فلسفة العلوم

لماذا تحظى ال Big Bang بالقبول و الشعبية: الجزء الأول

مقدمة:

القبول والشعبية على نطاق واسع لنظرية الانفجار الكبير، ليس فقط داخل المجتمع العلمي ولكن أيضًا عبر مختلف التخصصات والمجالات الثقافية.
أصبح علم الكونيات الخاص بالانفجار الكبير وجهة النظر القياسية في مجال علم الكونيات بسبب الملاحظات التجريبية الحاسمة وحل النزاعات مع النظريات المنافسة مثل علم الكونيات المستقر.
لقد تجاوز مفهوم الانفجار الكبير حدود علم الكونيات ووجد صدى في تخصصات أخرى مثل اللاهوت والفلسفة والفنون والعلوم الاجتماعية، ويشير هذا القبول الواسع النطاق إلى أهميته خارج المجالات العلمية.
لقد تم تبني فكرة الانفجار الكبير في المناقشات اللاهوتية، خاصة فيما يتعلق بمفاهيم الخلق الإلهي، وقد تعامل الفلاسفة أيضًا مع مضامين الانفجار الكبير في قضايا مثل الإيمان بالله والإلحاد.
واستلهم الفنانون من فكرة الانفجار الكبير، حيث ابتكروا أعمالاً تصور وتجسد المفاهيم الكونية، مما ساهم في نشرها ثقافياً.
لقد أبدى عامة الناس اهتمامًا كبيرًا بمفهوم الانفجار الكبير، كما يتضح من نجاح الكتب العلمية الشعبية وانتشار المحتوى ذي الصلة في أشكال الوسائط المختلفة.

الانفجار الكبير من وجهة نظر “علم اجتماع العلوم”

لقد تغلغل مصطلح “الانفجار الكبير” في السياقات التجارية والاجتماعية، حيث تم استخدامه في بيئات متنوعة مثل التسويق والترفيه وحتى عمليات الشرطة، غالبًا بالمعنى المجازي الذي يشير إلى تغيير مفاجئ وجذري.
لهذا لا بد من التحليل الموضوعي themata analysis لفهم العوامل التي تساهم في قبول وشعبية علم كونيات الانفجار الكبير، يتضمن ذلك دراسة الموضوعات الأساسية التي تشكل النشاط العلمي والسياقات الثقافية، وبالتالي تسليط الضوء على الجاذبية الواسعة لمفهوم الانفجار الكبير.

المواضيع المفاهمية themata analysis هي مفاهيم أو مواضيع أساسية تشكل أساس النصوص العلمية وغالبًا ما تكون ضمنية وليست مذكورة صراحة.
في سياق علم كونيات الانفجار العظيم، تلعب المواضيع المفاهيمية والمنهجية أدوارًا مهمة. تشمل المواضيع المفاهيمية أفكارًا مثل الوحدة، والتعددية، والخلق، والتغيير، والتطور، والبساطة، والتعقيد، والفوضى، والنظام، والتقدم، والمحدودية، ودورة الحياة، والدائرية، والتناظر، والامتلاء، والفراغ، والاستمرارية، والانقطاع (unity, multiplicity, creation, change, evolution, simplicity, complexity, chaos, order, progress, finitude, life cycle, circularity, symmetry, fullness, emptiness, continuity, discontinuity)، وغيرها، وتتضمن المواضيع المنهجية مفاهيم مثل قابلية التطبيق الكوني للقوانين، والانتواع، ووحدة القوانين (applicability of laws, differentiation, and unification).
في حين أن بعض المواضيع مشتركة بين علم كونيات الانفجار العظيم ومنافسيه، مثل علم كونيات الكون المستقر steady state، فإن التركيز ينصب على تلك الخاصة والمميزة بعلم كونيات الانفجار العظيم. وتشمل هذه الانتواع والوتيرة الواحدة كموضوعات منهجية، والوحدة، والخلق، والتغيير، والتطور، والثبات، والبساطة، ودورة الحياة، والتدوير، والاضطراب كموضوعات مفاهيمية وتعريفات أساسية تعبر عن محتوى النظرية.
يتم توضيح وجود هذه المواضيع وأهميتها من خلال أمثلة من النصوص العلمية لعلماء الكون البارزين مثل فريدمان، ولوميتر، وغاموف. على سبيل المثال، ذكر هؤلاء المؤلفون موضوع الخلق بوضوح في أعمالهم، مما سلط الضوء على فكرة أصل الكون من نقطة قطرها صفر. يقول لوميتر “…إن الفيزياء الحالية توفر حجابا يستر الخلق creation”
ترتبط موضوعات أخرى مثل التغيير والتطور ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الكون المتغير، حيث يتطور الكون من حالة أولية من الحد الأقصى من البساطة مع احترام ثبات الكتلة/الطاقة.

وكذلك يظهر موضوع الفوضى بوضوح في أوصاف البداية الفوضوية للكون، والتي أعقبها تطوره المنظم، حيث يقول فريدمان و لوميتر:

“فإن التطور يكون من الأبسط الى المركب الأعقد compound”، و “إذا عدنا بالزمن إلى الوراء، فسنجد دائمًا كمًا quanta أقل، حتى نجد كل الطاقة الموجودة في الكون مركزة في عدد صغير أو حتى كم quantum واحد”

ويقول جامو gamow:

“كشف اكتشاف التحول الأحمر في أطياف المجرات red shift البعيدة عن حقيقة مهمة وهي أن كوننا في حالة من التوسع المنتظم uniform وأثار السؤال المثير للاهتمام المتمثل في القدرة على فهم الخصائص الحالية للكون نتيجة لتطوره المستمر، والذي يجب أن يكون قد بدأت منذ بضعة مليارات من السنين من حالة متجانسة homogeneous ذات كثافة ودرجة حرارة عالية للغاية”

إذًا عقيدتهم هي أن التطور الذي ينقذ الكون من هذه الفوضى الأولية وينظمه، ويرفعه تدريجياً إلى مستويات معقدة من تنظيم المادة، ينطلق التطور من الفوضى إلى النظام، من خلال تكوين هياكل منظمة بدأت مع أول وأبسط الذرات.
في الواقع، إن فكرة الانفجار الأولي والتوسع المنتظم اللاحق في جميع الاتجاهات تعبر بشكل جيد للغاية عن موضوع الدائرية circularity.
إن موضوع/مفهوم دورة الحياة مضمن في كل علم كونيات الانفجار العظيم، الذي يدعو إلى وجود كون له بداية، وتطور، ونهاية محتملة، على عكس علم الكونيات ذو الحالة المستقرة steady state، الذي يعتمد على موضوع الوجود المستمر، يقول لوميتر:

“إن عالمنا يحمل علامات شبابه، ويمكننا أن نأمل في إعادة بناء تاريخه”

المواضيع المنهجية مثل الانتواع differentiation والوتيرة الواحدة (ويسمى أيضًا: مبدأ التماثلية uniformity) متضمنة في النصوص، وقد تم توضيحها من خلال المناقشات حول تجزئة الطاقة ووحدة الخصائص الكونية المتنوعة، يقول لوميتر:

“انتقل العالم من المكثف (المادة) إلى المنتشر. إن الزيادة في الإنتروبيا التي تميز اتجاه التطور هي التجزئة التدريجية للطاقة التي كانت موجودة عند الأصل في حزمة واحدة. تحطمت ذرة الكون إلى أجزاء، كل جزء إلى قطع أصغر”.

بالإضافة إلى ذلك، فكرة أن كل التعدد والتنوع الذي نلاحظه في الكون يأتي من نوع من الوحدة الأولية، وأن جميع أجزاء الكون تظل متحدة بخصائص مشتركة خلَّفها تاريخ مشترك.
يقول جامو:

“إن الوفرة النسبية للأنواع الكيميائية المختلفة (والتي تبين أنها هي نفسها في جميع أنحاء المنطقة المرصودة من الكون) يجب أن تمثل أقدم وثيقة أثرية في تاريخ الكون”.

بالإضافة إلى ذلك، فإن موضوع التناهي finitude مهم في علم كونيات الانفجار العظيم، على الرغم من أنه ليس مميزًا تمامًا لأن بعض الجوانب، مثل التناهي المكاني، تظل أسئلة مفتوحة في علم الكونيات.
بشكل عام، يكشف التحليل عن المصفوفة المفاهيمية التي يقوم عليها علم كونيات الانفجار الكبير وأهميته في فهم الخطاب العلمي المحيط بأصل الكون وتطوره.

العناصر المفاهيمية المتنوعة المتشابكة مع مفاهيم ومبادئ علم كونيات الانفجار الكبير.
مثل الانتواع والوحدة unity، والذي لوحظ في النموذج الكوني للانفجار الكبير وفي الفكر البشري عبر التاريخ. يشير الانتواع إلى الميل نحو التعددية وظهور أنواع جديدة من وحدة أبسط multiplicity، بينما يمثل مبدأ الوحدة البحث عن الوحدة الكامنة والأصل المشترك والنظام الموحد الكوني الذي يمثل اكتشافه غاية الكمال لعقل الفيزيائي وكأنه شيطان لابلاس المنتظر..
هذه المواضيع متجذرة بعمق في التطور النفسي، والروايات الأسطورية، والمساعي العلمية. وسنرى في باقي المقال عدة مظاهر للوحدة والانتواع.

الحيلة الابستمولوجية نحو نظرية كونية موحدة شاملة:

أداة التنميط النظري unification تعبر عن سلوك ونهج يسير عليه منظري علوم الكونيات ويتمثل في السعي لدمج الظواهر المتنوعة في إطار نظري مفاهيمي موحد.
وكان هذا الموضوع محوريًا في تقدم العلوم الفيزيائية، والذي تجسد في شخصيات مثل أينشتاين، وقد أدى السعي إلى التنميط إلى تقدم كبير في الفهم العلمي، وهو يتماشى مع التقليد الموضوعي الذي يدعم علم كونيات الانفجار الكبير.
هذا التنميط الكوني هو جزء من التقليد الذي استمر منذ غاليليو، يحرك العلوم الفيزيائية، التوحيد “الوجودي/الأنطولوجي” للعالمين الأرضي والسماوي، وتعميم قوانين الحركة والجاذبية، وتوحيد الكهرباء والمغناطيسية، واكتشاف أن بضع عشرات فقط من العناصر تشكل كل التنوع المادي، وتوحيد الكتلة والطاقة، وتوحيد الكون. التفاعل الكهرومغناطيسي والتفاعل النووي الضعيف، وتوحيد التفاعل الكهرومغناطيسي مع التفاعل القوي، وفي الوقت الحاضر البحث عن نظرية يمكنها توحيد التفاعلات الأربعة الأساسية في الطبيعة – الكهرومغناطيسية، والقوية، والضعيفة، والجاذبية.
هذا النوع من التنميط unity يتماشى مع مبدأ الوحدة unity.
هذه الطموحات والحيل الابستمولوجية التي تساهم حثيثًا للوصول لتحقيقها تعبر بشكل عملي عن المسلمات الدهرية، الوتيرة الواحدة uniformity (التماثل الزماني في نوعية الأحداث وأنها كلها طبيعية يمكن اكتشافها من خلال دراسة الحاضر وقياس الماضي عليه بشكل كامل)، التماثلية homogeneity (وهي أن كل موجود مادي يشترك مع الموجودات الأخرى بخصائص جوهرية تجعله خاضع لقوانين الطبيعة بطريقة تدخله بشكل ما أو بآخر تحت النظريات العلمية).
و هذا النوع من القيم محبب و يتماشى مع البيغ بانغ لأنها تشير إلى الوحدة الأولية initial unity، والتي منها يأتي كل شيء عن طريق التطور لكن هذه المرة مبادئ التطور الدارويني في العلوم الكونية!.
بالإضافة الى أن مفهوم التطور يتماشى مع مبدأ دورة الحياة life cycle (بدايةثم تطور ثم نهاية) الذي كان موجودا منذ زمن اليونان، وهي محاولة لمنافسة تصورات أهل الأديان حول قصة الخلق ويوم القيامة لكن بشكل مستقل عن الوحي الإلهي.
وهذه الفكرة نراها في علم الثيرمودايناميكس في الكون الذي يتوسع إلى الأبد، ويفقد القدرة على توليد التعقيد والحفاظ عليه، وينتهي في حالة ديناميكية حرارية حيث لا يمكن أن يحدث أي شيء بعد الآن.
يوصف علم الكونيات الناتج عن الانفجار الكبير بأنه علم كوني تطوري، مرددًا تقاليد هيراقليطس الفلسفية ومدمجًا أفكارًا من التخصصات العلمية مثل علم الفلك وعلم الأحياء.
تشكل وتطور النظام الشمسي الذي اقترحه سويدنبورج ولابلاس وكانط في القرن الثامن عشر، أو علم الأحياء، مع نظريات التطور التي اقترحها لامارك وداروين في القرن التاسع عشر، ومع علم كونيات الانفجار الكبير، امتد التطور إلى الكون ككل، وامتد نطاق هذا التقليد التطوري للمعرفة العلمية حول الطبيعة.
ويعد موضوع التطور، الذي يشمل دورة الحياة وتطور التعقيد، أمرًا أساسيًا لفهم تطور الكون وفقًا لهذا النموذج الكوني (بيغ بانغ).
يتناول مفهوم الخلق أسئلة أساسية حول أصل الكون، والتي أثارت اهتمام البشرية لآلاف السنين. يدمج علم كونيات الانفجار الكبير هذا الموضوع من خلال تقديم تفسير طبيعي “علمي كما يسمونه” لبداية الكون، وبالتالي المساهمة في السعي المستمر لفهم وجودنا.
مبدأ حفظ الكتلة/الطاقة هو حجر الزاوية في الفيزياء الحديثة، يتبنى علم كونيات الانفجار الكبير هذا المبدأ، مؤكدًا أنه بينما يخضع الكون للتطور، فإن الكمية الإجمالية للكتلة/الطاقة تظل ثابتة. وهذا يتوافق مع الفكرة الموضوعية للثبات ويدعم مصداقية النموذج الكوني، وهذا المبدأ عليه اجماع من قبل العلماء على مر تاريخ العلم.
البساطة الأولية ذات قيمة في كل من الاستفسارات الفلسفية والعلمية، يفترض علم كونيات الإنفجار الكبير حالة من البساطة الأولية في بداية الكون، مما يساهم في جاذبيته من وجهة نظر معرفية، هي بساطة انطولوجية مما يسهل علينا توصيفه ابستمولوجيّا وتخيل تطوره بسيناريو طبيعي.
كذلك موضوع الدائرية circularity، الذي يرمز إليه بمفاهيم مثل الكرة والدائرة، متأصل بعمق في الإدراك البشري وعلم الجمال (و مصداق ذلك عند اليونانيين حينما وصفوا حركة الأجرام السمواية بأنها دائرية، عللوا ذلك بالجمال وأن هذا أكمل). في سياق علم كونيات الانفجار الكبير، تتجلى الدائرية في توسع الكون من نقطة واحدة وترتبط بمفاهيم الكمال والانسجام والوحدة.
بشكل عام، نؤكد على كيفية مساهمة العناصر المفاهيمية المختلفة، بدءًا من الانتواع إلى الدائرية، في تماسك وجاذبية علم كونيات الانفجار الكبير كإطار علمي لفهم أصل الكون وتطوره.
يتبع في الجزء الثاني..

Abdulkader Sabsabi

طالب علم، مهتم بالقضايا المعاصرة في فلسفة العلم و الإبستمولوجيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى