَنَّ قَضَاءَهُ أَحَقُّ مِنْ قَضَاءِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ». قلت: والصوم من حقوق الله المحضة، وهذا نص نفيس من إمام الأئمة في زمانه.
واعلم — وفقك الله — أن السمع إن كان قد دل على هذا، فإن العقل الصحيح الصريح موافق له أشد الموافقة، بل يؤكده ويزيده يقينًا. فإنه مما يقطع به العقل: أن من كان متصفًا بأعظم صفات الكمال، وأحسن المعاني، وأكملها على الإطلاق، فهو مستحق لأعظم حب وتعظيم وخضوع. والحب — في أصله — إنما ينشأ لأجل معنى حسن في المحبوب.
فإذا نظرنا إلى الله جل جلاله، وجدنا أنه الكامل في ذاته، الكامل في صفاته، الكامل في أفعاله، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، بل كل كمال في الوجود فمن آثار كماله، وكل نعمة في الوجود فمن آثار إحسانه. بل نحن ما وجدنا إلا بإيجاده، ولا بقينا إلا بإمداده، ولا اهتدينا إلا بهدايته، ولا سعدنا إلا بفضله.
فإذا كان العبد يحب أباه وأمه لعظيم إحسانهما إليه، ويحب معلمه وشيخه وولي نعمته لما أسدى إليه من معروف، فكيف لا يُفرد الله بأعظم الحب، وهو المنعم المتفضل الذي لا يُحصى إحسانه ولا ينقطع أبدًا؟!
ولهذا، فالعقل والشرع متفقان على أن حق الباري هو أعظم الحقوق، يستحق المخل به أعظم العقوبات، قال ابن القيم (ت ٧٥١ هـ) في الداء والدواء – ط عطاءات العلم (ص٢٠٩):
«فإنّ الذنب وإن صغر، فإنّ مقابلةَ العظيم الذي لا شيء أعظم منه، الكبير الذي لا شيء أكبر منه، الكريم الذي لا أجلَّ منه ولا أجملَ، المنعِمِ بجميع أصناف النعم دقيقِها وجليلِها = من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها. فإنّ مقابلةَ العظماء والأجلّاء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كلُّ أحد مؤمن وكافر. وأرذلُ الناس وأسقطُهم مروءةً مَن قابلَهم بالرذائل، فكيف بعظيم السموات والأرض، وملِك السموات والأرض، وإلهِ أهل السموات والأرض؟».
مظاهر هذا في الشريعة
فإذا فتحت عين قلبك ونظرت إلى الشريعة بهذه البصيرة، رأيت أنها كلها تدور على هذا الأصل الأعظم: تقديم حق الله ومراده على كل اعتبار، وجعل رضاه سبحانه هو الغاية الكبرى لكل حركة وسكون.
فكل أمرٍ أمر الله به، وكل نهي نهاك عنه، وكل حد حدَّه لك، وكل طاعة ندبك إليها، وكل قربة شرعها لك — ما هي إلا وسائل توصلك إلى هذه الغاية العظمى: رضاه سبحانه وتعالى.
- أما رأيت: أنه لا يُثاب العبد إلا إذا قصد بعمله وجه الله، ولو كان عمله في ظاهره نافعًا للخلق. فمن تصدق بمال كثير رياءً، أو بمال حرام، لا يقبله الله، بل يأثم عليه، ولو انتفع به الفقير؛ بينما من تصدق بنصف دينار حلال بإخلاص، كتب الله له الأجر، وكان خيرًا عنده من الأول!
- وأما رأيت: أن العبد لو وقع في أعظم الذنوب، ثم جاء إلى ربه تائبًا منيبًا، ندم على ما فعل، صادقًا في توبته، لقبل الله توبته وغفر له، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء؟! وأن آخر يعمل أعمالًا صالحة في ظاهرها، لكنها على غير مراد الله، أو على غير السنة، أو لم يقصد بها إلا الدنيا — فلا يقبل الله منه شيئًا؟! فالغرض أن يكون الله هو مركز القلب، والغاية العظمى، ومنتهى الإرادة.
- وأما رأيت: أن البدع عند الله شر من كثير من المعاصي؟ لأن المبتدع لا يكتفي بمخالفة أمر الله، بل يزيد عليها منازعة ربه في حقه في التشريع! فالمذنب يعلم أنه مذنب، وهو يرجو الرحمة ويخاف العذاب؛ أما المبتدع فيرى نفسه على خير، ويدعو غيره إليه، ويبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله. ولهذا قال تعالى: ﴿أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله﴾.
- وأما رأيت: أن الله يكتب للعبد أجر الحسنة إذا همَّ بها، وإن لم يعملها، لمجرد حسن نيته، وطهارة مقصده، وصفاء قلبه؟ بل ربما بلغ العبد بهذا المقام مقامات عالية، لا يبلغها كثير من العاملين بظواهر الأعمال؛ لأن الله ينظر إلى قلبه.
فمفسدة الذنوب ليست فقط في الأذى الذي تلحقه بالناس أو بالعبد نفسه، بل أصل مفسدتها في جراءة العبد على حق الربّ، وتوثّبه على ما حرم الله عليه، مع علمه بحرمته.
ولهذا: لو شرب رجل خمرًا أو وقع في فاحشة وهو يجهل أنها محرمة، فهو معذور بجهله، وإن كان العمل قبيحًا في نفسه، لكن الجهل يسقط عنه المفسدة الكبرى.
أما من شربها أو فعلها وهو يعلم تحريمها، فقد جمع إلى الفعل الجرأة على الله، ومخالفة أمره، ولهذا استحق العقوبة.
وبسط هذا يطول، وتأمل حضورا لطيفا لهذا المعنى في قول الامام ابن القيم (ت ٧٥١ هـ)، في مدارج السالكين – ط عطاءات العلم (١/٢٧٢) عن تعيير أخيك بذنبه:
«واعلم أنَّ تَعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته، لما فيه من صَوْلَة الطاعة، وتزكية النفس، وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك هو الذي باء به.
ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعُجب ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب أنفع له، خير له من صولة طاعتك، وتكثرك بها، والاعتداد بها، والمنة على الله تعالى وخَلْقِه بها، فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله! وما أقرب هذا المُدلَّ من مَقْتِ الله!
فذنبٌ تَذِلُّ به لديه، أحبُّ إليه من طاعة تُدِلُّ بها عليه، وإنك أن تبيت نائما وتصبح نادمًا، خير من أن تبيت قائما وتصبح مُعجَبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك أن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكي وأنت مُدِل، وأنين المذنبين أحبُّ إليه من زَجَل المُسَبِّحين المدلِّينَ، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلا هو فيك ولا تشعر».
حل معضلة الشبهات!
وهذا لعَمري من أعظم أدلة النبوة عند التدبر، فإن النبوات الكاذبة، والفلسفات الإصلاحية البشرية، مهما علت ألفاظها وتزيّنت شعاراتها، لا تتجاوز غايتها إصلاح أحوال الناس في معاشهم ودنياهم، بل تجعل مدار همّها وغاية مقصدها حول حقوق الخلق ومطالبهم وشهواتهم.
فكل فلسفة وضعت، وكل فكرة نشأت من عقول البشر، إنما ترجع في النهاية إلى تحسين حياة الإنسان الظاهرة: أن يأكل جيدًا، ويعيش آمنًا، ويحصل على حقوقه، ويمنع عنه الظلم. وإن وُجدت فيها عبادات أو طقوس، فإنما هي وسائل لضبط المجتمع أو تهذيب النفس، لا مقصودة لوجه الله تعالى، ولا يُقصد بها حقه سبحانه من المحبة والعبادة.
أما الدين الذي نزل من عند الله، فهو دينٌ يقوم على تقديم حق الله فوق كل حق، ومحبته فوق كل محبة، ورضاه فوق كل غاية. والمقصود الأعظم فيه: إخلاص القلب له وحده، والقيام بأمره طلبًا لوجهه، لا لمجرد صلاح الدنيا أو تحسين الحال.
فإذا تحقق ذلك، صلحَت الدنيا تبعًا لا قصدًا، وكان الخلق على أحسن حال، لا لأنهم جعلوا أنفسهم الغاية، بل لأنهم جعلوا الله غايتهم.
واعلم أن أصل الفلسفة الانسانوية humanism philosophy: الكفر بحقوق الله تعالى (تبعا للكفر بالله)، وتعظيم حقوق المخلوقين، فهي تقوم على الكفر بحقوق الله، وتقديم حقوق المخلوقين، حتى صار الناس لا يعرفون إلا حق الإنسان، وينكرون حق خالقه عليه. ولهذا، انظر بعين العبرة: لو قيل لهم إن تارك الصلاة يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، استشنعوا هذا غاية الاستشناع، ورأوه جريمة كبرى! أما لو قيل لهم إن المغتصب يُقتل، أو إن القاتل يُقتل، لم يستغربوا هذا، بل رأوه عدلًا لازمًا. لا لشيء إلا لأنهم قلبوا الموازين، فعظموا حقوق المخلوقين، واستخفوا بحق الخالق.
وهذا قلب للميزان الذي دلت عليه الشريعة والعقل جميعًا، فإن الحق الأعظم هو حق الله، ومن لم يؤدِّه، استحق أعظم العقوبات؛ وكيف يُتصور في العقل أن يكون للمخلوق — الذي لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا — حقوق أعظم من الخالق؟!
وفيما قررنا جواب الشبهات من قبيل عذاب الكفار في الآخرة، وحد الردة، والجهاد، والاسترقاق، وكل تمييز بين الكافر والمسلم ونحوه؛ وبيانه في حد الردة -مثلا-، أن المرتد بكفره بالله بعد إسلامه وقيام الحجة الرسالية عليه = قد أخل بأعظم حق لله عليه، والله أعظم موجود، وحقه أعظم الحقوق؛ فمن لم يؤد أعظم الحقوق كان مستحقا لأعظم العقوبات، فإن خص الشارع له عقوبة بعينها، كانت عقابا لمستحق العقاب وهو حسن عقلا.
ويقول الامام ابن القيم (ت ٧٥١) في مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة – ط عطاءات العلم (٢/١١٠٩): «ليس في حكمة الله وحُسْن شرعِه أن يجعل دمَ وليِّه، وعبده، وأحبِّ خلقه إليه، وخير بريَّته، ومن خَلَقَه لنفسِه، واختصَّه بكرامته، وأهَّله لجواره في جنَّته، والنَّظر إلى وجهه، وسماع كلامه في دار كرامته= كَدَم عدوِّه، وأمقَتِ خلقِه إليه، وشرِّ بريَّته، والعادِل به، العادِل عن عبادته إلى عبادة الشيطان، الذي خَلَقه للنَّار، وللطَّرد عن بابه، والإبعاد عن رحمته».
وهذه لمحات، ودقائق فليتأملها اللبيب، فإن فيها نجاةً من كثير من ظلمات وشبهات أهل هذا العصر، فهل من مدّكر؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه أحمد (٢٢٤٤٧)، والبخاري (٥٩٦٧)، ومسلم (٥٢)، والنسائي (٩٩٤٣)
[2] عَبْد العَزِيزِ بن أَبِي حَازِمٍ، وَيَعْقُوب بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كلاهما عَنْ أَبِي حَازِمٍ، أَخْبَرَنِي سَهْلُ بن سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ لعلي رضي الله عنه: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ الله فِيهِ، فَوَالله لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ».
أخرجه أحمد (٢٣٢٠٩)، والبخاري (٢٩٤٢)، ومسلم (٦٣٠٢)، وأبو داود (٣٦٦١)، والنسائي (٨٠٩٣)، وأبو يعلى (٣٥٤)، والروياني (١٠٢٣).
– بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ؟ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَتْلُوهُ؟ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِيهَا. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟ رَجُلٌ يُسْأَلُ بِاللَّهِ وَلَا يُعْطِي بِهِ».
رواه سعيد بن منصور في سننه (٢٤٣٤)، والترمذي (١٦٥٢) واللفظ له، وابن حبان في صحيحه (٣٦٤١)، وحالطبراني في الكبير (١٠٧٦٨)، الطحاوي (٥٥٤٢).
– قال ابن أبي شيبة ١٦٠٧ – حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُكْرِمَ قِبْلَةَ اللَّهِ فَلَا يَسْتَقْبِلَ مِنْهَا شَيْئًا يَقُولُ فِي غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ».
[3] أخرجه أحمد (٧٤٢٢)، والبخاري (٢٥٤٩)، ومسلم (٤٣٣٥)، والترمذي (١٩٨٥)
[4] رواه مسلم (١)، وأبو داود (٤٦٩٥)، والترمذي (٢٦١٠)، ومحمد بن نصر المروزي ( ٣٦٧)
[5] أخرجه عبد الرزاق (٢٠٢٩٦)، وأحمد (٧٥٨٠)، والدارمي (٢٥٤٦)، والبخاري (٢٦)، ومسلم (١٦١)، والنسائي (٣٥٩٠).
[6] أخرجه إسحاق بن راهوية في مسند ابن عباس (٩١٢)، وأحمد (٢٠٠٥)، والبخاري (١٩٥٣) ومسلم (٢٦٦٣)، وأبو داود (٣٣١٠)، والبزار (٥٠٠٤)، والنسائي (٢٩٢٤).
[7] أخرجه عبد الرزاق (١١٠٦)، وأحمد (٢٠٢٨٧)، وابن ماجة (١٩٢٠)، وأبو داود (٤٠١٧)، والترمذي (٢٧٦٩)، والنسائي (٨٩٢٣).
[8] ودونك ما اشتهر من حديث ابْنِ جُرَيْجٍ، قال حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُلَيمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: تَفَرَّجَ النَّاسُ عَنْ أبِي هُريْرةَ، فَقَالَ لَهُ نَاتِلٌ الشَّامِيُّ: أيُّها الشَّيْخُ، حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله ﷺ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعرَفَهَا، فَقَالَ: فَما عَمِلتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلتُ فِيكَ حَتَّى قُتِلتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأ القُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ فِيكَ العِلمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأتُ فِيكَ القُرْآنَ. فَقَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ: هُوَ عَالِمٌ، فَقَدْ قِيلَ، وَقَرَأتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أمَرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأعْطَاهُ مِنْ أصْنَافِ المَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَّادٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِي النَّارِ».
أخرجه إسحاق بن راهوية (٣٠٩)، وأحمد (٨٢٦٠)، ومسلم (٤٩٥٨)، والنسائي (٤٣٣٠)